في كتابه «نحو دستور إسلامي»*، يستلهم العالم الجليل أ. د. محمد سيد أحمد المسير** جهدًا امتدّ على أكثر من ربع قرن، ليقدّم رؤيةً متكاملة لصياغة دستورٍ عصري ينبع من الشريعة الإسلامية ويستجيب لمتطلبات الدولة الحديثة. وقد انطلق المشروعُ في مرحلته الأولى بتكليفٍ وتوصيةٍ من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف عام 1397هـ (1977م)، حيث صاغت الأمانة العامة للمجمع مسودةً أولى عرضت على مؤتمر المجمع التالي ونشرتها مجلة الأزهر، قبل أن يتوقف العمل بها. ثم أعاد الدكتور المسير إحياء الفكرة بتوسيع الدراسة التعليقية على نصوص المشروع، وإثراء أبوابه التسعة، ومواده الثلاث والتسعين، بإضاءاته الفقهية والفكرية الخاصة، فجمع في نسخته النهائية بين الصيغة المؤسسية التي أرساها الأزهر واجتهاده العلمي الشخصي، ليصير لدينا دستورٌ مقترحٌ يستلهم روحه من ثوابت الشريعة ويواكب روح العصر ومتغيراته.
صدرت الطبعة الثالثة من كتاب «نحو دستور إسلامي» للدكتور محمد سيد أحمد المسير (أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعتي الأزهر وأم القرى) في أبريل 1995م (ذو القعدة 1415هـ)، عن الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية–الأزهر الشريف ومجلة الأزهر، وضمّت نحو 350 صفحة من القطع الكبير، وجُمعت فيه جهود المؤلف واجتهاده الشخصي على تسعة أبواب تضمنت 93 مادة دستورية، جاعلة منه مرجعًا متكاملاً لصياغة دستور إسلامي عصري.
يشرح الدكتور المسير في مقدمته أن فكرة الكتاب مرت بثلاث مراحل أساسية:
- المرحلة الأولى (مؤسسية) عام 1977، عندما أوصى مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بوضع دستور إسلامي نموذجي ليكون مرجعًا لأي دولة ترغب في تطبيق الشريعة. أُنجز المشروع عام 1978 تحت إشراف الإمام الأكبر عبد الحليم محمود، ونُشر في مجلة الأزهر عام 1979، لكنه أُهمل رغم شموليته.
- المرحلة الثانية (صحفية) عام 1991، حيث ردّ الدكتور المسير عبر سلسلة مقالات في "الأهرام المسائي" على محاولة المستشار سعيد العشماوي صياغة دستور إسلامي، مُحييًا مشروع الأزهر. توقفت المقالات فجأة بحجة أن مصر "دولتها إسلامية"، لكنها أثارت اهتمامًا دوليًا.
- المرحلة الثالثة (أكاديمية) بين 1993–1995 أثناء إعارته لجامعة أم القرى بمكة، حيث أعاد صياغة الكتاب كردّ على هجمات العلمانيين والماركسيين، مكتملاً بشرح تفصيلي لمواد الدستور.
في مقدمة الطبعة الثالثة يفتتح الدكتور محمد سيد أحمد المسير حديثه بالتأكيد على أن الأمة الإسلامية لاتزال في أمسّ الحاجة إلى دستور يستلهم مبادئ الشريعة حيّةً وفاعلةً في حياة المسلمين المعاصرة. يبرز المسير أن صياغة دستور إسلامي عصري لا تعني مجرد إعادة صياغة نصوص قرآنية وحديثية، بل هي جسر يربط بين هدي الوحي ومتطلّبات الدولة الحديثة، بما يكفل حقوق الإنسان وحفظ كرامته ويعزّز مسيرة الحضارة والرقي. وفي هذا الإطار يشير إلى أن نظم التقاضي الحديثة تتطلّب نصوصًا دستورية واضحة تقنن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتضع قواعد عادلة للفصل في النزاعات.
وحرص المؤلف على دعوة الأمة إلى الاجتماع على كلمة سواء، تعرف لله قدسيته، وللوطن حرمته، وللناس كرامتهم، وللحياة أمنها، وللأمة حضارتها، وللعالم كله السلام والتعاون، وقد جاء في مقدمته:
"فما زالت الحاجة ملحة إلى دستور إسلامي يحفظ للأمة حقوقها، ويعبر بها إلى آفاق الرقى والحضارة وبخاصة في هذا الوقت الذى يتنادى فيه الحاكم والمحكوم بتعديلات دستورية لمصرنا المحروسة، وإذا كان المسلمون طوال عصورهم التاريخية قد احتكموا إلى القرآن العظيم والسنة المطهرة مباشرة نظرًا لوجود المجتهدين الأفذاذ الذين يستنبطون الأحكام والقوانين من هذين المصدرين المعصومين، إلا أن النظام الحديث يجعل الشعب والحاكم يخضع كل منهما لمواد دستورية تكون فيصلا فيما شجر بينهم، وبما يحقق التواصل ومسيرة الخير والنماء للأمة، كما يجعل نظام التقاضي قائمًا على مواد قانونية يحاول القاضي تكييف الوقائع التي ترد إليه وفق هذه المواد، ومن هنا فإن علماء المسلمين لم يدخروا وسعا في تقنين الشريعة وصياغة المواد الدستورية، وقد ظلت الشريعة الإسلامية زهاء ثلاثة عشر قرنًا من الزمان هي المطبقة في مصر منذ الفتح الإسلامي إلى أن ظهرت المحاكم المختلطة سنة ۱۸۷٥م، وجاء القانون الفرنسي تحت وطأة الزحف الأوربي والتدخلات الاستعمارية، وصدر دستور سنة ۱۹۲۳م لينص على أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ولكن انحصرت أحكام الشريعة في الأحوال الشخصية، ولما عزمت الحكومة سنة ١٩٤٧ على تعديل القانون المدني رفع الاتحاد العام للهيئات الإسلامية في مصر خطابًا إلى الملك السابق فاروق يناشدونه تطبيق الشريعة الإسلامية، ثم جاء دستور سنة ۱۹۷۱م ونص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.. وقام علماء الأزهر والمخلصون من رجال القانون بجهد ممتاز لتقنين الشريعة وصياغة مواد الدستور.. وهذا الكتاب ثمرة من هذه الثمار الطيبة المباركة".
أما موضوعات أبواب وفصول الكتاب فكانت كالتالي:
- في الباب الأول -الذي جاء تحت عنوان "الأمة الإسلامية"- يقدم الكتاب تصورًا شاملاً لأبعاد الأمة الجامعة، مبينًا ضرورة وحدة صفِّها وتضامنها، ومشدّدًا على أن انتماء الفرد للأمة هو الأساس الذي تبنى عليه الحقوق والواجبات، بحيث يُنظر إلى الأمة ككيان حيّ يتفاعل مع المتغيرات ويصوّب مسيرته وفق منهج إسلامي راسخ.
- ينتقل الكتاب في الباب الثاني -المعنون "أسس المجتمع الإسلامي"- إلى استعراض المبادئ التي يقوم عليها النظام الإسلامي، من حكم الإسلام دينًا ودستورًا إلى القيم الأخلاقية والتربوية والاجتماعية التي تنسج خيوطَ الحياة العامة؛ فتظهر المادة الخامسة مثلاً لتنص على نبذ الظلم والعدوان، والمادة السادسة لتحفظ كرامة الإنسان وحرمة المعتقد، مع توجيه خاصٍّ لتفعيل تعاليم العدل والمساواة.
- أما الباب الثالث -الذي جاء بعنوان "الاقتصاد الإسلامي"- فقد خصصه المؤلف لوضع إطار تشريعي ينظّم علاقة المال بالدين، فيستعرض مبادئ الزكاة والوقف والوصايا والتجارة المشروعة، ويناقش الحظر الإسلامي للربا والصرف والتضامن الاجتماعي عبر نظم التوزيع والإنفاق العام؛ ليضمن الكتاب أن يكون الدستور محفّزًا للاقتصاد العادل القائم على التكافل.
- وفي الباب الرابع – الذي عنونه المؤلف بـ "الحقوق والحريات الفردية"- يعرض الكتاب تصورًا إسلاميًا للحقوق، مبينًا أنها ليست امتيازات تُمنح، بل هي أماناتٌ محفوظة في الشريعة، تشمل حق الحياة والحرية والكرامة والأمن والتعليم والعمل، مع الالتزام بمبدأ المساءلة وإقامة العدل دون تمييز بين الأفراد.
- يركز الباب الخامس -المعنون: "الإمام على المسؤولية القيادية في الدولة الإسلامية"، على بيان شروط اختيار الحاكم ومواصفاته، وحقوقه وواجبه في الحكم، وطريقة تولّيه وتنحيه، كل ذلك ضمن ضوابط دستورية تحمي الأمة من التعسف والجهوية، وتحقّق مبدأ البيعة والشورى.
- وأما الباب السادس: "القضاء"، فقد خصّصه المؤلف لإظهار دور القضاء الإسلامي في تحقيق العدالة، فحدّد الكتاب تركيبة المحاكم واختصاصاتها وإجراءات التقاضي، مع حماية حقوق الخصوم وضمان استقلالية القاضي ومنع التدخّلات، استنادًا إلى المواد التي تؤسّس القضاء على هدي الكتاب والسنة والإجماع.
- ثم يأتي الباب السابع عن "الشورى والرقابة وسن القوانين" ليبيّن الآليات التي تُتيح للأمة المشاركة في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، فخصص موادّ لتشكيل مجالس شورى منتخَبة أو منبثقة عن عُلوم الشرع، وبيّن أساليب الطعن في القوانين ومراجعتها ضمانًا لمطابقتها لأحكام الشريعة.
- وفي الباب الثامن: "الحكومة"، يضع المؤلف إطار عمل السلطة التنفيذية، فحدّد أركانها وتنظيمها وعلاقاتها بمؤسسات الدولة الأخرى، مع التشديد على أن تكون الحكومة نِظامًا فعالًا يَلتزم بمبادئ الشفافية والمساءلة والحياد، ويعمل لخدمة المصلحة العامة.
- وأخيرًا، يعالج الباب التاسع -تحت عنوان "الأحكام العامة والانتقالية"- الأمور التي لا بُدّ من تنظيمها في مرحلة التأسيس، مثل سريان الدستور على القوانين القائمة وإجراءات إصدار القوانين التنفيذية، إضافةً إلى قواعد انتقالية تهيئ الأمة لتحمل مسؤولياتها الدستورية.
وختامًا،
يُعدّ كتاب «نحو دستور إسلامي» للأستاذ الدكتور محمد سيد أحمد المسير إسهامًا فكريًا وتاريخيًا رائدًا في محاولة بلورة رؤية متكاملة للدولة الإسلامية المعاصرة، وقد تميَّز هذا المشروع بقدرته على جمع ثوابت الشريعة ومقاصدها مع متطلبات العصر؛ إذ صاغ المؤلف مبادئ حماية الكليات الخمس وتحريم الربا وغيرها من القواعد الشرعية الصريحة في قالب دستوري حديث يتناغم مع نظم الحكم والقضاء الراهنة، مما يجعله قادرًا على مواجهة تحديات السياسة والاقتصاد والمجتمع دون التفريط في المبادئ الأساسية. ومع ذلك، إلا أن اعتماد الكتاب على بعض الأمثلة والتطبيقات التي كانت تصلح في سياق الثمانينيات والتسعينيات، قد يستدعي تحديثًا دوريًا ليتلاءم مع التطورات القانونية والسياسية الحديثة. كما أن الإطار النظري للكتاب يظل بحاجة إلى مرونة أكبر تسمح بتكييفه مع خصوصيات المجتمعات المتنوعة وغير المتجانسة خارج النموذج المصري. ورغم هذين القيدين النسبيين، يظل «نحو دستور إسلامي» مرجعًا أساسيًا لمن يرغب في استنباط دستور إسلامي متوازن يحافظ على ثوابت الشريعة العربية والإسلامية، وفي الوقت نفسه يفتح الآفاق أمام تجربة دستورية مدنية قادرة على الصمود أمام تحديات العصر.
رابط تحميل الكتاب
وللاطلاع على مقال تعريفي بالدكتور محمد المسير سبق أن نشره موقعنا:
العالم الدكتور محمد سيد أحمد المسير- صاحب كتاب “نحو دستور إسلامي”
* صدرت الطبعة الأولى من كتاب "نحو دستور إسلامي" للأستاذ الدكتور محمد سيد أحمد المسير عام 1994م عن دار الشروق، وصدرت الطبعة الثالثة منه عام 2008م عن مكتبة الإيمان بالقاهرة.
** الدكتور محمد سيد أحمد المسير (1948–2008)، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعتي الأزهر وأم القرى، ولد الدكتور محمد سيد أحمد المسير عام 1948 في أسرة أزهرية عريقة، إذ نشأ في بيت علمي؛ حيث كان والده الأستاذ الدكتور سيد أحمد المسير وجده لأمه من كبار علماء الأزهر. أتمّ المسير حفظ القرآن في سن مبكرة، وتفوّق دراسيًا فحصل على المركز الأول في الشهادة الإعدادية (1964)، ثم في الثانوية الأزهرية (1969)، وحصل على درجة “ممتاز مع مرتبة الشرف” في البكالوريوس من قسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين–القاهرة (1973)، ثم نال الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة الأزهر (1978). عُيّن أستاذًا مشاركًا ثم رئيسًا لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بفرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة، وأستاذًا للعقيدة والأديان بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وانتدب للتدريس في جامعتي قناة السويس والإسماعيلية، وعمل مستشارًا لوزير الأوقاف المصري (1992)، بالإضافة إلى نشاطه التدريسي في معهد الإذاعة والتلفزيون ودورات الأئمة، وعضوياته في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة اختيار قراء القرآن بالتلفزيون المصري، ولجان جائزة الملك فيصل العالمية، وعمله عميدًا لمعهد إعداد الدعاة بالمطرية. شارك في الجمعية الفلسفية المصرية، وترجمت بعض كتبه إلى الإندونيسية والماليزية والألبانية، كما مثل مصر في مؤتمرات دولية عدّة في القاهرة ومكة والرياض ومسقط وأبو ظبي وبغداد والكويت وبيروت وطهران والجزائر وموسكو والعاصمة الكازاخية آستانا وطشقند وباكو وعشق آباد وتيرانا، متوجّهًا برسالة علمية شرعية عبر الفضاءات المحلية والدولية حتى وفاته عام 2008.