تعتبر الدراسات المقارنة أحد أعمدة البحث العلمي التي تسمح للباحثين بتفكيك وفهم النظم القانونية والاجتماعية والثقافية في مختلف المجتمعات. حيث تعتمد هذه الدراسات على مقارنة الأنظمة والمناهج القانونية المتنوعة، بهدف استخلاص العبر وتحقيق الفهم الأعمق لتلك النظم في سياقاتها المختلفة. في العالم الإسلامي، شهدت الدراسات المقارنة تطورًا كبيرًا، خاصة عند دراسة العلاقة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية. يعالج كتاب "أصول الدراسات المقارنة" هذا الموضوع بتفصيل، مقدمًا إطارًا علميًا شاملًا لفهم هذا العلم وتطبيقه. في هذا الكتاب، يُسلط د. أحمد حسين عثمان* الضوء على الأسس التاريخية والفكرية التي ساهمت في نشأة علم الدراسات المقارنة وتطويره، مع استعراض دقيق للتقنيات والأساليب المستخدمة. ويعد الكتاب مرجعًا مهمًا للباحثين والدارسين الذين يرغبون في التعمق في مجال القانون المقارن، خاصة فيما يتعلق بمقارنة الفقه الإسلامي بالقوانين الوضعية.
تاريخ القانون المقارن:
يُستهل الكتاب بفصل يعرض فيه المؤلف لتطور علم القانون المقارن على مر العصور، مشيرًا إلى مساهمات العلماء المسلمين في هذا المجال. فمع توسع الدولة الإسلامية، وتزايد الحاجة إلى وضع قوانين تنظيمية تتماشى مع الشريعة الإسلامية، ظهرت الحاجة إلى دراسة النظم القانونية الأخرى، وخاصة الرومانية والبيزنطية. كما يتناول الكتاب بالتفصيل جهود علماء المسلمين الأوائل الذين أسهموا في وضع أسس القانون المقارن من خلال دراساتهم وتحليلاتهم التي تسعى إلى تكييف الشريعة مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية. ويقدم الكتاب أمثلة تاريخية على تلك الجهود، مثل محاولات الفقهاء في الأندلس والمغرب العربي، الذين كانوا في تواصل مستمر مع النظم القانونية الأوروبية، مما دفعهم إلى إجراء مقارنات دقيقة بين الشريعة والقوانين الوضعية لتطوير حلول قانونية جديدة ومتوافقة مع الشريعة الإسلامية.
منهجية الدراسات المقارنة:
يخصص الكتاب فصلًا هامًا لمناقشة منهجيات الدراسات المقارنة، حيث يستعرض المناهج المختلفة التي تبنتها تلك الدراسات عبر التاريخ، فيبدأ بشرح الأسلوب الوصفي الذي يعتمد على تحليل النصوص القانونية في إطارها الثقافي والاجتماعي، ثم ينتقل إلى المنهج التحليلي الذي يركز على تفكيك النصوص لفهم مبادئها الأساسية والمقارنة بينها. كما يُبرز الكتاب أهمية الحفاظ على الهوية القانونية لكل مجتمع أثناء إجراء الدراسات المقارنة، مشددًا على أن دراسة القوانين والمقاربات القانونية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي والتاريخي لكل مجتمع. هذه النقطة تكتسب أهمية خاصة عند مقارنة الفقه الإسلامي بالقوانين الغربية، حيث يجب مراعاة الفروق الجذرية في الأسس الفلسفية والاجتماعية التي تقوم عليها كل من الشريعة الإسلامية والنظم القانونية الغربية.
التطبيقات العملية للدراسات المقارنة:
في قسم التطبيقات العملية، يُقدم الكاتب دراسات حالة تُبرز كيفية استخدام القانون المقارن في تطوير القوانين العربية وفي توحيدها. يتناول الكتاب جهود علماء وقانونيين في البلدان العربية عملوا على توحيد التشريعات القانونية مع الحفاظ على المصدرية الإسلامية لهذه القوانين. ومن بين الأمثلة التي يستعرضها الكتاب، محاولات تطبيق الدراسات المقارنة في تونس ومصر، حيث سعت هذه الدول إلى صياغة قوانين مدنية تأخذ بعين الاعتبار الفقه الإسلامي، ولكن بشكل يتناسب مع العصر الحديث. كما يتطرق الكتاب إلى الدور الذي لعبته الدراسات المقارنة في الإصلاحات القانونية، حيث استخدمت كأداة لفهم نقاط القوة والضعف في النظم القانونية القائمة وتطويرها بما يتناسب مع الاحتياجات المعاصرة. يُعزز الكتاب أهمية هذا النوع من الدراسات كوسيلة لإيجاد حلول وسط بين مختلف النظم القانونية، مما يساهم في تحقيق العدالة والتوازن القانوني في المجتمعات.
أهمية الدراسات المقارنة:
لا يتوقف الكتاب عند استعراض التاريخ والمنهجيات والتطبيقات، بل يتوسع في مناقشة أهمية الدراسات المقارنة في الحفاظ على الهوية القانونية للمجتمعات، وتحقيق الاستقلال القانوني والفكري. يُقدم الكتاب حجة قوية ضد استعارة القوانين الأجنبية بشكل غير مدروس، محذرًا من العواقب السلبية التي قد تنجم عن تبني قوانين لا تتناسب مع القيم والثقافة المحلية، ويؤكد المؤلف على ضرورة أن تكون الدراسات المقارنة وسيلة لفهم الذات قبل أن تكون وسيلة لتقليد الآخرين. يدعو الكتاب إلى استخدام الدراسات المقارنة كأداة لتطوير النظم القانونية المحلية، بحيث تظل هذه النظم متوافقة مع التراث الثقافي والديني، ومع ذلك تكون قادرة على التعامل مع تحديات العصر الحديث.
يُعتبر كتاب "أصول الدراسات المقارنة" مرجعًا هامًا لكل من يسعى إلى التعمق في دراسة القانون المقارن، خاصة في إطار الفقه الإسلامي. يقدم الكتاب نظرة شاملة تجمع بين التاريخ والمنهجية والتطبيق، مما يجعله أداة قيمة للباحثين والقانونيين. من خلال تحليلاته العميقة وأمثلته العملية، يساهم الكتاب في تطوير فهم أعمق للعلاقة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ويوفر قاعدة قوية لبناء نظم قانونية عادلة ومتوازنة في العالم العربي.
رابط تحميل: مقدمة المؤلف وفهرس الكتاب
___________
المصدر:
أحمد حسين عثمان، أصول الدراسات المقارنة وتطورها بين الفقه والقانون، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 16 أغسطس 2024، https://bit.ly/3YTKavO
* حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية والمقارنات التشريعية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة. صدر له العديد من الكتب والدراسات المحكَّمة، منها: "الفقه الإسلامي ودوره في إصلاح القوانين العربية"، و"أثر الفكر الأصولي في تطوير الصناعة الفقهية"، و"دور المقارنة التشريعية في النقد القانوني: نظرية الاستغلال نموذجًا".