"امرأتنا في الشريعة والمجتمع"

By أ. محمد سيد بركة أيلول/سبتمبر 07, 2024 383 0

استعرض الطاهر الحداد في مقدمة كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" التي كتبها في ديسمبر عام 1929م، أي منذ ما يقرب من تسعين عامًا، أسئلته وموقفه النقدي من قضية المرأة، مشيرًا إلى وجوه الخلل والضعف واللبس في الرؤى والمسالك التي تحكم علاقة الرجل بالمرأة في الوطن العربي. 

يقول: المرأة أم الإنسان تحمله في بطنها وبين أحضانها، وهو لا يعي غير طابعها الذي يبرزه في حياته من بعد، وترضعه لبانها. تغذيه من دمها وقلبها، وهي الزوج الأليف تشبع جوع نفسه، وتذهب وحشة انفراده، وتبذل من صحتها وراحة قلبها لتحقيق حاجاته وتذليل العقبات أمامه، وتغمره بعواطفها فتخفف عليه وقع المصائب والأحزان، وتجدد فيه نشاط الحياة، وهي نصف الإنسان وشطر الأمة نوعًا وعددًا وقوة في الإنتاج من عامة وجوهه.

ويضيف الحداد قائلاً: غير أننا قد اعتدنا في نظرنا للمرأة أن نراها منفصلة عن الرجل لا شأن لها في تكييف نفسه وحياته، وأحرى ألا يكون لها شيء من ذلك في نهوضه الشعبي أو سقوطه، فكنا بذلك نتجرع مرارة الخيبة في حياتنا من كل وجوهها دون أن ندرك مصادر هذه الخيبة النامية فينا فنعمل لزوالها.

ويرى أن الناس أمام المرأة فريقان: أنصار لها، ومعارضون، ولكنهم في الغرب غيرهم في الشرق، والفرق بينهم بعيد جدًا كالفرق بين امرأتهم وامرأتنا، فهم في أوروبا متفقون على تعليم المرأة وتربيتها وعاملون في ذلك جميعًا لتقوم بعملها كاملاً في المنزل وتربية الأبناء، مع تمكينها من الحرية المدنية لاستثمار مواهبها في الأعمال الأدبية والمادية العائدة بالخير على منزلها أو على الثقافة العامة، ولتأخذ حظها أيضًا في الانتفاع بمباهج الحياة، وقد نالت من ذلك ونال منها المجتمع الأوروبي أوفر نصيب، ثم هم يختلفون بعد في تقدمها مع الرجل إلى الإنتاج المادي، وسيادة الدولة وتحمل أعبائها بالمساواة معه حتى لا يمتاز عليها في شيء، وهذا ما تسير له اليوم في تيار قوي، فالمعارضون يرون في ذلك تضييع لوظيفة المرأة في المنزل والنسل وتثقيفه، حيث تنهمك في الأعمال العمومية التي تذيب جهدها، وتغمر وقتها حتى لا يبقى منه لشيء آخر، زيادة عما في ذلك من منافسة الرجل في طلب العمل، تلك المنافسة التي كانت من عوامل البطالة في جهات أوروبا بينما هي لا تقوى على عمل الرجال فتأتي به كاملاً مثلهم، والأنصار يرون تجربتها في ذلك أيام الحرب الكبرى، وبعدها، دليلاً واضحًا على النجاح الذي تجده بدأ بها في المستقبل.

ولا ينبغي أن يعتبر هذا النجاح في الشعب إلا قوة جديدة فيه، وتوفير الإنتاج المادي والمعنوي وعونًا له عليه في حد لا يضيع همة النسل. وإذا كانت وظيفة تربية الأطفال التي تمتاز بها المرأة يضر بها هذا الاتجاه فإن تأسيس معاهد الأطفال والإكثار منها يرفع كثيرًا من هذه التبعة على المرأة حتى يزيلها بالتدريج، وقد أخذت الدول الأوروبية اليوم تباعًا بهذا الرأي مع التدريج فأفسحت للمرأة في مقاعد النيابة وكراسي الحكم في الدولة.

أما في الشرق فامرأتنا إلى الآن تعيش وراء الحجب، وأنصارها منا يرون في تربيتها وتعليمها علوم الحياة العامل الوحيد في تقويم حياتها. وتأدية واجبها في المنزل والعائلة كاملاً فتنجب لنا رجالاً ونساء يملؤون أوطانهم أعمالاً تكسبها الفخر وتحقق لها النصر في الحياة، ويرون مع ذلك حقًا شرعيًا وطبيعيًا أن تستثمر المرأة حريتها المدنية في استعمال ما لها من حق مباشرة بنفسها، وأخذ حظها من متاع الحياة كالرجل سواء.

والمعارضون لها منا يرون في هذا القدر خروجًا بالمرأة عما يجدر بها من الانزواء الذي يمنع الفتنة، والحجر الذي عليها للرجل، وهي لا تحتاج في حياتها أو وظيفتها إلا لمعرفة محدودة في دائرة المنزل، لا يلزم لها إقامة المعاهد العلمية في مختلف العلوم، ثم هي لا يتوقف عليها نهوض الشعب حتى نضطر لإعطائها الحرية الاجتماعية، ويمثلون لذلك بالمدنية العربية التي قامت على محض جهد الرجال.

اشتمل الكتاب على قسمين: 

الأول تشريعي تناول: المرأة في الإسلام، وحقوقها المدنية من الشهادة والقضاء، وأهلية التصرف، إلى حرية الحياة والميراث.. كما تناول الزواج في الإسلام، ابتداء من حرية الاختيار الواجب، وتعدد الزوجات إلى الطلاق ومعنى طلاق الثلاث، وحق الطلاق، إلى محاكم الطلاق، والتعويض المالي في الطلاق ثم أورد آراء لبعض العلماء المعاصرين له في المرأة والزواج. 

والثاني اجتماعي وتناول موضوعات منها: كيف نثقف الفتاة لتكون زوجًا فأما الثقافة الصناعية، الثقافة المنزلية، الثقافة العقلية، الثقافة الأخلاقية، الثقافة الزوجية، الثقافة، الصحية، السلطان العائلي في بناء البيت، الزواج بالإكراه، عاداتنا عوائق في طريق الزواج، الزواج بلا استعداد، الزواج دون السن، الزواج مع المانع، الاستعداد المالي، ضحايا الشهوة في الزواج، صور من حياتنا في المنزل، من مشاهد البؤس الاجتماعي في العائلة والشعب، تيار التطور الحديث، في المنزل، في الزواج بالأجنبيات، في المرأة، الحجاب، السفور، التعليم الرسمي للمسلمات، موقفنا في تعليم المرأة، تعليم المرأة.

ويقارن الطاهر الحداد كثيرًا بين المرأة التونسية والمرأة في أوربا ويطالب بحرية أكبر لها في تونس على غرار ما تشهده المرأة هناك، كما يرفض الطاهر الحداد تعدد الزواج، مقررًا أن ذلك التعدد من أسباب فشل الحياة وسوء العلاقات الأسرية، بل ذهب إلى رفض فتوى التعدد، وقام بإخراج ذلك من عمل الإسلام، يقول مثلاً: ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في الإسلام لأنني لم أر للإسلام أثرًا فيه وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجية. 

وكان عامة العرب يعددون نساءهم بلا حد لاستعمالهن في خدمة الأرض استغناء بهن عن الأجراء وخدمة البيت، والاستمتاع، وهو ما تشعر به باديتنا إلى اليوم وتعدد نساءها من أجله، فجاء الإسلام ووضع بادئ الأمر حدًا أقصى لهذا التعدد. فقال عليه السلام لمن له أزواج: أمسك عليك أربعا وفارق سائرهن، ثم تدرّج إلى اشتراط العدل بالتسوية بينهن وجعل الخوف من عدم العدل كتحققه كما في الآية: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) تحذيرًا لهم من عاقبة هذا التعدد، ثم عبّر عن تعذر الوفاء بشرط العدل بينهن مهما بذل فيه من الحرص كما في الآية: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ). 

ويقول في موضع آخر: أما تعديد الزوجات إلى أربع فذلك ظاهرة الشهوة، وحتى إذا كان بقصد النسل فهو لا يخلو من شغب يتحول إلى مقت داخلي بين الرجل وأزواجه أو يظهر الميل إلى جانب -وهو الكثير- فتزداد الحالة ارتباكًا.

لقد طالب الطاهر الحداد في كتابه الكثير مما يتعلق بتحرير المرأة التونسية، ولأن المجتمع التونسي ذلك الوقت يرى في آرائه الكثير من الخروج على الدين جُوبِه بالعداوة والمقاطعة، وعند وفاته لم يمشِ في جنازته إلا نفرٌ قليلٌ، وذلك دليل رفضهم لآرائه الخارجة عن أراء الشريعة الإسلامية.

ويُعد الطاهر الحداد بكتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع محرر المرأة التونسية، وكان لظهور كتابه أصداء واسعة مؤيدة ومعارضة، ويعتبر المؤرخون أن نشر هذا الكتاب حدث جوهري في مسيرة الإصلاح الاجتماعي بوجه عام والنسائي على وجه الخصوص، بالإضافة إلى رؤية جديدة في تأويل النص الديني مهدت لصدور مجلة الأحوال الشخصية التونسية سنة 1956م مانحة المرأة حقوقًا قانونية ما زالت النساء العربيات لم تنلها إلى اليوم.

ومما يذكر أن الطاهر الحداد ولد في تونس عام 1899م، وتوفي عام 1935م، وتخرج في جامع الزيتونة أحد معاقل التعليم الديني التقليدي في العالم الإسلامي ويشبه في ذلك الجامع الأزهر في مصر وجامع القرويين في المغرب، نشر العديد من المقالات الجريئة في الصحف التونسية كجريدة الأمة ومرشد الأمة وإفريقيا، كان من الرواد المبكرين للحركة النقابية، وأصدر كتاب العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية عام 1927م، الذي صادرته إدارة الأمن فور صدوره.

كفّرته الجهات الرجعية والأصولية ردًا على نشر كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» عام 1930م، واتهم بالإلحاد والزندقة عندما نشر كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع وتم تجريده من شهادته العلمية، منعه من العمل، كما قامت الزيتونة بنشر كتاب يعارضه بعنوان "الحِداد على امرأة الحدّاد"؛ إضافة لكتاب آخر تم نشره بعنوان "سيف الحق على من لا يرى الحق".

تمسك الحداد بموقفه وآرائه وواصل نضاله، رغم عزلته، فكتب كتابًا عن إصلاح التعليم الزيتوني، وكتابين آخرين ضمنهما أشعاره وخواطره التي لم تر النور إلا بعد وفاته، وبعد استقلال تونس بسنوات، مات الحداد في ريعان شبابه يوم 7 ديسمبر سنة 1935م، لكن الشعب التونسي ونخبته وسلطته كانوا أوفياء لهذا الطليعي الذي ضحى من أجلهم ومن أجل نهضتهم، فقاموا بتكريمه على أكثر من صعيد، كان أهمها تضمين مجلة الأحوال الشخصية، التي صدرت عام 1956م، الكثير من أفكار واقتراحات الطاهر الحداد. قال عنه طه حسين: لقد سبق هذا الفتى زمنه بقرنين.

الكتاب: امرأتنا في الشريعة والمجتمع.

المؤلف: الطاهر الحداد.

تقديم: د. منى أبو زيد. 

الطبعة: طبعة جديدة – يونيو 2012 م.

عدد الصفحات: 230 صفحة من القطع المتوسط.

الناشر: مجلة الدوحة – كتاب الدوحة (13)– وزارة الثقافة والفنون والتراث – قطر.

رابط تحميل الكتاب

Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.