يُعتبر كتاب "مدخل إلى أصول التمويل الإسلامي" للدكتور سامي إبراهيم السويلم من الأعمال الرائدة في مجال التمويل الإسلامي، ويُمثل محاولة علمية طموحة لوضع الأسس المنهجية لعلم التمويل الإسلامي من خلال ربط الأصول الشرعية بالتحليل الاقتصادي المعاصر.
وُلد هذا الكتاب من رحم دراسة كانت استجابة لطلب مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، الذي سعى إلى تطوير مذكرة تدريسية متخصصة في التمويل الإسلامي. يأتي العمل امتدادًا لإصدارات المركز السابقة حول الاقتصاد الجزئي والكلي والمالية العامة، لكنه يركز تحديدًا على المفاهيم الجوهرية المرتبطة مباشرة بقضايا التمويل، دون إغفال صلاتها بالجوانب الاقتصادية الأوسع.
ويستهدف الكتاب بشكل أساسي أساتذة الجامعات والمحاضرين المكلفين بتدريس التمويل الإسلامي، مفترضًا تمتعهم بخلفية كافية في أصول الفقه والمعاملات، ولذلك، تجنب المؤلف التفصيلات الفقهية الفرعية، مكتفيًا بالتركيز على الأصول الكلية والمنهجيات الأساسية، داعيًا القارئ إلى الرجوع للمصادر التقليدية والمعاصرة لاستكمال التفاصيل. ويهتم الكتاب بشريحتين رئيسيتين، هما: أصحاب التخصصات الاقتصادية، وأصحاب التخصصات الشرعية. حيث صُمم خصيصًا للفئة الأولى، مفترضة إلمامهم بمبادئ الاقتصاد التقليدي. هذا التوجيه يفسر اعتماد لغة تحليلية تربط المفاهيم الشرعية بنظيراتها الاقتصادية الحديثة، كتحليل "مصيدة السيولة" عبر أدوات الزكاة.
يبرر المؤلف اختزاله نطاق الكتاب في الحاجة الملحة لسد فجوة منهجية، فالمصادر التفصيلية متوفرة بكثرة، لكنها تفتقد الإطار المنهجي الذي يربط الأصول الشرعية بالتحليل الاقتصادي المعاصر، وكان هذا البحث محاولة لتنظيم المفاهيم ضمن نسق متماسك، فهذه الدراسة محاولة لوضع حجر الأساس لرؤية منهجية تجيب عن السؤال الأهم: لماذا حرّم الإسلام الربا؟ وكيف يشكل التمويل الإسلامي نظامًا متكاملًا؟"، وتظل الدراسة وثيقة تأسيسية تُعيد تعريف التمويل الإسلامي من كونه "مجموعة صيغ بديلة" إلى كونه فلسفة اقتصادية متكاملة تقوم على الحكمة التشريعية والتوازن المجتمعي.
محاور الكتاب:
يبدأ الكتاب بتفكيك المفارقة المركزية في الدراسات المعاصرة: الفصل الاصطناعي بين "الاقتصاد" و"التمويل"، على حين أنهما في الرؤية الإسلامية وجهان لعملة واحدة. هنا يقدم السويلم فكرته الجوهرية: التمويل الإسلامي نظام متكامل تقوم أركانه على التوازن بين النشاط الربحي وغير الربحي، حيث لا تكتمل الصورة بفهم صيغ المرابحة والسلم دون إدراك دور الزكاة وأعمال البر في استقرار المنظومة المالية.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى تحليل الأبعاد الأخلاقية التي تميز الاقتصاد الإسلامي، فبدلًا من الصراع بين الفردية والجماعية في النظريات الغربية، يقدّم مفهوم "اقتصاد الأخوة" القائم على قيم التعاطف والتخصص معًا، ويستند هذا التحليل إلى نصوص شرعية مثل حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، مع تطبيقات عملية تبين كيف تحل الشريعة معضلات اجتماعية كـ"مفارقة التعميم" التي عجزت عنها النظريات الوضعية.
الصيغ والعقود في التمويل الإسلامي
العقود الأساسية: يتناول الكتاب الصيغ المختلفة للتمويل الإسلامي، كالمرابحة والإجارة والسلم والاستصناع. ويوضح أن جميع أساليب التمويل في الشريعة الإسلامية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بعقد من العقود الحقيقية.
المرابحة وضوابطها: يُفصل الكتاب في أحكام بيع المرابحة، موضحًا الشروط الواجب توافرها لجواز هذا النوع من التمويل. من هذه الشروط أن يملك البنك السلعة ويقبضها قبل أن يبيعها على العميل، وألا يأخذ البنك مقدمًا من العميل في مرحلة الوعد.
الإجارة المنتهية بالتمليك: يتناول الكتاب أيضًا موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك، موضحًا الضوابط الشرعية لهذا النوع من العقود. يُبين أن الضابط في الجواز هو وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر، وأن تكون الإجارة فعلية وليست ساترة للبيع.
العقود المركبة والمستحدثة: يناقش الكتاب أيضًا العقود المركبة أو المولدة التي نجمت عن وجود مؤسسات الوساطة المالية الإسلامية. هذه العقود تتطلب دراسة دقيقة لضمان توافقها مع الأصول الشرعية.
النظام المالي الإسلامي كبديل شامل
التكامل بين القطاعين الربحي وغير الربحي: يُؤكد الكتاب أن التمويل الإسلامي نظام متكامل لا يقتصر على القطاع الربحي فحسب، بل يشمل أيضًا المؤسسات غير الربحية كالزكاة والوقف والصدقات. هذا التكامل يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
دور الزكاة في النظام الاقتصادي: يُوضح الكتاب أن الزكاة ليست مجرد عبادة فردية، بل هي جزء لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الإسلامي. فهي تعمل على إعادة توزيع الدخل وتوفير السيولة النقدية، كما تُحفز على الاستثمار وتمنع اكتناز الأموال.
الضمان الاجتماعي والتكافل: يُبين الكتاب كيف يحقق النظام الإسلامي التكافل الاجتماعي من خلال مؤسسات متنوعة كالزكاة والوقف والصدقة. هذا التكافل يضمن حماية الطبقات الضعيفة ويمنع تراكم الثروة في يد فئة قليلة.
التحديات المعاصرة والحلول المقترحة
التحذير من الحيل الربوية: يختتم الكتاب برسالة نقدية عمادها أن التمويل الإسلامي ليس بديلًا شكليًا للربا، بل فلسفة متكاملة تقوم على اندماج رأس المال بالعملية الإنتاجية. وينذر من تحويله إلى "حيل ربوية" عبر منتجات كالتوريق المنظم.
الحاجة لإحياء المؤسسات غير الربحية: يدعو الكتاب إلى إحياء المؤسسات غير الربحية كصمام أمان للنظام المالي. فهذه المؤسسات تلعب دورًا حيويًا في ضمان الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
مواجهة التطورات المعاصرة: يناقش الكتاب كيفية مواجهة التطورات المالية المعاصرة من منظور إسلامي. فمع اتساع حركة التجارة العالمية والتطورات التقنية، تحتاج المؤسسات المالية الإسلامية إلى تطوير منتجات تتوافق مع الشريعة وتلبي احتياجات العصر.
يختتم الكتاب برسالة نقدية عمادها أن التمويل الإسلامي ليس بديلًا شكليًا للربا، بل فلسفة متكاملة تقوم على اندماج رأس المال بالعملية الإنتاجية، وينذر من تحويله إلى "حيل ربوية" عبر منتجات كالتوريق المنظم، داعيًا إلى إحياء المؤسسات غير الربحية كصمام أمان للنظام المالي.
في القسم الأخير، يغوص المؤلف في الأصول التشريعية العملية، مظهرًا براعة في الربط بين النصوص الشرعية والتحليل الاقتصادي الحديث، فيشرح كيف يعالج نظام الزكاة "مصيدة السيولة" (Liquidity Trap) أفضل من السياسات الضريبية التقليدية، ويكشف بالأرقام (كجدول مديونية الولايات المتحدة ص 43) كيف يولد الربا "هرمًا مقلوبًا للديون" يهدد الاستقرار الاقتصادي، كما يحلل "الغرر" باستخدام نظرية الألعاب (Game Theory)، مبرهنًا أن عقود التأمين التجاري هي صورة معاصرة للمقامرة المحرمة.
لتحميل ملف الكتاب
* سامي السويلم، مدخل إلى أصول التمويل الإسلامي، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت: الطبعة الأولي، 2013م.
** خبير اقتصادي سعودي مرموق، يشغل منصب نائب مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، ويُعد أحد أبرز رواد التمويل الإسلامي المعاصرين، حيث جمع بين التأصيل الشرعي والتحليل الاقتصادي الحديث عبر بحوثه المؤثرة. وكتابه هذا "مدخل إلى أصول التمويل الإسلامي" يُعتبر مرجعًا مهما في كشف الحكمة التشريعية لضوابط المعاملات المالية.