شرفتني دار "حكاوي"، بطلب تقديم هذا الكتاب المهم للمفكر الجزائري مالك بن نبي "وجهة العالم الإسلامي- المسألة اليهودية"**، وهو ما أعاد إلي ذكرى طيبة عندي، حيث كان أول بحث لي عن هذا المفكر الملهم، كان كلفني بكتابته د. هانئ محيي الدين عطيه (رحمه الله) للموقع الأكاديمي التابع لموقع إسلام أون لاين، ولم أكن قد قرأت لمالك من قبل في الحقيقة، فلما شرعت في قراءة كتابه "شروط النهضة" اكتشفت أنني أمام مفكر غير عادي، فالتهمت كل كتبه المنشورة حينها -تقريبًا-، وظللت حوالي ستة أشهر لا أفعل شيئًا سوى القراءة له وعنه، فلما أنجزت البحث عرضته على أستاذنا الدكتور جمال الدين عطية (رحمه الله) للتكرم بإبداء ملاحظاته عليه فإذا به ينشره فورًا في مجلة المسلم المعاصر بعد استئذان د. هانئ، ومنذ ذلك الحين وأنا لا أكتب بحثًا أو دراسة أو أؤلف كتابًا وإلا واستندت لفكر مالك بن نبي، صراحة أو ضمنًا!
والكتاب موضوع هذا التقديم هو الجزء الثاني من كتاب "وجهة العالم الإسلامي"، والذي كان مالك قد نشر الجزء الأول منه فور انتهائه منه، بينما أرجأ نشر الجزء الثاني على الرغم من أنه انتهى من تأليفه في 22 يناير 1952، فلم يُنشر في حياته بناء على وصيته، رغم أنه عاش بعد تأليف الكتاب ما يزيد على عشرين عامًا (توفي مالك في عام 1973م)، فلم ينشر هذا الكتاب إلا في يناير 2012م، أي بعد ستين عامًا من تأليفه.
ويبدو أن الأستاذ عمر المسقاوي -الذي استأمنه مالك بن نبي على كتبه- رأى أن الوقت المناسب لنشر هذا الكتاب هو وقت انتفاضات الشعوب العربية فيما سمي بثورات الربيع العربي، والتي بدأت بانتفاضة الشعب التونسي في ديسمبر 2010م، ثم تبعته الشعوب الليبية واليمنية والمصرية والسورية والبحرينية، فكأنه بذلك -على ما يبدو لي- اعتقد أن هذه اللحظة هي التي كان ينتظرها مالك بن نبي لإطلاق كتابه؛ لحظة التخلص من القابلية للاستعمار (سأستخدم فيما يلي لفظ "الاستدمار" الأدق تعبيرًا من وجهة نظري عن حقيقة ذلك الاحتلال الغاشم، وهو لفظ استخدمه آخرون من قبلي، مثل الكاتب الجزائري المدقق أ. معمر حبار).
وبغض النظر عما ظهر بعد ذلك من أن ثورات الربيع العربي لم تتمكن من التخلص من القابلية للاستدمار ولا من الاستدمار (عدوّا مالك والأمة كلها)، فإن التساؤل الذي سأحاول التركيز عليه في هذه المقدمة سيدور في الأساس حول ما الذي يقدمه الكتاب وكاتبه ويمكننا الاستفادة منه في واقعنا هذا، والذي تغير كثيرًا عن الواقع الذي ألّف فيه مالك كتابه.
ولن تكون هذه هي المحاولة الأولى لدراسة فكر مالك بن نبي من خلال تطبيقه على الواقع المعاصر، فقد سبقني إلى ذلك الكاتب الفلسطيني -الراحل إلينا من قريب- د. محمد شاويش (رحمه الله)، والذي ألف كتابًا مهما في هذا الشأن، أسماه "مالك بن نبي والوضع الراهن" (صدر في عام 2007م)، فضلا عن بحوث أخرى كثيرة قدمها الباحثون المهتمون بفكر مالك في العديد من المؤتمرات والندوات التي عقدت حول هذا الفكر الذي تزداد قيمته كلما تقدم الزمان.
غير أنني سأحاول كذلك بيان أوجه الاستفادة التي من الممكن أن تعود على القارئ من اقترابه من فكر مالك بن نبي عبر هذا الكتاب، متجنبًا قدر وسعي من الوقوع فيما وقع فيه آخرون من التعامل مع أطروحات الكاتب وكأنها "مذهبًا" ينبغي اتباعه، لا منهجا يمكن الاستفادة منه، وفكرًا يحسن البناء عليه، متبعًا في هذا نصيحة بهذا المعنى أكرمني بها أستاذنا المستشار طارق البشري (رحمه الله) عند حديثه معي بشأن منهج التعامل مع فكر الأعلام، قديمًا، وحديثًا.
أولاً: يُظهر الكتاب إلى أي مدى كان مالك بن نبي مخلصًا وجادًا ومتجردًا، وهب حياته من أولها إلى آخرها لاستنهاض أمته؛ فلم يكتب لأجل متطلبات وظيفية (رغم فقره وأسرته المادي المدقع)، ولا للوجاهة، ولا للتنفيس عن النفس كرباتها، بل كان يعتصر ألما ويتحول إلى شمعة تحترق لأجل تحقيق هدفه السامي، متحديًا كل الظروف بالغة الصعوبة التي مر بها بفعل الاستدمار، حتى إنه كان يؤلف هذا الكتاب وإلى جواره والده الشيخ وابن أخته جائعين لا يجدان كسرة خبز تشبعهما، كما صرح مالك بنفسه في مقدمته للكتاب: "ففي اللحظة التي أتولى كتابة هذه الصفحات أشعر بنظرتين صامتتين مؤلمتين ترمقان عملي؛ نظرة والدي العجوز [يقصد الشيخ] التي تهزني حين لا يجد عنده حتى قطعة خبز يواجه بها عجز أيامه؛ مشفوعة بنظرة ابن أختي الطفل الذي لا يجد خبزا يتبلغ به، وذلك عقابا لي جزاء ما أقوم به من دراسة كهذه".
ولا يخفى ما لهذه الحقيقة الواضحة من تأثير إيجابي محتمل على الكُتَّاب والباحثين في عالمنا الإسلامي المعاصر، والذين يعيشون في ظروف قد تكون أصعب من ظروف مالك بن نبي، ولكن عليهم أن يقتدوا به في تحديه لتلك الظروف، وعدم الاستسلام لمشاعر الإحباط والهزيمة، وخاصة أن عدوه في الحقيقة لم يكن الاستدمار وحده، بل الجهل واتباع الهوى المحيطين به من كل اتجاه، ورغم ذلك لم يتوقف قط عن إنجاز عمله، ولا تزال كتبه تصدر حتى بعد وفاته (مثل هذا الكتاب)، ويتلقفها المثقفون وكأنها هدايا أتت إليهم من السماء!
ثانيًا: من الأمور بالغة الأهمية أن يكون للكاتب مشروعًا فكريًا متكاملاً، يعمل على استكماله قدر وسعه، وهذا ما لمسناه كذلك، مثلًا، عند د. محمد عبد الله دراز ومشروعه الأخلاقي المستمد من القرآن الكريم (وكذلك د. طه عبد الرحمن)، والشيخ محمد الغزالي ومشروعه المحارب للتطرف الديني من الناحيتين؛ الإفراط، والتفريط، وعبد الوهاب المسيري، الذي وهب حياته لنقد الحداثة الغربية وأصولها الفكرية وأدواتها وآلياتها، مثل العلمانية والصهيونية، وهذا الأمر نلمسه بجلاء عند مالك بن نبي ويؤكده كتابه الماثل، فقد كان له مشروع فكري متكامل يستهدف مساعدة الأمة الإسلامية على التخلص من حالة الوهن التي سمَّاها "القابلية للاستعمار"، والتي جلبت بدورها الاستهانة والاستخفاف والتبعية عبر الاحتلال العسكري المباشر الذي سَمّوه اسمًا لطيفًا، وهو "الاستعمار"، فكان يحارب وحده على الجبهتين، فلا يكاد ينتهي من كتابه "شروط النهضة" إلا ويبدأ في كتابة الجزء الأول من كتابه "وجهة العالم الإسلامي"، ثم الجزء الثاني، والذي تجد فيه بذورًا لكتب أخرى تالية أكمل بها مشروعه، منها: "الفكرة الأفريقية الأسيوية"، "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، "ميلاد مجتمع"، ثم كتابه الذي اختتم به حياته: "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين"!
وأرى مع كثيرين أن المشروع الفكري لمالك بن نبي هو المشروع الأولى بالمراكمة عليه في عالمنا إسلامي المعاصر، والذي لا تزال تسيطر عليه ظاهرتا القابلية للاستدمار والاستدمار، والذي ازداد تلونًا ومكرًا وإجرامًا!
ومرد هذا، إلى أن مالك وضع يده -عبر اهتمامه بهاتين الظاهرتين- على أكثر ما يعاني منه العالم الإسلامي من أمراض منذ قرون، مصدقًا الآية الكريمة "قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ" [سورة آل عمران، جزء من الآية 165]، فلم يرد مالك لنا أن نعيش دور الضحية الذي يبرر به الإنسان لنفسه ما يقع عليه وحده من ظلم، بل عمل على تبصيرنا بعيوبنا التي جعلتنا لقمة سائغة للاستدمار حتى هذه اللحظة، واستنهضنا للتخلص من تلك العيوب، ورسم في مشروعه الطريق للتخلص من تلك العيوب عبر منهجية علمية واضحة، استخدم فيها عقليته الهندسية البارعة، وكان حريصًا في هذا على بث روح الأمل والتفاؤل في المسلم، ناصحًا له بأن يغير نفسه حتى يغير التاريخ.
ثالثًا: هناك من الكُتّاب من يستغرقهم الماضي فينكفؤون عليه غافلين عن حاضرهم، وهناك من ينغمسون في الحاضر ذاهلين عن المستقبل، بينما يدل كتابنا الماثل على أن مالك بن نبي كان يدرس الماضي لأخذ العبرة، ويفقه الحاضر ليعرف أين يقف، ويستشرف المستقبل كي يعد له ويستنفر الأجيال من بعده للتعامل الرشيد معه، وهذا الكتاب من هذا الصنف، حيث صرح فيه مالك أنه كتبه لجيل مقبل، لا جيله المعاصر له وقت كتابته، ولا حتى في حياته كلها، كما تبين لنا بعدئذ، فالجزء الأول من كتاب "وجهة العالم الإسلامي"، ذكر مالك أنه "يعتبر في العمق اختصارا لدراسة داخلية للعالم الإسلامي، وبالخصوص من زاوية (القابلية للاستعمار)، وهذا قد اقتضى العودة إلى استعراضنا خط تطور العالم الإسلامي من قيام حالة القابلية للاستعمار (عصر ما بعد الموحدين(، إلى قيام حالة الاستعمار حينما استعمرت أوروبا المسيحية البلاد الإسلامية." أما الجزء الثاني "المسألة اليهودية" فجاء عبارة عن "دراسة خارجية مستقبلية تركز على القضية الإسلامية في إطار القضية العامة التي سوف تأتي"!
وحتى في دراسة مالك بن نبي للمسألة اليهودية اتخذ المنهج نفسه في بحث هذه المسألة من جذورها في الماضي وفي حاضرها واستشرف مستقبلها؛ فقد تتبع خطوات دخول اليهود في عمق أوروبا حتى وصولهم إلى مقعد القيادة، ومن ثم عودتهم إلى حظيرة أسلافهم في فلسطين في وضع مختلف. مقررًا أن "اليهودي دخل للأوروبي مدخل الهائم على وجهه النادم على ذنبه كي يثير شفقته بدلا من كراهيته المعروفة".
واستقرأ مالك من تاريخ اليهود صفات للشخصية اليهودية لا تنفك عنها إلا قليلا، فاليهودي "علاقاته العائلية والعنصرية ليس وراءها مشاعر بل أفكار وبرامج، ولا يبحث عن وطن جديد بل عن نطاق يتسور محيطه وعنصره!"، وهو يتصف بصفتين متناقضتين: "تكبر بغير حدود، وقدرة لا تحتمل على ابتلاع الإذلال والإهانة"، ولذا كان محاطًا بالكراهية والاحتقار، أو على حد تعبير مالك: "اليهودي يعرف أنه محاط بالكراهية الصامتة أو الغريزية، سواء كانت الكراهية من الشعب أو من الأمير، لذا فهو يوظف حياته ونشاطه لمصلحة الجيتو الذي ينتمي إليه، والذي يجد عنده الأمان والخصوصية"، ولكنه استعاد "عبر تجارته ما يفك عزلته شيئًا فشيئًا، وانطلق يندمج في الحياة الوطنية". غير أنه ظل ثابتًا على شخصيته وأفكاره مهما تغير مظهره: "ستكون كلمة (الحديث) بالنسبة لليهودي لا معنى لها؛ لأن اليهودي كالأشياء الثابتة مع الزمن لا عمر لها لأنها لا تتغير أبدا. فاليهودي الآن أصبح مواطنا قد نزع عنه اللحية واللباس وكل ما يميزه كيهودي، لكن أفكاره هي نفسها على مر الزمن". واليهودي "لا ترتاح نفسيته إلا حينما يصبح غير معروف النسب والعنصر، ومن هنا أتت خطورة هتلر عليه، وكذلك ستمثل فلسطين خطرًا عليه" [وهذا ما حدث فعلا بعد عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر من العام الجاري].
والواقع أن من يقرأ هذا الذي كتبه مالك عن حال اليهود في أوروبا من قبل، ونبذ الأوروبيين لهم والاستهانة بهم، سينتابه الشك المنطقي في أن اليهود أرادوا الانتقام مما حدث لهم، لا من الأوروبيين ولكن من المسلمين! فشوهوا صورة المسلمين في الغرب وأشعلوا ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، حتى إنني وأنا أكتب هذه السطور يخشى المسلمون من الخروج من بيوتهم في بريطانيا خشية الاعتداء عليهم من اليمين المتطرف لمجرد إشاعة مغرضة تتهمهم بغير حق بقتل ثلاث فتيات، على الرغم من نفي الشرطة نفسها هذا الأمر، فبات المسلم هناك موصومًا بالإرهاب والتخلف يتوارى عن الأوروبيين كما كان يفعل اليهودي تمامًا، فكان الانتقام اليهودي من المسلمين بجناحين: الاستدمار في الخارج والتنكيل في الداخل، بفكر اليهود ويد الأوروبيين والأمريكيين!
وهذا الاستنتاج ليس مستبعدًا، لاسيما في ظل ما صرح به بن نبي نفسه في هذا الكتاب من أن اليهود "لا يريدون الإسلام ولا المسلمين في هذه الأرض (أوروبا)"، والتي ركزوا فيها كل اهتمامهم لتكون في أيديهم "وسيلة سياسية عالمية"، تتجلى فيها الرأسمالية والاستعمار والعنصرية.
وهذه ورقة يمكن أن تستخدمها الأقليات المسلمة حاليًا في مواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا التي اجتاحت الغرب، حيث يستطيعون أن يبرزوا الدور اليهودي في إشعال تلك الفتن، ويفعلون كما فعل مالك، حين تتبع الأدلة والمعلومات الشحيحة المتوفرة ليثبت وقوف اليهود وراء ظواهر الاستدمار والعنصرية والمادية والشيوعية!
رابعًا: يقع البعض في تناوله للمسألة اليهودية في هاوية التهوين من الخطر اليهودي، فيصور اليهود وكأنهم مجرد أداة طيِّعة في يد الغرب، بينما يقع البعض الآخر في فخ التهويل حتى يكاد يصيب القارئ باليأس والإحباط من القدرة على مواجهة اليهود باعتبارهم شياطين من الجن، لا الإنس، ولكن مالك بن نبي في كتابه هذا اتخذ طريقًا وسطًا، ومنهجًا متوازنًا وصارمًا في تحليله تلك المسألة، تاريخيًا ونفسيًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، معتمدًا على ذاكرته إلى حد كبير لعجزه عن توفير الوثائق اللازمة (كما ذكر صراحة في ثنايا كتابه)، إلا أنه استطاع رغم ذلك أن يتجنب أن تكون آراؤه واستنتاجاته مجرد خواطر لا سند لها من الواقع، بل كان يذكر معلومات داعمة وأدلة دامغة على ما خلص إليه من هيمنة اليهود على أوروبا ووسائلها في فرض تلك الهيمنة، ومثال ذلك تلك المعلومة عن هيمنتهم على ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية "فالعالم عرف أن 85 % من الأبنية في برلين ملكها يهود، وكذلك سائر دور السينما والمسارح والراديو والصحافة والبنوك. لقد كانت هذه كلها في أيديهم وكذلك التجارة الصغيرة وآلاف المهن الحرفية، وبكلمة واحدة لقد أصبح الشعب الألماني إما مستأجرا أو عاملا أو موظفا أو زبونا لليهود" [ويمكننا القول الآن أن هذا أصبح حال شعوب العالم كله حاليًا، لا ألمانيا وحدها].
غير أن المعلومة الأهم التي استند إليها مالك للتدليل على وقوف اليهود وراء فكرة الاستدمار ذلك البيان الذي عممه "الكنيس العالمي لليهود" في بداية عام 1937أو عام 1938 [لا يتذكر مالك بالضبط] في جميع الصحف الهولندية مذكرا بفضل اليهود على الهولنديين في هذا الشأن في أجواء الهجوم النازي عليهم، والذي جاء نصه كالتالي:
(يرجى من الشعب الهولندي ألا ينسى أن اليهود هم الذين أقاموا إمبراطورية هولندا الاستعمارية، فأصبحت الإمبراطورية هي الأغنى. فقد كانت إمبراطورية الاستعمار هذه تحت سلطتها مساحة خزان 70 مليون مسلم وأكثر، مع وفرة في المواد الأولية تذهب جميعا لتطعم ستة ملايين هولندي).
وهكا فعل مالك حين أراد أن يدلل على الدور اليهودي الأساسي وراء اختلاق الرأسمالية والمادية والعنصرية فضلا عن الاستدمار الأوروبي الذي غزا العالم، مبينًا أن "المال والشفقة والتفكر" هي وسائل اليهود للوصول إلى عقل الأوروبي وانتزاع كراهية اليهودي من قلبه.
كما ظهر عند مالك ذلك التدقيق في المصادر والاعتماد الذكي على المعلومات، لا مجرد القفز إلى نتائج وتصورات غير مبنية على حقائق، على الرغم من صعوبة الإمساك بأدلة ملموسة على وجود ظاهرة يراد لها السرية الكاملة في وقت تأليف الكتاب، فذكر مالك -مثلاً- أسماء كثير من اليهود المؤسسين للتوغل اليهودي في أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفيتي، سواء في مجال السياسة أو الفكر أو الاقتصاد، مثل: سبينوزا، تروتسكي، درزائيلي، روتشيلد، باروخ، إيليا أهرنبورغ، آينشتاين، أوبنهايمر... كلها شخصيات يهودية أشار مالك إليها وإلى أدوارها، لا يمكن لأحد أن ينكر تأثيرها الواضح على نمط التفكير الأوروبي والغربي بصفة عامة.
ولذلك خلص مالك إلى حقيقة مؤداها: "إن أوروبا هي مهد العالم الحديث، لكن الحدث الرئيسي لكلمة أوروبا في التَّاريخ هو وصول اليهود إليها كشخصية مستقلة عن الفكرة المسيحية، وهي التي سيطرت على سائر تسلسل حضارتها". حتى وصل إلى القول بأن العالم "أصبح اليوم منقسما بصورة نهائية إلى طبقات ثلاث: اليهود الذين يحكمون أوروبا، والأوروبيون الذين يستعمرون من أجل اليهود، والأهليون (Les indigènes) الذين أصبحوا مستعمرين. فساحة الاستعمار قادرة أن تجد متسعها في فراغ طبقة القابلية للاستعمار التي لم يكن اليهود فيها أكثر من أجانب كما يراد إثباته، وإذا كان التوسع جائزا في هذا الفصل ولا يؤذي، فالعنصرية في نهاية التحليل هي المسوغ للاستعمار أمام الضمير الأوروبي". مقررًا أن هذا العصر: متهود- رأسمالي- استعماري- عنصري، أنتج حضارة: قارية أو عنصرية – أوروبية مادية- تكنولوجية- "مسيحيوية".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بن نبي قد تجاهل تماما ما تسمى بـ"بروتوكولات حكماء صهيون"، (والتي انتهى د. عبد الوهاب المسيري بعد ذلك- في كتابه "اليد الخفي- دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية"، إلى أنها مجرد "وثيقة مزورة") فلم أجد لها ذكرًا قط في الكتاب، على الرغم من أن مالك اطلع عليها غالبًا، على الأقل في نسختها باللغة الفرنسية، واكتفى مالك بأن ركز على الشواهد والأدلة التي تؤكد على سيطرة اليهود على العالم، ليحقق بذلك ما كتبه عباس محمود العقاد في مقالته عن تلك البروتوكولات، والتي نُشرت تحت عنوان "بروتوكولات حكماء صهيون" في جريدة الأساس بتاريخ 23/11/1951م، أي قبل انتهاء مالك بن نبي من تأليف كتابه هذا بثلاثة شهور فقط تقريبًا، وأعيد نشرها في مقدمة الترجمة العربية لها، والتي صدرت تحت عنوان: "الخطر اليهودي- بروتوكولات حكماء صهيون"، حين قرر العقاد في خاتمة المقالة الآتي: "وأغلب الظن بعد هذا كله -على ما نرى- أن البروتوكولات من الوجهة التاريخية محل بحث كثير، ولكن الأمر الذي لا شك فيه كما قاله شسترفيلد: إن السيطرة الخفية [اليهودية] قائمة بتلك البروتوكولات أو بغير تلك البروتوكولات"!
خامسًا: المفكر المتقِن لا يكتفي فقط باستنطاق المصادر بحقائق من الصعب التشكيك فيه، بل قد يصل إلى تنبؤات يُصَدّقها الواقع، أو على الأقل تقنع القارئ بإمكانية تحققها في المستقبل، ويُظهر الكتاب أن مالك كان من هذه الفصيلة النادرة من المفكرين؛ فقد سقطت إحدى القوتين العظميين كما توقع مالك (وهي الاتحاد السوفيتي)، وباتت هيمنة اليهود على الحضارة الغربية وتوجيهها حيث أرادت- وفق ما شرح مالك في كتابه- ليست محل شك، لاسيما في وقت كتابة هذه السطور، حيث يشن الكيان الصهيوني حرب إبادة شاملة ضد الفلسطينيين منذ عشرة شهور بدعم كامل وفاجر من الإدارة الأمريكية ومن حكومات كثير من الدول الأوروبية (مع سلبية الصين واليابان، وروسيا إلى حد ما)، ولولا مظاهرات الطلبة في كبرى الجامعات الأمريكية والأوروبية -والتي جرى قمع بعضها بالقوة من قوات الشرطة- لقلنا أن الحضارة الغربية قد باتت بالكامل -شعوبًا وحكومات- تحت الحكم اليهودي، وتشعر بالرضى الكامل حيال الإبادة الشاملة للفلسطينيين!
فنحن نشهد الآن تحولا ملحوظًا في موقف الرأي العام الأوروبي والأمريكي من اليهود، أو الصهاينة بالتحديد، بعد ما لمسوه من بشاعة الصهاينة في حربهم الإبادية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، والذي عبرت عنه تلك المظاهرات الكبرى التي خرجت هناك لإدانة قتل الأبرياء الفلسطينيين، وخاصة من الأطفال والنساء، وأرى أن هذا الأمر قد يهز بقوة متدرجة ذلك التمكن اليهودي الكامل من مفاصل الحضارة الغربية، والذي ذهب إليه مالك بن نبي في كتابه.
كما تنبأ مالك كذلك بتلك القواعد العسكرية التي سيقيمها الغربيون -على نحو واسع- في العالم العربي والإسلامي في نهايات القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، حيث لم تكن تلك القواعد قائمة بالشكل الذي عليه الآن، بل كان هناك احتلال عسكري مباشر لغالبية الدول العربية والإسلامية، فكشف مالك عن أن صداقة الغربيين مع العالم العربي "تحكمها مصلحة مزدوجة؛ هي القواعد التي على البلاد العربية أن تقدمها لهم، ليحققوا إستراتيجية الحرب عبر هذه القواعد في أمرين: 1- استعمال هذه القواعد في أية خطط عسكرية. 2- أن تصبح البلاد العربية هي نفسها مسرح العمليات الحربية. إذن هنالك حاجة لدى الغربيين في صداقتهم هذه، بقدر ما يحددها مستشاروهم اليهود".
ومن تنبؤات مالك التي تحققت كذلك بالفعل بعد أن ذكرها مالك في كتابه هذا بفترة طويلة (ثلاثين عامًا)، نبوءته الضمنية بإسلام المفكر الفرنسي رجاء جارودي، حيث لاحظ مالك بن نبي القلق لدى جارودي وكتب عن عطشه لإيمان بدين مختلف: "هذا الاهتمام المقلق يقرأ حتى بين أسطر شيوعي منهزم" ثم كتب في الهامش معلقًا: "وهذا المظهر صدمني لأول مرة وأنا أقرأ أطروحة تحظى بكل تقدير لشيوعي فرنسي هو غارودي وقد اعتراه ظمأ شديد للإيمان بإله بعيد عن شروط نهضة فرنسية"!
بينما أورد مالك في كتابه عددًا من التنبؤات الأخرى -التي نعيش الآن إرهاصاتها -بعد مرور سبعين عامًا على تأليفه الكتاب، ومنها نشوب حرب عالمية ثالثة تشتعل فيها الحرائق ويذهب الملايين ضحايا لها، حيث بات الكثيرون يتوقعون نشوبها قريبًا جدًا، بل إن البعض يعتبر أنها بدأت بالفعل. ويتوقع مالك أن تتسبب هذه الحرب في نهاية العالم الحديث: "أخيرا؛ نحن نقيس ونحاكم عالما في نهايته. فالعالم الحديث بدأ يميل نحو الغروب لكنه غروب يبطئ هزيمه شيئا فشيئا وبهدوء كما هو الليل الذي لف شيئا فشيئا المجتمع الإسلامي عقب سقوط الموحدين. فالعالم الحديث الذي زرع العنف سيموت بالعنف، وهذا الموت العنيف للعالم الذي لا روابط عميقة في حياته سيؤدي به إلى حرب أخرى يوقد نارها حاليًا"!
والتنبؤ الآخر المرتبط بتلك الحرب، هو أن الغرب سيسعى إلى توريط العالم الإسلامي فيها، حيث أزال بن نبي الستار -منذ سبعين عامًا- عن أن أوروبا تتحسب لما أسمته "الخطر الإسلامي"، وهي وأمريكا لا يريدون أن يكون العالم الإسلامي بمنأى عن الحرب المنتظرة وآثارها المدمرة، ولذا يعملون على أن يكون أرضًا أو ميدانًا للمعركة، ويبدو أن الحديث عن الحرب العالمية الثالثة الآن، وما يحدث في فلسطين ومن قبله في سوريًا والعراق ولبنان والصومال..، هو تنفيذ لهذا المخطط!
سادسًا: اعتاد مالك في كتبه المتعددة أن يقدم حلولا ومقترحات إيجابية ومنطقية للمشكلات التي يستعرضها في تلك الكتب، ومن ضمنها كتاب "المسألة اليهودية"، حيث إنه على الرغم من إقراره بهيمنة اليهود على عالمه، ومن ثم على عالمنا كما نسمع ونرى ونلمس، وتأكيده على قوة أمريكا العسكرية، إلا أنه أفصح عن أن العالم الإسلامي لديه الكثير ليقدمه للعالم، وأن عليه ألا يخاف من قوة أمريكا ولا يعتبرها عصية على الهزيمة: "فالقوة الأمريكية ليست هي القوة التي لا تندحر، والفلاحون في كوريا الشمالية في جيشهم البدائي؛ أعطوا المثل بما يهدم أوهام العالم، والعالم الإسلامي على الخصوص".
وكتب مالك هذا قبل أن تُهزم أمريكا كذلك في كل من فيتنام وأفغانستان، فهو لم يكن يدغدغ مشاعر المسلمين، بل يستند إلى حقائق من شأنها أن تقوي ثقتهم بأنفسهم، وتنتزع من قلوبهم الخوف الزائد من أمريكا، والذي لا يزال متملكًا من الكثيرين منهم حتى الآن!
وعلى الرغم من أن بن نبي انتقد بناء العالم الإسلامي رؤيته لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية على خطين متوازيين: "المواقف التي تسوقها الظروف، والثانية الأحلام التي تسوقها الشعارات"، بلا إستراتيجية تبنى على معطيات واضحة، إلا أنه عاد وبشر المسلمين بأنهم أمامهم المستقبل، إذا نجوا من الحرب العالمية الثالثة بشرط أن يحتووا شعوب العالم في ثقافته ويقنعوهم بفلسفة الإسلام الأخلاقية والاجتماعية، أما اليهود، فسيأخذ على أيديهم وينهي سيطرتهم على العالم، بعد أن ينزع سُمَّ تأثيرهم في الفكر العالمي، فإن "القيم اليهودية التي إن تمكنت ستعيد تشكيل تحالف مضاد للعالم الإسلامي".
وعوَّل مالك بن نبي في تحقيق هذا التمكين على الإسلام نفسه: "فالإسلام لديه حس النزعة التخطيطية، ولا بد أنه يملك الخبرة العينية التي بها يضبط الطاقة الذرية، ثم يستوعب النزعة الاشتراكية في معناها، كما يجسد العالمية، وهذا هو الشرط الذي سوف يضع جميع العناصر الثابتة وكذلك الاتجاهات في تناغم خُطا عالم جديد. فشرط الإسلام أنه دين قادر في تكوينه على تصحيح الرأسمالية وتعديلها، وكذلك الشيوعية ومحو العنصرية والاستعمار ليأخذ على يد اليهود في إدارة العالم. وهكذا نرى دور الإسلام في عالم جديد؛ يعتمد على قيمته الداخلية بقدر ما للقيمة الروحية وفاعليتها من قدرة على استيعاب مخلفات عصر مضى في تجدد الحضارة الإنسانية".
واشترط مالك لتحقيق هذا الحلم المنشود، -إلى جانب التخطيط الإستراتيجي الدقيق، وتحقيق التفاعل بين عناصر الحضارة التي فصل الحديث عنها من قبل في كتابه شروط النهضة، وفي الجزء الأول من هذا الكتاب- إصلاح الفكر الدعوي، وحسن التعريف بالإسلام: "إن مبنى أداء الدعاة المسلمين في التعريف بالإسلام كمفهوم غيبي موحى به هو عقدي في بنية الإيمان، وأخلاقي في معايير السلوك، واجتماعي في شبكة التواصل في المحيط كحق وطني ثم عالمي في مداه الإنساني، لذا لابد للداعي أن يكون على علم بالأديان الأخرى بالقياس نفسه".
وهذا ما نرجو الانتباه إليه، فإن العالم قد أصبح قرية واحدة، حتى وإن غاب فيها العدل، وتلاشت المساواة، واختفت الرحمة، إلا أن هذا يمثل بيئة خصبة للدعوة الإسلامية، بمد الإنسان بما ينقصه من روح ومعنى لحياته، وبالعمل على تحاشي الطريق المسدود التي تجرنا إليه الحضارة الغربية ("حضارة التجار" كما أطلق عليها مالك)، والتي حان وقت افتكاك أسرها من الهيمنة اليهودية عليها، فكرًا واقتصادًا وفلسفة وسياسة.. الخ، وهذه هي القيمة الحقيقية لكتاب مالك.
وختامًا، فإنه تجدر الإشارة -في هذا المقام- إلى أن الجيل الحالي بالتأكيد ليس هو الجيل الذي ينشده مالك، ويأمل أن تتحقق على يده أحلام الأمة في النهوض بنفسها وبالعالم، بعد أن ازداد الواقع المحيط بهذا الجيل -والمحبط له- تخلفًا وانهيارًا وإسراعًا نحو الهاوية خلافًا لما تمنى مالك، ولكن يتبقى الأمل في الروح التي تمد بها المقاومة الفلسطينية العالم كله، حيث لا تزال صامدة حتى الآن أمام حرب إبادة شاملة تشنها على غزة القوى العظمى الأقوى ماديا في العالم (أمريكا، ومعها حلفاؤها من الأوروبيين والصهاينة والمتصهينين)، وبات شعب غزة -تحديدًا- هو الشعب الحي وحده وسط عالم من الأموات، ولذا لو كان مالك بن نبي حيًا لأهداه كتابه هذا!
د. حازم علي ماهر
القاهرة، بتاريخ 11/8/2024
رابط تحميل الكتاب
(ننشر نسخة الكتاب كاملا مع المقدمة ... هدية من الموقع بالترتيب مع دار النشر)
* رئيس تحرير موقع "حوارات الشريعة والقانون": https://hewarat.org/.
** صدرت الطبعة المشار إليها عن دار (حكاوي) بالقاهرة، عام 1445ه/2024م، وهي الطبعة التي ننشرها رفق هذه المقدمة لأول مرة على الشبكة.