يعد كتاب "منهج عمر بن الخطاب في التشريع: دراسة مستوعبة لفقه عمر وتنظيماته"* للأستاذ الدكتور محمد بلتاجي** مرجعًا فريدًا يجمع بين الاستقصاء التاريخي والتحليل الفقهي؛ فهو يتتبع جميع الوقائع التشريعية بدءًا من وفاة النبي ﷺ وحتى وفاة عمر رضي الله عنه، ثم يقسمها إلى موضوعات: (المنهج والنصوص)، و(تطبيق النصوص الخاصة في الأموال والحدود والزواج والميراث والمتفرقات)، و(الاجتهادات التنظيمية والإدارية)، و(المقررات والنتائج المستخلَصة) ليستخلص "الخطة العقلية" التي اعتمدها عمر في اجتهاده الشرعي وتنظيم الدولة بما يراعي مقاصد الشريعة والمصلحة العامة.
وتنبع أهمية هذا الكتاب من الفجوة البحثية التي استهدف ملأها، إذ إن الكثير من الدراسات السابقة تناولت شخصية عمر بن الخطاب من زوايا متعددة: فهناك من كتب عن عدالته القضائية، وهناك من درسوا فتوحات جيوشه، وآخرون اهتموا بتنظيماته الإدارية ودواوينه، بينما اقتصر البعض على جمع السير والروايات دون تأصيل فقهي. إلا أن هذه الدراسات ظلت جزئية ولم ترتقِ إلى مستوى ربط جميع هذه الوقائع بخطةٍ تشريعيةٍ متكاملةٍ تُبيّن الأسلوب والضوابط التي استند إليها عمر رضِي الله عنه في إصدار أحكامه وتنظيم شؤون المسلمين. وقد أحدث الدكتور بلتاجي في بحثه نقلة نوعية بدمجه بين الاستقصاء التاريخي والتحليل الفقهي الدقيق، ثم استخلص "المنهج" أو "الخطة العقلية" التي اعتمدها عمر في تطبيق نصوص القرآن والسنة وتحقيق مقاصد الشريعة.
وتتسم منهجية الكتاب بالتركيز على مقاصد الشريعة ومبادئها السامية. فقد أظهر عمر بن الخطاب فهمًا عميقًا منه بأنّ الغاية من التشريع الإسلامي هي رفع الحرج وتخفيف المظالم وتحقيق النفع للناس، دون الانحراف عن نصوص الكتاب والسنة. وقد تجلّى ذلك في تعليق حد السرقة أثناء المجاعة، وتعليق بعض الحدود لتلافي الضرر الأكبر، ووضع ضوابط لمنع احتكار الأقوات والتسعير لأجل تأمين الغذاء للناس. وفي الوقت نفسه حافظ على احترام النصوص، مُلتزمًا بظواهرها ما لم توجد أدلة على تعارضها مع مقاصد الشريعة أو المصالح العامة.
وكان أول ما قام به الباحث هو تجميع كل ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مصادر موثوقة في كتب الفقه والتاريخ والحديث والتراجم والتفسير، ثم فحص هذه الروايات بمنهج نقدي دقيق. ولم يترك المؤلف نفسه لتتأثر بالمشاعر أو المديح العاطفي لصالح شخصية عمر، وإنما جعل الوقائع هي الفاعل الأساسي في توجيه التحليل، فقارن بين الروايات المتناثرة، وفضَّل ما تكرَّر منها وتوافق مع مقاصد الشريعة على ما جاء في روايةٍ معزولة. ومن أبرز ملامح منهجه أيضًا تجاوزُه للتقسيمات الجامدة بين التخصصات؛ إذ رأى أن التشريع الإسلامي في عهد عمر كان شاملًا لكل جوانب الحياة، فلا يقف عند الفقه وحده، بل يمتد إلى جوانب الاقتصاد والإدارة، والقضاء والجوانب الاجتماعية وغيرها.
ينقسم الكتاب إلى تمهيد وأربعة أبواب رئيسية وخاتمة. في التمهيد، يُعرِّف المؤلف القارئ بشخصية عمر بن الخطاب وعبقريته وعلاقته الوثيقة بالشريعة الإسلامية، مستعرضًا الظروف التاريخية التي أتاحتها وفاة رسول الله ﷺ والتي أعدّت بيئة ملائمة لولايته المشرّفة. ويبرز في هذا الجزء كيف كانت شخصية عمر تتميز بمزيج من الحزم والشجاعة والورع، وكيف ربط هذه الصفات جميعًا بالاجتهاد الشرعي في خدمة مصلحة الناس الذائعة.
أما الباب الأول فمعنون بــ"المنهج والنصوص"، وقسمه المؤلف إلى قسمين رئيسين. في القسم الأول، يحدد الباحث مفهوم "التشريع" بالنسبة للبشر على ضوء كونه منزلًا من الله، ويتبين كيف تعامل عمر مع هذا المصطلح إزاء حصره ضمن إطار تفسير النص لا تصنيفه. ويتناول المجال الزمني للدراسة، فيحدد الفترة ما بين وفاة النبي ﷺ عام ثمان للهجرة ووفاة عمر عام ثلاثة وعشرين للهجرة. ثم يقوم بدراسة رسالتي القضاء المنسوبتين لعمر، ووبيان مدى صلاحيتهما كأساس لبناء منهجه في التشريع.
وينتقل المؤلف في القسم الثاني من الباب الأول إلى طرق إثبات النصوص وروايتها، فيعرِّج أولًا على التزام عمر بن الخطاب بنصوص الكتاب والسنة واهتمامه بظواهرها، ثم يناقش مناهجه في التحقق من صحة أحاديث السنة وكيفية ضبطها. ولا ينسى الباحث موقفه من تدوين السنة وما أثير حول تردده الأولي خوفًا من الابتداع، ثم قبوله لتدوينها لاحقًا حاجةً وتوثيقًا. وأخيرًا يناقش حالات نسيان بعض آيات القرآن في مواقف محددة، مع تفسير الأسباب والظروف التي صاحبتها.
وخصص المؤلف الباب الثاني، بعنوان "تطبيق النصوص الخاصة"، لدراسة الوقائع التي وردت فيها نصوص شرعية صريحة، فقسمها الباحث إلى خمسة أقسام: تناول القسم الأول مسائل الأموال بتنظيماتها المتنوعة، كمسألة الأرض المفتوحة التي حرّم عمر تقسيمها جبريًا واعتبرها وقفًا للناس، ومسائل المؤلفة قلوبهم وهبة الأرض وإحياء الموات والإقطاع وحقوق الصوافـي وصرف خمس الغنائم وزكاة العسل وضبط احتكار الأقوات والتسعير وتضمين الصناع. ثم استفاض في القسم الثاني ببحث فلسفة العقوبة في الإسلام وأهدافها، ثم وقف عند واقعة تعليق حد السرقة في عام المجاعة كمثالٍ على اجتهادٍ مقاصديٍ تحفظيٍ واجه أهوال الأزمة، وناقش أيضًا إسقاط حد الزنا في حالات إنسانية، وضبط عقوبة شرب الخمر، وجواز القتل على الجماعة بالواحد وشروطه، والعفو الجزئي عن الدماء في مسائل الصلح.
أما القسم الثالث فاختصّ بالزواج والطلاق، فوقف عند حكم نكاح المتعة وموقف عمر منه، وحصر قضية الطلاق الثلاث بلفظ واحد وحكمه بالحرمة، وناقش التزوج من أهل الكتاب وشروط هذا الزواج. وخصص القسم الرابع لدراسة مسائل الميراث، مثل أحكام المشتركة والكلالة والجد مع الأخوة وميراث الأبوين مع الزوجين والأخت مع البنت ونظام العول عند نقص التركة. ثم اختتم الباب الثاني بتناول مواضيع عدة: من متعة الحج وتنظيم قيام رمضان إلى إجلاء غير المسلمين من شبه الجزيرة العربية ووصاية أمهات الأولاد.
وألقي الباب الثالث الضوء على ما لم يخصص له نص خاص، أي الاجتهادات التنظيمية والإدارية التي ابتكرها عمر. فاستعرض المؤلف كيفية جمع القرآن وتنظيم مصاحف المسلمين، ثم اختيار التاريخ الهجري كتقويم رسمي، وفرض ضريبة عشور التجارة، وإنشاء ديوان للأموال لضبط الإيرادات والنفقات، ووضع ضوابط المفاضلة في العطاء، واستحداث الوظائف والنظم الإدارية للدولة، وتنظيم سياسة الأمصار مع ولاة الإسلام، إضافة إلى بيان موقف عمر بن الخطاب من نظام الشورى والبيعة والاستخلاف.
وكرّس د. بلتاجي الباب الرابع لاستنباط "المقررات والنتائج" العامة التي تعكس "الخطة العقلية" لعمر في التشريع. فناقش فيه موقف عمر رضي الله عنه من النصوص الملزمة والظاهرة والعامة والخاصة، وكذلك مبادئ الاجتهاد ورأي أبي بكر الصديق واجتهادات الصحابة، ووقف المؤلف عند معايير القياس والتأويل ومساحة الاجتهاد وطريقته، فضلًا عن دور الإجماع وحدوده. كما عرض المؤلف نظرية عمر بن الخطاب في المصلحة العامة والخاصة ومسألة سد الذرائع والتعزير، ويبين كيف اعتمد على الدليل القطعي "القرينة" في إثبات الأحكام. وخصص المؤلف جزءًا مهمًا في هذا الباب لمفهوم الاستخلاف في الملكية والمسؤولية الجماعية، مع تحليل كلمات عمر الشهيرة في تقسيم أموال الأغنياء على فقراء المهاجرين. ولم يغفل المؤلف أيضًا عن عناصر الإنسانية التي تميز بها عمر، مثل مراعاته للمساواة في العقيدة وعطشه للعدالة وسعيه لتيسير قضايا الناس.
اختتمت الدراسة بخاتمة لخص فيها الباحث رؤيته العامة للبحث وأهم ما توصل إليه من نتائج، مؤكدًا القيمة المعاصرة لاستخلاص منهج عمر في مواجهة مشكلات الحياة اليوم، ومرونته في التعامل مع المستجدات. كما ناقش بعض النقاد والباحثين الذين تناولوا موضوع الدراسة، مبرزًا نقاط الاتفاق والاختلاف معهم.
رابط تحميل الكتاب
* أصل الكتاب رسالة ماجستير نال بها المؤلف درجة "ممتاز" من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1966م. وصدرت هذه الطبعة عن دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م.
** الدكتور محمد بلتاجي حسن (1939–2004م) هو فقيه أصولي مصري بارز، وأكاديمي متميز بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة. تربى في بيئة علمية شرقية، تفوق أكاديميًا منذ سنواته الأولى، وأصبحت أبحاثه مرجعًا في الفكر الفقهي المقارَن، خاصة في مجال التشريع الإسلامي، وُلد الدكتور محمد بلتاجي حسن في محافظة كفر الشيخ من أسرة عُرفت بالعلم والورع، فقد كان والده من علماء الأزهر المتخصصين في التفسير والحديث. تخرّج من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1962م بترتيب الثالث على دفعته، ثم نال درجة الماجستير بامتياز عام 1966م عن بحثه "منهج عمر بن الخطاب في التشريع"، فالدكتوراه عام 1969م، ثم تدرّج في المناصب الأكاديمية حتى أصبح رئيسًا لقسم الشريعة الإسلامية وانتُخب عميدًا لكلية دار العلوم ثلاث دورات متتالية بين 1986 و1995م. عرف عنه المنهجية الصارمة في البحث والاستقلالية في الفكر، فدمج بين الفقه والتاريخ وأصول التشريع في دراساته، وأشرف على أكثر من مائتي رسالة علمية، وأثرى مكتبة الفقه الإسلامي بكتبه مثل: "منهج عمر بن الخطاب في التشريع"، و"مناهج التشريع في القرن الثاني الهجري"، و"مكانة المرأة في القرآن والسنة". نُوِّه بعمله وحصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1985م، وكان مثالًا للالتزام العلمي والهدوء الشخصي حتى وافته المنية في أبريل 2004م.