أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي: دراسة تاريخية وآراء إصلاحية

By محمد الطاهر بن عاشور حزيران/يونيو 30, 2025 39 0

يتناول كتاب «أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي: دراسة تاريخية وآراء إصلاحية»[1] للعلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور[2] موضوعًا محوريًّا في الفكر الإسلامي الحديث، وهو إصلاح التعليم في العالم العربي والإسلامي. فكتاب ابن عاشور الصادر قبل أكثر من قرن يُعنى بحصر أسباب تخلف نظم التعليم التقليدية وطرح رؤى إصلاحية شاملة لها. وقد أشارت إحدى المستجدات العلمية إلى أنّ دعوة ابن عاشور كانت من أوائل الدعوات الإصلاحية في العالم الإسلامي، وذلك في وقت لم تعد المعايير التعليمية تلبي تطلعات جيل النهضة التحريرية بل أصبحت سببًا في التخلّف الإسلامي. وقد قرن ابن عاشور بين نهضة التعليم وانتعاش الأمة؛ معتبرا أن صلاح التعليم من مقوّمات تفوّق الأمم، إذ "الخريطة" التعليميّة الصحيحة تصنع قادة صالحين للدين والدنيا.

وتكمن أهمية الكتاب في اتساع أفقه التاريخي ومنهجيته، فهو لا يكتفي بنقد واقع التعليم، بل يرسم خارطة شاملة لمسيرة المعرفة ومناهجها ومقرراتها عبر مختلف العصور الإسلامية. ومن هذا المنظور، يبرز الكتاب ذو قيمة تاريخية ومعاصرة، حيث تظل نتائجه وخلاصاته محلّ اعتبار حتى اليوم.

قسّم ابن عاشور كتابه إلى أبواب مترابطة تغطي تاريخ التعليم الإسلامي ومناهجه وأسباب تخلفه واقتراحات إصلاحه. نستعرض أهمها فيما يلي:

  • أزمة التعليم وأهداف الإصلاح: يبدأ الكتاب بطرح سؤال جوهري: لماذا نحتاج إلى إصلاح التعليم؟ يؤكد ابن عاشور ضرورة أن يعرف التلميذ من البدء غاية التعليم، فالغاية العليا منه -وفقًا له- هي إنشاء قادة الأمة وروّادها في الدين والدنيا. ويرى أن صلاح التعليم علامة تميّز الأمم وتقدّمها. في هذا الباب يقارن المؤلف واقع التعليم العربي بما يتطلبه تقدم "جيل النهضة"، مشيرًا إلى أن المناهج المتبعة آنذاك عجزت عن مواكبة حاجة الأمة ولا تزال سببًا في التخلف. كما ينتقد تنافس السلطة السياسيّة على العملية التعليمية وإعاقة انتقال المعرفة: يجادل بأن بعض الحكّام والدول عبر التاريخ حجبوا مناهج وآراء (مثلًا حصروا تدريس مذاهب معيّنة دون سواها) منعًا للنقد الفكري، وإن أثارت استخدامه لهذه الأمثلة النقد التاريخي.
  • التطور التاريخي للتعليم العربي الإسلامي: يجمع ابن عاشور في فصول تاريخية بين عصر ما قبل الإسلام والقرون اللاحقة. يعرض أولًا التعليم في عصور البشرية الأولى، وينتقل إلى عهد الإسلام المبكّر الذي حثّ على العلم قراءة وكتابةً، فأنشأ حلقات تحفيظ القرآن وتلقينه. يوضح كيف كانت ترجمة المعارف اليونانية في العهد العباسي نقطة تحول: فقد أدّت إلى نشوء صحوة فكرية ولكنها صاحبتها اضطرابات عقائدية (ظهور الفرق والمذاهب). يخصّص ابن عاشور فصلاً لأزمة «خلق القرآن» في عصر المأمون، فيبيّن كيف قاد هذا الجدل الكبير إلى مواجهة وعمل منهجي من قبل العلماء (مثلاً أبو الحسن الأشعري) للحفاظ على ثوابت العقيدة. كما يحدد تطورًا مهمًّا في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حيث دخلت العلوم العقلية والفلسفية بقوة، وازداد النقد العلمي حتى ترسّخت أصول الفقه ووسائل البحث العقلي. بعبارة أخرى، يتتبع ابن عاشور بطريقة شاملة مسار التعليم والمعرفة من النشأة الأولى للدين الإسلامي حتى العصور الوسطى، ضاربًا أمثلة على كيف تأثرت الأمة في تحوّلاتها الفكرية الكبرى بالتيارات الجديدة (كالعلوم اليونانية).
  • المنهاج وأساليب التعليم الإسلامية: يخصص الكتاب جزءًا موسعًا لعرض خصائص التعليم الإسلامي وأسلوبه عبر العصور. فيُبيّن ابن عاشور أن تعليم القرآن في البداية كان في المساجد وحلقات الذكر، ثم انتقل إلى "بيوت المعلمين" التي استخدمت أدوات مثل الألواح الخشبية لتعليم الكتابة وحفظ القرآن. يشرح نظام التعليم التقليدي بأنه كان منقسمًا إلى درجتين: التعليم الابتدائي (تعليم الحروف وقراءة السور القصيرة) في سن الصبا، والتعليم فوق الابتدائي (دراسة علوم الدين بعمق) للكبار. ويوضح كيفية سير الدروس (الجلسات) وأساليبها، مثل تدوين الطلاب ما يسمعه الشيخ، والجلوس والوقوف أثناء الدرس. يناقش كذلك معايير اختيار المعلمين وضبط المناهج والكتب المدرسية في كل عصر. ويتطرق إلى نشأة المدارس والمؤسسات العلمية في الإسلام، فيربط ذلك بالامتزاج الحضاري في العصر العباسي: فعند تأسيس الخليفة المنصور لـ«حلقة الطب» واشتغاله بالترجمة عُرفت أول نماذج «المدارس». ويشير ابن عاشور إلى أن ما يسميه البعض «جامعة بغداد» أو «جامعة قرطبة» كان في الحقيقة تنويعًا غربيًّا ترجم العلماء العباسيين به مفهوم تجمع العلوم؛ إذ لم تكن هناك جامعة واحدة، بل مجموعة مدارس ومراكز تعلم متخصصة. أخيرًا، يتناول الكتاب تعليم المرأة في الماضي، فيذكر أن الأمم التي دخلت الإسلام كانت تقتصر تاريخيًّا في التعليم الرسمي على الذكور، وأن النساء قبل العصر الحديث كنّ يتعلّمن غالبًا داخل بيوتهنّ من أقربائهن. ويلفت إلى استثناءات نادرة، كما في حال السيدة عائشة وأم الدرداء اللتين تلقّين فقهًا وتعليمًا خاصًّا.
  • انبثاث العلوم في الأقطار الإسلامية: يعرج المؤلف على انتشار المعرفة جغرافيًّا، فيخصص بابًا لنبذة عن التعليم في المغرب الأقصى وأفريقيا جنوب الصحراء والأندلس. يعرض باختصار كيف أصبحت المراكز العلمية في دمشق وبغداد مقرّات للعلوم بعد المهاجرين، ثم تطوّرت في الأقطار الأخرى على غرار ذلك. مثلاً يذكر دور أفريقية في العصور الأولى ودور الأندلس في حفظ العلوم بعد سقوط بغداد. ومن خلال هذا العرض يبرز كيف انطلق التعليم من الجزيرة العربية نحو أمصار المسلمين كلها، مما شكّل التراث العلمي للأمة.
  • أسباب تأخر التعليم ورؤى الإصلاح: في القسم الأخير ينتقل ابن عاشور إلى تشخيص أسباب تخلف التعليم في زمانه واقتراح معالجاته. يقسّم أسباب التأخر إلى قسمين: أسباب عامة متأصلة في حال الأمة، وأسباب متغيّرة مرتبطة بتحول نظم الحياة الاجتماعية ومتطلبات العصر. يشير إلى أن الحياة البسيطة للسلف كانت تساعد على التعلم، بينما في العصر الحديث "ضيق الوقت وكثرة العلوم" استدعى تغيّر المناهج وسبّب تخلفًا حين ظلّ التعليم جامدًا. ثم يستعرض نقاط ضعف النظام التعليمي (فساد المعلمين وضعف المؤلفات والمنهج العام) ويذكر سر ضعف نظم التعليم من ناحية التراخي في الثقافة العامة لدى الطلاب. وفي جزء «النظر في الإصلاح وترقية أفكار التلاميذ» يصف حالة التعليم في جامع الزيتونة وقوانين تعليمه آنذاك، وينقل تقارير تاريخية عن واقع التعليم والامتحانات. أما تحت عنوان «وجوه من الإصلاح» فيؤكد أن الإصلاح صار أكثر إلحاحًا يوم كثُرت العلوم وأصبح الوقت ثمينًا على المتعلم، لدرجة أن الداعية للحياة أصبح بحاجة لتعلم أكثر من تسع علوم رئيسية. ويختتم بعرض اقتراحات عملية لضبط التعليم: منها جعل الدراسة إلزامية، وتنظيم أوقات المدرسين والطلبة، وتحديد مقرّات التعليم، وتوزيع الطلاب على الدروس والمواد بشكل مناس؛ ففي فصلٍ خاص «إصلاح العلوم» يقترح ابن عاشور تقسيم العلوم إلى فئتين (علوم تثمر نواتج مرتبطة بموضوعاتها كاللغة، وأخرى تُستَخدم لاستنباط نتائج كالرياضيات والتاريخ)، ويفسّر كيف يمر العلم –على مستوى الأمة كما في الفرد– بأربعة أطوار: من التقليد، والتحليل، والبحث في علل المسائل، إلى النقد والتصحيح. وفي ختام الكتاب يعمد إلى تفصيل أسباب تخلف كل علم (التفسير، الحديث، الفقه، أصول الفقه، علم الكلام) متوقفًا عند الطوائف والمذاهب التي أثرت في كل منها. فتضيء فصول الكتاب في مجملها على نظرة تاريخية شاملة لمناهج التعليم العربية وتطورها، وعلى أهم المعوقات التي أرجع إليها ابن عاشور تخلف التعليم الإسلامي، إلى جانب تقديمه عدة محاور إصلاحية منهجية.

البعد الإصلاحي في الكتاب

إن رؤية بن عاشور التربوية والاجتماعية في «أليس الصبح بقريب» مترابطة مع فهمه لأسباب تخلف الأمة. فهو لا يرى في التعليم عملاً فرديًا جامدًا، بل مرتبطٌ بتحوّل أممي شامل. فهو يربط بين إصلاح التعليم ورفعة حال الأمة ومسؤوليتها في إقامة الإسلام. وقد لُوحظ أنه كان ملتزمًا برؤية إصلاحية منهجية؛ فكما يذكر مركز الدراسات في الجزيرة، كان ابن عاشور مدافعًا شرسًا عن تجديد المناهج التعليمية ومحاربة الجمود والانحلال الأخلاقي، بل ورَأَى مقاومة الاستعمار جزءًا من مسعاه التجديدي. ويمثّل الكتاب مدخلًا لمشروع إصلاحي كامل؛ فهو حمل شعلة التجديد عبر طرح منطلقاته التاريخية والتنظيمية. وهذا ما أشارت إليه الموسوعة العلمية في الجزيرة حين ذكرت أنه «مهّد في كتابه هذا لمشروعه الإصلاحي للتعليم بحديثه عن نشأة التعليم العربي وأطواره قبل الإسلام وبعده».

وتحفل صفحات الكتاب بعدد من الأفكار العملية الموجهة للإصلاح. نذكر منها ما ذكره المؤلف من مبادئ أساسية لتنظيم العملية التعليمية: وجوب تعميم التعليم وجعله إلزاميًا للجميع، والتنظيم الدقيق لأوقات المعلمين والطلاب، وتوزيع المواد العلمية على الطلاب بما يتناسب وأدوارهم، كما فصّل علاقة الطالب بالمعلم بحيث تحفّز على التعلم. كذلك فإن قسمًا بعنوان «وجوه من الإصلاح» يضع المؤلف فيه إطارًا عامًا لأهمية الإصلاح في العصر الحديث، ويؤكد أن كثرة العلوم وتنامي الحياة الاجتماعية جعل إصلاح التعليم "أشَدّ وجوبًا" من أي وقت مضى. وضمن رؤية الشمولية لديه، يعرض أيضًا تصوّره لإصلاح مجمل العلوم من حيث منهاجها وهيكلها.

بذلك يقدّم الكتاب رؤية تربوية اجتماعية واضحة: فابن عاشور يربط بين الإيمان السليم والعلم النقي، ويرى أن ترقية المناهج وتحريرها من الجمود هو السبيل إلى إحياء الأمة. وتظهر مقترحاته اهتمامًا بالجوانب التربوية والعامة، لا التخصصية فقط، كما تؤكد القراءة التحليلية لمحتواه. وفي هذا السياق، توافقه دراسات معاصرة في التأكيد على ضرورة تنشيط الفكر النقدي والإبداعي لدى الطلاب، واتباع نهج إصلاحي شامل لا يعتمد فقط القرارات الصادرة من أعلى. بإيجاز، يُبرز "أليس الصبح بقريب" الأبعاد الإشراقية في إصلاح التعليم: فهو رؤية تربوية شاملة تربط المنهجية التعليمية بأخلاقيات الأمة وبنائها الاجتماعي.

قدم العلامة بن عاشور تأريخًا مدققًا في هذا الكتاب لمسيرة التعليم العربي الإسلامي وتحليلاً عميقًا لأزماته وسبل إصلاحه. تناول المؤلف تطورات المعرفة وأساليبها عبر العصور، كما حدد أهم أوجه الضعف في النظام التربوي القديم ورسم أركانًا لإصلاحه. من نقاط قوة الكتاب ثراء مادته التاريخية وشموليتها ورؤيته الإصلاحية الوطنية المتفائلة، والتي تربط بين إصلاح المناهج وحال الأمة ككل. والكتاب بلغة أكاديمية محكمة نسبيًا، معتمِدًا على منهجية سردية تحليلية متوازنة بين عرض الوقائع والنقد. ولئن وُجِد في بعض المقاطع انحياز للدعوة المذهبية أو إغفال للعوامل الخارجية (كالتأثير الاستعماري؛ وهو ما أشار إليه بعض المراجعين)، فإن ذلك لا ينكر قيمة العمل في السياق التاريخي لكتابه.

 

رابط تحميل الكتاب

 

 

[1] محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي: دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، القاهرة: دار السلام للنشر والتوزيع والترجمة؛ مؤسسة دار سحنون للنشر والتوزيع، الطبعة الأولي، 2006م.

[2] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (تونس 1879–1973) هو أحد أبرز علماء تونس والعالم الإسلامي في العصر الحديث. ولِد في عائلة عريقة من علماء المالكية أصولها أندلسية. حفظ القرآن في الصغر، وتدرّب على يد كبار شيوخ جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية، فتعلم العلوم الشرعية وتعلّم الفرنسية أيضًا. عمل ابن عاشور كمدرّس في جامع الزيتونة والمدرسة الحديثة (الصادقية)، وقد أكسبته خبرته المبكّرة في التعليم التقليدي والمعاصر وعيًا حادًا بضرورة "ردم الهوة بين الأصالة والمعاصرة والشروع في إصلاح التعليم" في تونس. تقلد مناصب قضائية ودينية مرموقة: عُيّن عضوًا في لجنة إصلاح التعليم بالزيتونة (مرات عدة منذ 1910)، ثم مفتياً مالكياً وكبير مفتين (1923) ليتولّى بعدها منصب شيخ الإسلام المالكي وشيخ جامع الزيتونة. عرف ابن عاشور بـجَرْأته على السلطة وسخريته من الظلم، واشتهر بعبارته الشهيرة «صدق الله وكذّب بورقيبة» احتفاظًا بمبدئه الثابت. وترك مؤلفات قيّمة في علوم الشريعة وأصول الدين واللغة: من أبرزها «التحرير والتنوير» في التفسير، و«مقاصد الشريعة الإسلامية» في أصول الفقه. وكُتب عنه أن كتابه «أليس الصبح بقريب؟» مهّد فيه لمشروعه الإصلاحي للتعليم عبر حديثه عن نشأة التعليم العربي وأطواره قبل الإسلام وبعده.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الإثنين, 30 حزيران/يونيو 2025 15:58

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.