"ضمير العالم الإسلامي في زمانه، والشاهد لقرنه، الفقير إلى ربه مالك بن نبي، 1323-1393".
(عبارة مكتوبة على قبر مالك بن نبي).
ألَّف فيلسوف الحضارة مالك بن نبي الجزء الأول من كتابه "مذكرات شاهد للقرن" باللّغة الفرنسية عام 1965م، وعَنوَنَه «الطفل»، حيث يروي فيه مذكراته في الفترة بين 1905 و1930م، وصدرت طبعته الأولى عام 1966، ثم ترجمه الدكتور (عبد المجيد النعنعي) إلى اللغة العربية، ونشره عام 1969م، بينما ألَّف بن نبي الجزء الثاني من الكتاب باللّغة العربية مباشرة عام 1969م، تحت اسم «الطالب»، والذي يروي فيه مذكراته في الفترة بين 1930 و1939، وطُبع للمرة الأولى عام 1970.
كما أفرجت ابنة مالك بن نبي (رحمة) فيما بعد عن جزئين إضافيين من تلك المذكرات طُبعا تحت إشراف أ. نور الدين بن قروح، أولهما تحت عنوان "الكاتب" (وغطى الفترة من عام 1940م- 1954)، وثانيهما تحت عنوان الدفاتر (والتي غطت الفترة من عام 1958 حتى وفاته عام 1973)، ليصبح كتاب شاهد للقرن عبارة عن "مجموعة" من أربعة أجزاء: (الطفل، الطالب، الكاتب، الدفاتر)، تغطي فترة حياة مالك بن نبي كلها عدا سنوات أربع (من عام 1954- 1958) حيث فقدت مذكراته عن تلك الفترة حتى الآن على الأقل.
ويضاف إلي تلك المذكرات كتاب آخر روى فيه مالك مذكراته كذلك (وتنشره [دار حكاوي] رفق هذا الكتاب وكتب أخرى لمالك) وهو كتاب "العفن"، والذي ألَّفه قبل مذكرات شاهد للقرن بخمسة عشر عامًا (تقريبًا)، وبالتحديد عام 1951، وهو الكتاب الذي لم ينشر إلا مؤخرًا (عام 2007م)، وجاء في قسمين: "الطالب"، و"المنبوذ"، وقد جاء فيه أسلوب بن نبي متسمًا بالحدة وباستخدام ألفاظ لم يعتدها القارئ من مالك، معبرًا عن غضبه الشديد لما عاناه في تلك الفترة من وطأة الضغوط الشديدة التي سببها له تحالف الاستدمار/ القابلية الاستدمار (العَفِن) ضده.
وقد قارن تلميذ مالك ومحاميه الذي استأمنه على أوراقه وكتاباته الوزير اللبناني السابق عمر كامل مسقاوي في كتابه "في صحبة مالك بن نبي"- بين "مذكرات شاهد للقرن" و"العفن"، وخلص إلى أن شاهد القرن، كان حصاد مرارة مالك في جزائر ما بعد الثورة، وأن كتابه "العفن" في الجزائر "المستدمرة"، حصاد مرارته من الاستدمار الفرنسي.
والواقع أن الإحاطة الكاملة بسيرة مالك بن نبي تستوجب، ليس فقط الاطلاع على كتابيه "مذكرات شاهد القرن" و"العفن"، بل تقتضي كذلك مراجعة ما ذكره في بعض كتبه وأوراقه الأخرى من وقائع حدثت له في حياته، مثلما روى في كتابيه: "تأملات" و"الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، بل وتستلزم الاطلاع كذلك على كتاب بالغ الأهمية صدر فيما بعد تحت عنوان "وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي" للدكتور رياض شروانة، والدكتور علاوة عمارة، (طبعة أولى عام 2021م، وطبعة ثانية مزيدة عام 2022م)، وهو الكتاب الذي تناول -كما هو واضح من عنوانه- ما يمكن أن نعتبره سردًا لحياة مالك بن نبي من منظور أجهزة الأمن والمخابرات الفرنسية التي تابعت مالك بن نبي في كل أحواله، في الجزائر وفي فرنسا!
وهذا الأمر يتطلب -في الحقيقة- إجراء دراسات مقارنة مستقلة يتتبع فيها الباحثون كل ما رواه مالك بنفسه من أحداث تخص سيرة حياته، في مذكراته وفي غيرها من مؤلفاته، وما نطقت بشأنه وأوردته وثائق الأرشيف الوطني الفرنسي، مع الحذر من الفهم السطحي المتعجل لما ورد بتلك الوثائق بشأن مالك، وهو الأمر الذي نبه الباحثان اللذان أعدا الكتاب الذي يضم تلك الوثائق إلى ضرورة تجنبه، وأوردا فيه أمثلة لوقائع محددة يتعين الحذر في التعامل معها وعدم التعجل في فهمها أو فصلها عن السياق التي حدثت فيه.
على أية حال، تنتمي "مذكرات شاهد للقرن" -محل هذا التقديم- إلى التأريخ للأفكار ومراحل توليدها، مع الالتزام كذلك بالتأريخ لتفاصيل الحياة الشخصية للكاتب ذات الصلة بتكوينه وتشكيل رؤيته ومشروعه الفكري، وهي في هذا أقرب إلى السيرة غير الذاتية (أي التي لا تسرد تفاصيل حياة صاحبها التي لا تفيد القارئ بل تركز على الأحداث التي عايشها وأثرت في تشكيل شخصيته وقناعاته) غير الموضوعية (أي غير المنفصلة عن صاحبها وتحيزاته الفكرية والقيمية) -على حد تعبير د. عبد الوهاب المسيري في وصف مذكراته هو الشخصية-، ونستشرف هذا بمجرد الاطلاع على تقديم مالك للكتاب، والذي طلب فيه أن يتخيل القارئ أن هذا الكتاب كان كتابًا تركه "صدّيق" له بجواره وهو يصلي العصر في المسجد في قسنطينة، طالبًا من القارئ أن يتقبله على أنه "أفكار جزائري أراد أن يتحدث إليه من وراء حجاب محتفظًا باسمه لنفسه".
ومن خلال هذه المذكرات نتعرف على تكوين مالك بن نبي، وخطوات تشكل اهتماماته ومشروعه الفكري، حتى إن القارئ يستطيع أن يرى في ثنايا حياة مالك طفلًا وطالبًا -كما رواها في هذا الكتاب- بذور تفكيره التي أثمرت فيما بعد كتبه ومحاضراته وندواته المختلفة، فضلًا عن التعرف على السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي والنفسي الذي أحاط بمالك وأسهم في طرحه وتأسيسه لهذا الفكر العميق الذي لا تزال أمتنا في حاجة إلى تفعيله والمراكمة عليه.
فقد ولد مالك في مرحلة تاريخية بالغة الصعوبة؛ وقعت فيها غالبية دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال العسكري الأوروبي، حيث تقاسمت بريطانيا وفرنسا العالم الإسلامي فيما بينها، دون أن تحرم إيطاليا وألمانيا وإسبانيا وهولندا من بعض الغنائم، ووجد مالك بلده الجزائر محتلا من الفرنسيين منذ عام 1830م، أي قبل مولده بحوالي خمسة وسبعين عامًا، كما عايش إلغاء الخلافة الإسلامية رسميًا عام 1924، حيث لم يكن مالك قد تجاوز عمره تسعة عشر عامًا تقريبًا.
وقد انعكس ذلك الأمر على قلب مالك وعقله، فَكَرِهَ الاستدمار حتى من قبل أن يعاين بنفسه ظلمه وجرمه، وذلك من خلال استماعه -عبر جدته- لحكايات جدة أمه التي عايشت الغزو الفرنسي للجزائر، عما فعله الفرنسيون ببني وطنه وببناته، من مجازر ومذابح يُندى لها الجبين، فضلًا عما رآه من حال أُمُهِ وفقرها المدقع وتضحياتها بالغالي والثمين لأجل إطعامه وتعليمه، وهو الفقر الذي أدرك مالك بالتدريج أنه من فعل الاستدمار وعملائه.
كما عاين مالك -وكَرِهَ بشكل أكبر- مقدار تخلف بني وطنه (الأهالي الأصليين أو الإنديجين -أهالي المستدمرات الفرنسية- كما سمَّاهم المستدمرون الفرنسيون) واستسلامهم -إلا قليلًا- لتلك الحالة من الانهيار العقَدِي والفكري والنفسي والأخلاقي والاقتصادي، والتي أودت بهم إلى استبطان العجز عن مقاومة الاحتلال، ورؤيتهم لأنفسهم بأنهم أضعف منه، وأنه يتفوق عليهم في كل شيء، وأن الاحتلال قدر إلهى لا ينبغي الاعتراض عليه! ومن ثم مكنوا له وسهلوا من مهمته في استنزافهم وثرواتهم، فقعدوا عن العمل الجدي تجاه التحرر والنهوض، بعد أن افتقدوا للوعي وللروح ولفاعلية عقيدة التوحيد التي سبق أن انتشلتهم من تلك الحالة وأهَّلَتهُم لريادة العالم.
هكذا علم مالك الداء، الذي سماه "الاستعمار والقابلية للاستعمار"، فآل على نفسه أن يبذل جهده ووقته وكل ما يملك في محاربته، حيث سنرى في هذه المذكرات كيف استحال -رويدًا رويدًا- إلى مناضل وكاتب وناشط سياسي وفيلسوف ومصلح اجتماعي ومُعَلِّم ومفكر، وهو في كل ذلك شاهد لله قائم بالقسط في مواجهة الجميع؛ مستدمَرين ومستدمِرين، تقدميين ومحافظين، شيوعيين ورأسماليين، مسلمين ويهود ومسيحيين وملحدين، سياسيين وطلبة وعمال..، عملاء بالاتفاق أو بالانغلاق، دراويش ومدعي الإصلاح النفعيين!
والذي يثير الإعجاب -والتعجب في الوقت نفسه- أن مالكًا ظل هكذا صلبًا قابضًا على جمر دينه وقيمه مبادئه رغم أنه حارب لأجلها أعداء لا قدرة لبشر على الاستمرارية في محاربتهم، حتى إن القارئ لهذه المذكرات قد يتصور أحيانًا أنه لا يقرأ لبن نبي بل يقرأ لنبي!
لقد حارب مالك بن نبي قوى مهولة على مدى حياته -كما يظهر من مذكراته بصفة عامة، وهذه المذكرات بصفة خاصة- كان على رأسها احتلال معروف بشراسته وبإجرامه وبدهائه، ظل مالك مسكونًا دومًا بمطاردته له، وبأنه يلاحقه ويضيق عليه ويحاصره هو وأسرته، منذ أن تعرف عليه في أول محاضرة ألقاها مالك على الطلبة المغاربة في الحي اللاتيني بباريس في شهر ديسمبر 1931م، بعنوان "لماذا نحن مسلمون؟"!، مرورًا بمحاولات المستشرق ماسينيون -المتعاون بمكر ودهاء مع السلطة الاستدمارية- تجنيده لمصلحة الاستدمار، وحرمانه من الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية كما كان يحلم، ومنعه حتى من الحصول على شهادة تخرجه كمهندس كهربائي فيما بعد، والوقوف ضد محاولاته للحصول على عمل مناسب لمؤهله ولمقامه، فضلًا عن نقل أبيه من عمله، والذي أدى فعليًا إلى تقاعده في بيته بلا عمل مبكرًا، للضغط على مالك، والتضييق على أسرته بشكل عام!
انظر إلى رد فعل مالك: "كنت أتأثر من هذه المحن التي بدأت تنصَبّ على أهلي بسببي، دون أن أغيّر سلوكي بسببها، بل كانت الأحداث نفسها تزيدني تصلّباً وتحدّياً في نظر الإدارة الاستعمارية"!
وقد كان البعض قد شكك في مصداقية مالك وفي صحة اعتقاده بملاحقة الإدارة الاستدمارية له، ولكن التاريخ أنصفه مؤخرًا حين كشفت الوثائق الفرنسية (التي نشرت في كتاب "وثائق مالك بن نبي..." المشار إليه من قبل) عن صدق كل ما شعر به مالك ولمسه من تتبع الاستدمار له، فقد أحصوا عليه كل أنشطته وكتاباته، سواء في الجزائر أم في فرنسا، بل وحاولوا استمالته وتوظيفه لحسابه كما وظف غيره، ولكن مالك ظل ثابتا كالجبال، مقاتلا له ولعملائه حتى النهاية.
وحين تأملت في صمود مالك وفي إصراره العجيب على الانتصار لمبادئه ضد من يخالفها أيًا كان، وعدم التراجع عنها أبدًا رغم حصاره وإفقاره ومحاولات التحقير منه ومن كتاباته (حتى من بعض هؤلاء الذي وهب حياته للدفاع عنهم وعن حرياتهم وكرامتهم!)، ورغم أن شغله الفكري يقتضي الصفاء الذهني والاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وجدت أن هذا الصمود مرجعه إلى قوة عقيدة مالك الدينية واستقامته الأخلاقية، وقوة كراهيته للاستدمار وللقابلية له، وإلى إيمانه بنفسه وبرسالته، فضلا عن ذكائه الحاد وقوة شخصيته وإرادته الفولاذية واستقلالية فكره وتحرره، وتأثير ثقافته العميقة المتنوعة التي جنبته اهتزاز الثقة بالنفس والانسحاب أمام الظروف الصعبة والآلام، متجنبًا مصير صديقه وأستاذه "حمود بن الساعي" الذي كان أقوى فكريًا من مالك -باعترافه- ولكنه "كان يعاني حالة عدم اتزان مشؤوم يجمع بين طموح جبار وإرادة واهية، فقد كان طموحه يعرقله عن العمل المشترك الخاضع للإرادتين، وضعف إرادته يعطله عن العمل الفردي المتواصل" على حد ما وصفه صديق مالك-، فلم يتحمل مكر ماسينيون وشراسة الاستدمار، ولم يكمل دراسته للدكتوراة في جامعة السوربون، وانزوى وانعزل عن الناس ثلاثين عامًا حتى مات وحيدًا شريدا لا يشعر به أحد (رحمه الله وقيض لعلمه من ينشره وينفعنا به)!
هذه الطباع والصفات منحت مالك القدرة على الدراسة والتحليل لكل ما يراه أمامه، كما وهبته الإنصاف والتركيز على الأولويات ووضع كل شيء في موضعه، فهو -على سبيل المثال- حين ذهب إلى باريس ذهب محملا بهموم أمته، وبكراهية من صادروا حاضرها وعرقلوا نهضتها، فلم يذهب إلى باريس سائحًا، بل دارسًا متأملًا محللًا لسر قوتها وأسس بناء حضارتها، ولم يتوقف كثيرًا أمام هذا العري والانفلات الجنسي الذي أحاط بمنطقة سكنه في باريس، ولم يفتتن بمظاهر التقدم، ولا حتى بالنظر إلى ما يمكن استيراده من منتوجات تلك الحضارة وتكديسها، بل نظر بعمق في جامعاتهم وفي قدراتهم العلمية والعملية المذهلة، ولمس أن هذا هو سر تقدم هؤلاء على المسلمين، دون أن يقع فيما وقع فيه نظراء له من الافتتان بالغرب، أو التحقير لمنجزاته، بل تأمل أحواله كجندي مقاوم يدرس مكامن قوة المعتدي ونقاط ضعفه، ليتمكن من صد عدوانه والتحرر من هيمنته.
كما لم يفتتن مالك بماضي أمته العريق فيذهل عن واقعها الغريق، بل درس بإمعان عوامل تقدمها في الماضي ثم تقهقرها إلى ذيل الأمم، دون أن يوقعه هذا في براثن الإحباط، بل جعل من هذا التقهقر دافعًا له ليبحث ويتأمل عسى أن يجد علاجًا أكثر نجاعة وأشمل، وظل هذا هاجسه طوال حياته، بل والأعجب أن هذا ظل شاغله حتى فيما بعد مماته، فألف كُتبًا للمستقبل أجّل نشرها إلى ما بعد وفاته!، فكأنه لم يقدم لحياته فقط، بل قدم لحياة أمته كذلك!
وقد يظن البعض أن سيرة مالك بن نبي تنتمي إلى الماضي ولم تعد لها تلك القيمة الكبرى التي كانت، بعد أن تغيرت الظروف والأحوال، ونال المسلمون والعرب الاستقلال، وحكموا أنفسهم بأنفسهم، والحقيقة أن السياق الذي نعيش فيه لا يختلف كثيرًا عن السياق الذي عاش فيه مالك بن نبي؛ فالاستدمار "رحل ليبقى" -على حد تعبير أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح-، وغاية ما في الأمر أنه قد غير جلده، وبات يعتمد على السيطرة عن بعد عبر استخباراته وعملائه الذين نصبهم لحكم البلاد المستدمرة، كما أنه يستعمل القوة عند الحاجة لذلك، سواء بنفسه، أم عبر ذراعه في المنطقة (الكيان الصهيوني)، فضلًا عن أنه استعاض عن احتلال الأرض باحتلال العقل والإرادة، بينما القابلية للاستدمار ترسخت أكثر، وما أخذه مالك بن نبي على "الأهالي" من صفات جلبت المستدمر ومكنت له، ازدادت رسوخًا، حتى بات الذين تتلمذوا على كتابات بن نبي وتبنوا أفكاره، يعملون الآن على مقاومة تحول هؤلاء العوام إلى أنعام لا يهمها سوى تحصيل طعامها وشرابها وإشباع شهواتها المادية، كما يجتهدون في محاربة "التغريب التطوعي"، واستخدام اللهجات العامية في الكتابة بدلا من العربية، وعدم اعتبار الخيانة "وجهة نظر" يُحترم أصحابها، فقد انتشر تلامذة ماسينيون وبات صوتهم أعلى من صوت مالك بن نبي وصدى مؤلفاته القيمة وصرخات تلاميذه!
ويبدو أن المشكلة كانت في أن من يقرأ مذكرات مالك كان يحشرها في عصرها دون أن يدرك أن الأزمة مستمرة ومستعرة، وأنه لا خلاص إلا بالاقتداء بهذا الرجل في سيرته وفي تركيزه على جوهر هذه الأزمة، إنها أزمة حضارة أفلت لم تعد ترى طريق النجاة، وأزمة النفس قبل أن تكون أزمة المتسلطين (من الخارج ومن الداخل) وجشعهم وجبروتهم وظلمهم، ولا حل لتلك الأزمة إلا بما فعله مالك وعاشه في حياته وسجله في كتاباته، الإصرار على المقاومة الحضارية، وتحدي كل العوائق والعراقيل، والبُعد عن "السياسة" المخادعة والشخصنة والشعبوية، وقيادة الأمة نحو قيامها بواجباتها لأجل التخلص من تلك الهاوية المعقدة، هاوية التخلف والجهل والقابلية للاستخفاف والاستعباد.
ولذلك، فنحن لا نزال في حاجة إلى قراءة تلك المذكرات، بعين المريض الذي يحتاج إلى الدواء، ولن نجد في هذا أفضل من الاطلاع الجاد على سيرة مالك بن نبي وأمثاله من مفكري الأمة المخلصين الأفذاذ، وأقربهم إليه من وجهة نظري المفكر البوسني علي عزت بيجوفيتش، حيث نشأ كذلك في ظل هيمنة الفكر الغربي والاحتلال اليوغسلافي، وانسحاق المسلمين واستسلامهم أمام تلك الهيمنة، فناضل فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا، مثله مثل مالك بن نبي، وإن لم يحققا هدفهما كاملًا إلا أنهما أحدثا هزة عنيفة في الوجدان الحضاري الإسلامي، وقدما -ومعهما عبد الوهاب المسيري مثلًا-، نموذجًا عمليًا، للمفكر الإنساني الرسالي المناضل، الذي لم ينسحق لأعدائه، وظل عصيًا على التوظيف لصالحهم، بل ظل جنديًا مخلصًا لأمته شاهدًا على أزمتها وقائمًا بالقسط ينضم إلى قائمة المصلحين الصادقين الذين احترقوا لأجل النهوض لأمتهم ولم يُخترقوا أبدًا لحساب أعدائها!
والمقصود بالاطلاع الجاد هو النظر إلى تلك السيرة المالكية نظرة تأمل ودراسة وتحليل تبتغي استخراج ما يمكن أن نستفيده منها في حاضرنا -الذي أشرنا من قبل أنه لا يختلف كثيرًا عن حاضر مالك بل ازداد انحدارًا-؛ فكم تغنى الكثيرون بمالك وبسيرته وفكره -ولا يزالون- دون أن يتجاوزوا تلك المرحلة لبيان كيفية الانتفاع بما قدمه فعلا والبناء عليه، ولذلك لم تستفد الأمة من مالك بن نبي بعد حق الاستفادة، بدليل أن العالم الإسلامي ازداد تخلفًا، وأن الحركات الإصلاحية الإسلامية ظلت تظن أن الحل سياسيًا (بالمعنى الضيق)؛ ينحصر في اعتلائها للسلطة والمحافظة عليها مهما كانت التنازلات، متوهمة أن مشكلة الأمة ليست فكرية ولا أخلاقية ولا حضارية بل أزمتها فقط تنحصر في عدم قيام الدولة الإسلامية أو الدولة المدنية بمرجعية إسلامية، وليس في عدم التركيز على استنهاض الأمة -أفرادًا وجماعات- لإعادة تشييد الحضارة الإسلامية!
لقد كشف مالك مبكرًا عن أمراض النخبة الإسلامية في عصره، والتي لم يلمسها الكثيرون إلا في الفترة التالية لثورات الربيع العربي (أي بعد وفاة مالك بما يقرب من أربعين عامًا!)، حتى إن القارئ لهذه المذكرات سيجد أوصافًا قد يظن أن مالك يصف بها تلك النخبة في هذه الفترة، ومن ذلك مثلًا مقولاته تلك:
- "لا أدري إن لاحظت- ولكن كان بإمكاني أن ألاحظ من هذه المناسبة- أن النخبة الإسلامية قد استولى عليها حب الظهور في المراتب السياسية، فقد أهملت المشكلات الرئيسية التي يواجهها العالم الإسلامي اليوم، بينما لو كان لهذه النخبة نصيب من الإدراك والنزاهة والتواضع لحلت تلك المشكلات منذ ثلاثين سنة. ولكن القوم كانوا يتصارعون على أن يصبحوا (زعماء) و(أبطال) المعارك الانتخابية، فسلكوا بشعوبهم ملتويات السياسة ومنعرجاتها بدعوى أنهم يختصرون الطريق، في حين أنهم زادوا في طولها".
- "إذ كان رأيي السياسي قائمًا على مبدأ، لم يتغير، بل أكدته الأيام، هو أن نظامًا اجتماعيًا ما، لا يقوم إلا على نظام أخلاقي، حتى إن تلك المظاهرات الصاخبة لم تكن تغويني، بل على العكس كنت أظنها عقيمة ومضرة عندما تعطي لعقول غير مهيأة الفرصة لمعارك وهمية وبطولات تمثيلية".
- "إن الظروف السانحة وضعت العلماء أمناء على مصلحة الشعب، فسلموا الأمانة لغيرهم لأنهم لم يكونوا في مستواها العقلي، وسلموها لمن يضعها تحت أقدامه لتكون سُلمًا يصعد عليه للمناصب السياسية".
- "ولم يكن في استطاعة العلماء مواجهة هذا التيار، لأنهم بادئ ذي بدء لا يشعرون به ولا يؤيدون من يشعر بخطورته، فقد كانوا يفضلون من يخون عهدهم ويرضي غرورهم، على من يخلص لهم وينقد سلوكهم".
- "ولكنها صخرة (سيزيف) يرفعها إلى القمة، فتسقط مرة أخرى في الهاوية السحيقة. كذلك أصبح ضمير الجمهور الجزائري لا يرتفع في لحظة موفقة إلى مستوى المشكلات الحيوية، دون أن يهوي مرة أخرى في الثرثرة والمظاهرات، بتأثير جاذبية الظهور، جاذبية مُحكمة يجيد الاستعمار تسليطها على الحركات الناشئة لتعكس اتجاهها إلى أسفل. ولم يكن العلماء على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف، ولم يكن لديهم من حدة المزاج وصرامة الإرادة ما يكفي حتى يتداركوا الموقف. وربما كان هذا السبب الأول في فتور علاقاتي بهم، ولسوء التفاهم بيننا فيما بعد".
هذه المقولات الكاشفة كان من شأنها إن تم الالتفات إليها والإيمان بصحتها وبصدقها، أن تسهم في تجنيبنا إجهاض ثورات الربيع العربي وفقدان النخبة بصفة عامة -علمانية وإسلامانية- لثقة الجماهير كما فقدت من قبل ثقة مالك بن نبي نفسه، إذ كان التركيز لن ينصب على الدولة بل على المجتمع، كان سيتركز على الاستقلال الحضاري لا على الإصلاح السياسي عبر الانتخابات وحدها، كما كان سيقضي على الغفلة عن أزمات مجتمعاتنا الفكرية والأخلاقية.
وليس عندي تفسير حاسم للذهول عن أهمية هذه المذكرات لتغيير واقعنا، ولكن ظني أن مالكًا لم تكن له جماعة تدعمه وتحميه، وكانت عقليته النقدية الحادة وصراحته غير المسبوقة وصرامته في الدفاع عن أفكاره أسبابًا في انفضاض النخبة المثقفة [أو المثيقفين على حد تعبيره] السائدة من حوله، بل وتجاهله والتعمية عليه، وكأنها أرادت بالفعل -عن غير قصد- التصديق العملي لمقولات مالك بن نبي عن تحالف الاستدمار والقابلية للاستدمار ضده!
ولهذا أختتم هذه المقدمة بالدعوة إلى إعادة قراءة تلك المذكرات بإمعان، قراءة واعية غير متحزبة أو متعصبة -حتى لمالك نفسه الذي لم يتحزب أبدًا لأحد إلا لدينه ولحضارته ولوطنه ولقيمه ومبادئه- والاسترشاد بتلك المذكرات -وبمثيلاتها من المؤلفات والأدبيات المخلصة والعميقة والجادة- في إعداد خطة شاملة للإصلاح الفكري والأخلاقي والثقافي والسياسي والاقتصادي للأمة، دون التعويل على قوى الاستكبار العالمي والمحلى التي ثبت تكرارًا ومرارًا عدواتها للحضارة الإسلامية ولمرجعيتها، وإصرارها على تطويعها واستعبادها، وعرقلة نهوضها بكل السبل.
د. حازم علي ماهر
10/9/2024م
رابط تحميل الكتاب
(ننشر نسخة الكتاب كاملا مع المقدمة ... هدية من الموقع بالترتيب مع دار النشر)
* مقدمة أحدث طبعة من كتاب "مذكرات شاهد للقرن" الصادرة عن دار (حكاوي) بالقاهرة، عام 1445ه/2024م، والتي ننشرها رفق هذه المقدمة لأول مرة على الشبكة.
** رئيس تحرير موقع "حوارات الشريعة والقانون": https://hewarat.org/.