موقع حوارات

موقع حوارات

أقيم يوم الثلاثاء الموافق السابع عشر من يناير الماضي في كلية العلوم الشرعية بجامعة طرابلس ندوة  بإشراف قسم الشريعة والقانون تحت عنوان (احتواء المشاكل الزوجية بين الشريعة  والقانون)، وتم افتتاح الندوة بكلمة للسيد عميد الكلية والسيد رئيس قسم الشريعة والقانون.

هذا وقد نوقشت القضية من عدة محاور وهي :

أولاً: المحور الشرعي (بيان النظرة الشرعية لآليات احتواء المشاكل الزوجية).

ثانيًا: المحور الاجتماعي (صور من الواقع تظهر أكثر المشاكل الزوجية شيوعًا في المجتمع الليبي).

ثالثًا: المحور القانوني (توجه المشرع الليبي في المحافظة على كيان الأسرة).

وقد خرجت الندوة بعدة توصيات وذلك للتقليل من المشاكل الزوجية في المجتمع من الناحية القانونية والاجتماعية.

رابط الخبر الأصلي

رابط لجانب من فعاليات الندوة

ينظم مركز الاستبصار المعرفي في المغرب بالتعاون مع مجلة الأطلس للدراسات الفقهية والقانونية والاقتصادية والقضائية، ندوة افتراضية يوم الثامن عشر من شهر مارس المقبل، بعنوان “تجليات الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية في القانون المغربي”، وتسعى الندوة للإجابة على إشكالية مفادها:

إلى أي حد استطاع المشرع المغربي أن يلائم بين أحكام الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية لصياغة قوانين مدنية وجنائية تحقق الأمن القانوني والقضائي للمجتمع؟”

وسوف تُقسم محاور الندوة إلى أربعة محاور:

الأول: موقع الشريعة الإسلامية في القانون المغربي وأثرها فيه.
الثاني: موقع الاتفاقيات الدولية في القانون المغربي وأثرها فيه.
الثالث: أوجه التكامل والاختلاف بين الشريعة الإسلامية والقانون المغربي.
الرابع: أثر القواعد الفقهية في القاعدة القانونية.

مجلة الأطلس للدراسات الفقهية والقانونية والاقتصادية والقضائية

مركز استبصار للتكامل المعرفي

بتواضع معهود على المستشار الراحل طارق البشري يوضح في مقدمة كتابه “الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي” أنه مجرد إبراز عدد من الملاحظات حول المسألة القانونية المعاصرة وموقعها من الشريعة الإسلامية والقانون، ويرى البشري -رحمه الله- أن هناك ثلاثة عناصر ساهمت منذ القرن التاسع عشر في اضطراب البناء التشريعي لأقطار الدولة العثمانية، وهي جمود الاجتهادات التشريعية، وبرامج وأسس الإصلاح التي أبقت القديم على رقوده، وأنشئت الحديث بجانبه ومن غير انبثاق منه ولا تفاعل معه، وثالثًا الغزو الأوروبي بأدواته السياسية والاقتصادية والعسكرية.

الكتاب صادر عن دار الشروق في مصر عام 1996 م ضمن سلسلة “في المسألة الإسلامية المعاصرة”

(الجزء الثاني)

 السلطة التقديرية للمشرع- هل تخضع للرقابة الدستورية؟ متى تعدل المحكمة الدستورية عن قضاء سابق؟ وكيف؟
 

بقلم

د. أحمد كمال أبو المجد

أستاذ القانون العام– حقوق القاهرة

عرضنا في الجزء الأول من هذا البحث لبعض المبادئ الدستورية الحاكمة لدور المحكمة الدستورية العليا في رقابتها على القوانين، وللمناهج المختلفة التي يمكن أن تتبعها المحكمة في ممارستها لهذه الرقابة..

وكان الحديث عن هذه المناهج حلقة متوسطة بين عرض المبادئ القانونية الحاكمة وبين مناقشة السياسة القضائية للمحكمة، وهو ما نعرض لبعض جوانبه في هذا الجزء من البحث متناولين فيه بالإيجاز المناسب، أمرين من بين أمور ثلاثة كنا قد وعدنا بالتعرض لها:

الأمر الأول: مناقشة سياسة المحكمة في الرقابة على التشريعات الاجتماعية، رقابة تشارك بها، في تحديد معالم النظامين الاجتماعي والاقتصادي.

الأمر الثاني: بيان الوسائل الفنية التي تتمكن المحكمة عن طريقها من مراجعة بعض ما انتهت إليه في عدد من أحكامها السابقة.

أما الأمر الثالث: وهو مناقشة أهم الاقتراحات التي طرحها البعض بقصد تقييد سلطة المحكمة أو الانتقاص من قيمة الأحكام التي تصدرها في المسائل الدستورية فنرجو أن نعود لمناقشته في بحث خاص منفرد.

أولًا: تقييم دور المحكمة في الرقابة على السلطة التقديرية للمشرع في المجال الاجتماعي:

 من المحددات الأساسية لدور المحكمة في الرقابة على دستورية التشريعات وعلاقتها في ممارسة هذا الدور بالسلطات العاملة وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.. أن المحكمة قد لا تكون لها الدراية الكافية والخبرة اللازمة لاتخاذ القرارات التي تتصل بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.. إذ الأصل أن هذه الخبرة وتلك الدراية تتوافران أساسًا للسلطات العاملة بحكم وظيفتهما الدستورية ومسئوليتهما المترتبة على ممارسة تلك الوظيفة.. وبحكم توافر البيانات والمعلومات الخاصة بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية لديهما على نحو يغلب ألا يتوافر مثله للمحاكم. والنتيجة المنطقية التي تترتب على هذه الحقائق السابقة أن على المحكمة أن تمارس درجة أكبر من التحفظ والتزام مظاهر التقييد الذاتي حين يكون الأمر المعروض عليها في المنازعة الدستورية دائرًا حول إقرار أو رفض سياسة اجتماعية أو اقتصادية معينة تبنتها السلطة التشريعية. ولتوكيد هذا النظر السديد نضرب مثالين من الأحكام التي أصدرتها محكمتنا الدستورية العليا في منازعات تتعلق بقضايا اجتماعية يختلف النظر في شأنها على نحو لا تبدو معه حجة مقنعة لترجيح وجهة نظر المحكمة في شأنه على وجهة نظر السلطات العاملة المسئولة دستوريًا عن رسم السياسات الاجتماعية والاقتصادية.

والمثال الأول: هو الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا يوم 6 يناير سنة 1996 في الدعوى الدستورية رقم 5 لسنة 8 قضائية دستورية والمتعلق بمدى حق المطلقة الحاضنة في الاحتفاظ بمسكن الزوجية الذي كانت تقيم فيه قبل طلاقها.. والذي قضت فيه المحكمة بعدم دستورية المادة 18 مكرر من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 استنادًا إلى أنه مخالف لمبادئ الشريعة الإسلامية التي نصت المادة الثانية من الدستور على اعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع.. ولن نتوقف في مناقشتنا لحكم المحكمة عند مسألة العلاقة وبين سائر نصوص الدستور.. إذ إن ما يعنينا هنا إنما هو منهج المحكمة في تناول “السياسية الاجتماعية التي تبناها المشرع” وحدود سلطتها في مخالفة تقدير المشرع والعدول عنه إلى سياسة اجتماعية أخرى تراها المحكمة أوفق وأولى بالاعتبار.

والنص الذي قضت المحكمة بمخالفته للدستور يلزم الزوج المطلق بأن “يهيئ لصغاره من مطلقته ولحاضنتهم المسكن المستقل المناسب، فإذا لم يفعل خلال فترة العدة استمروا في شغل مسكن الزوجية دون المطلق مدة الحضانة وإذا كان مسكن الزوجة غير مؤجر كان من حق الزوج المطلق أن يستقل به إذا هيأ لهم المسكن المستقل المناسب بعد انقضاء مدة العدة، ويخير القاضي الحاضنة بين الاستقلال بمسكن الزوجية وبين أن يقدر لها أجر مسكن مناسب للمحضونين…”.

وقد انتهت المحكمة إلى أن نص المادة 18 مكررًا “ثالثًا” مخالف للدستور فيما نص عليه وتضمنه من:

أولًا: إلزام المطلق بتهيئة مسكن مناسب لصغاره من مطلقته وحاضنتهم ولو كان لهم مال حاضر يكفي لسكناهم، أو كان لحاضنتهم مسكن تقيم فيه، مؤجرًا كان أو غير مؤجر.

ثانيًا: تقييده حق المطلق –إذا كان مسكن الزوجة مؤجرًا- بأن يكون إعداده مسكنًا مناسبًا لصغاره من مطلقته وحاضنتهم واقعًا خلال فترة زمنية لا يتعداها، نهايتها عدة مطلقته. وقد نتفق –من حيث الموضوع- على عدالة وحكمة الرأي الذي تبنته المحكمة في هذا الأمر الدقيق الذي تتنازع في شأنه أمامها مصلحة كل من الزوج المطلق، والزوجة الحاضنة، والأبناء.. ولكن الذي نتوقف عنده ان المحكمة قد قررت صراحة في حكمها أن “النفقة بمختلف صورها وفى مجمل أحكامها، وفيما خلا مبادئها الكلية، لا ينتظمها نص قطعي يكون فاصلًا في مسائلها” كما قررت أنه يسوغ “الاجتهاد في المسائل الاختلافية التي لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها” وعادت فأكدت حق المشرع، ولى الأمر في ممارسة هذا الاجتهاد في المسائل الظنية أو ربطها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية –النقلية منها والعقلية- حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتًا لولى الأمر يستعين عليه في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها، بأهل النظر في الشئون العامة”.

كما ردد الحكم معنى قريبًا من هذا المعنى بقوله إنه قد صار حقًا وواجبًا، “أن يتدخل المشرع ليرد ما قدره ظلمًا بيّنا، وأن يعيد تنظيم الحقوق بين أطرافها”. “ورتب الحكم على ذلك كله إقرار ما قدره المشرع، بالنص المطعون فيه من انتقال حق هؤلاء الصغار من نفقة يفرضها القاضي مبلغًا من النقود إلى عين محقق وجودها هي تلك التي كانوا يشغلونها مع أبويهم قبل طلاق أمهم” مقرًا أنه “لا منافاة في ذلك للشريعة الإسلامية سواء في مبادئها الكلية أو مقاصدها النهائية”.

رغم ما تقدم جميعه، عاد الحكم فأنكر على المشرع ما قررته المادة 18 مكررًا “ثالثًا” من إلزام المطلق بأن يوفر لصغاره من مطلقته، ولحاضنتهم مسكنًا ملائمًا وإلا استمروا من دونه شاغلين مسكن الزوجية، ولو كان لهؤلاء الصغار مال يكفيهم للإنفاق عليهم.. وبنى الحكم هذا الإنكار على مسلك المشرع بأنه “يكون بذلك مرهقًا ودون مقتضى –من يطلقون زوجاتهم ولو كان الطلاق لضرورة لها موردها شرعا مفضيًا إلى وقوعهم كارهين في الحرج، ليكون إعانتهم منافيًا للحق والعدل، ليقترن الطلاق بالبأساء والضراء التي لا مخرج منها”.

وكأنما استشعرت المحكمة أنها أحلت نفسها محل المشرع في التوفيق بين المصالح المتعارضة وترجيح بعضها على بعض، وأنها لم تعتمد ما هو مقرر في الفقه الإسلامي من أنه إذا اختار ولى الأمر رأيًا في المسائل الخلافية، فإنه يترجح “فذهبت إلى تقييده هذا الذي يقرره الفقهاء بأنه “مردود بأن الترجيح عند الخيار بين أمرين لا يكون إلا باتباع أيسرهما ما لم يكن إثمًا” فلا يشرع ولى الأمر حكما يضيق على الناس أو يرهقهم من أمرهم عسرًا، بل يتعين أن يكون بصيرًا لشئونهم بما يصلحها”. ومع اقتناعنا بأن اختيار المحكمة وترجيحها بين المصالح في خصوص المسألة المعروضة عليها قد كان اختيارًا موفقًا وأن له سنده من مبادئ الشريعة التي نص عليها الدستور في مادته الثانية. فلا يزال صحيحًا أن المحكمة بهذا الذي فعلته قد اختارت أن تقتحم ميدانًا شائكًا ودقيقًا وهو ميدان مراجعة السلطة التشريعية في تقديرها للمصالح وترجيح بعضها على بعض، وإيثار سياسة تشريعية تراها أوفق وأصلح وأقرب إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكلية.. وإذا كانت المحكمة قد بنت اختيارها على أساس أن السياسة التي رجحتها من شأنها التيسير على الزوج المطلق، وان اختيارها يجد أساسه في الحديث الصحيح الذي ترويه عائشة رضى الله عنها من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “ما خير بين أمرين إلى اختار أيسرهما”.

 فقد يلاحظ على هذا الاستدلال أنه يشير إلى منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإفتاء والقضاء ولا يتضمن قاعدة تشريعية محددة. وإنما يبقى الخطاب موجهًا إلى المشرع أو ولى الأمر، فيما يضعه من نصوص، وما تتضمنه تلك النصوص من أحكام. كما أن الأمر في خصوص موضوع الدعوى لا يكفي في حسمه مبدأ القول بضرورة اتباع الأيسر، إذ نحن هنا أمام مصالح متعارضة لأفراد متساوين، الأب المطلق، والصغار، والمطلقة الحاضنة، فما يكون تيسيرًا لواحد من الثلاثة قد يكون تعسيرًا وإعناتا للآخرين.

ويبقى أن نص المادة الثانية من الدستور حين ألزم المشرع باحترام “مبادئ الشريعة” بدلًا من إلزامه بأحكام الشريعة، قد منح المحكمة الدستورية العليا سلطة أكثر اتساعًا، تستطيع في ظلها أن تقضى بعدم دستورية أي نص تشريعي إذا رأت فيه خروجًا على ما يقتضيه إعمال مبدأ من مبادئ الشريعة” ولو لم يتمثل هذا الخروج في مخالفة نص بعينه من نصوص الشريعة، قطعية لورود وقطيعة الدلالة وبهذا يقترب قضاء المحكمة اقترابًا كثيرًا من مراجعة ملاءمة التشريع.

كما يبقى أن نلاحظ أن “ولى الأمر” الذي يتوجه إليه الخطاب النبوي، يشمل في عصرنـا الحاضر سلطات الدولة المختلفة التي إليها أمر الجماعة، ولا تختص به -بالضرورة- واحدة من تلك السلطات دون سائرها، وأن المرجع في نهاية الأمر إلى ما حدده دستور الدولة وما رسمه من علاقة بين تلك السلطات.. وأن أولى تلك السلطات بمباشرة هذا التقدير للمصالح المتعارضة، هي السلطة التشريعية المنتخبة بحسبانها أدنى السلطات إلى التعبير عن التقدير الجماعي للمصالح المعتبرة، وكيفية التوفيق بينها أو ترجيح بعضها على بعض.

أما المثال الثاني:

الذي يكشف عن مدى تدخل المحكمة في وزن وتقدير الاعتبارات الاجتماعية التي تحيط ببعض التشريعات فتعبر عنه سلسلة من أحكامها التي تعرضت لضبط العلاقة بين المستأجرين والمؤجرين للأماكن السكنية، وهي علاقة بالغة التعقيد والدقة.. ويرجع ذلك إلى أمرين أحاط بمسلك المشرع المصري في ضبط هذه العلاقة.. فبعد قيام ثورة 1952 كان التوجه التشريعي العام هو [تجميد] السعر لحماية المستأجرين باعتبارهم “حينذاك الطرف الأضعف والأكثر حاجة لحماية المشرع، وذلك في مواجهة الملاك المؤجرين الذين افترض المشرع أنها الطرف الأقوى الذي يستبد عامة بالمستأجرين خصوصًا بعد ان استحكمت أزمة الإسكان.. وصار من يتهدد بفقد مسكنه بانتهاء مدة عقده أو بإنهائه من جانب، المالك والمؤجر، معرضًا لعنوة وعنت لا حدود لهما واستمر هذا التوجه التشريعي سنين طويلة، تغيرت خلالها أوضاع اقتصادية واجتماعية.

وتبينت خلالها كذلك حقائق كان بعضها قد غاب عن المشرع الذي أصدر عدة قوانين تنظيم هذه العلاقة، فقد تفتتت الطبقة التي كانت تسمى طبقة الملاك، وتراجعت قوتها الاقتصادية بما ترتب على القوانين المنظمة للعلاقة بين المؤجرين والمستأجرين من “تجميد” الأجرة المستحقة لهؤلاء الملاك، تجميدًا قلب العلاقة بينهم وبين المستأجرين رأسًا على عقب، كما أدى إلى ظهور مفارقات صارخة وغير مقبولة بين فئات مختلفة من الملاك، وأصبح بعض الأثرياء من المستأجرين لا يدفعون لبعض الفقراء من الملاك المؤجرين، إلا فتات لا يتناسب البتة مع قيمة العقارات المستأجرة، ولا يكاد يسد رمق أولئك الملاك الذين انتقلوا من فئة الموسرين إلى فئة المعسرين المحتاجين. وإذ استمر هذا الخلل سنين طويلة، فقد تصور الملاك المؤجرين أن وضعهم هذا أنشأ لهم في مواجهة المستأجرين وفى مواجهة المشرع حقوقًا مكتسبة لا يجوز المساس بها، لذلك صار من الصعب أن يتدخل المشرع ليتوجه بتشريعاته في اتجاه إعادة التوازن بين طرفي عقود الإيجار، ورد العلاقة الاجتماعية والقانونية بين أولئك الأطراف إلى ميزان الاعتداد الذي لا يظلم الناس فيه ولا يظلمون.

ولقد هم المشرع غير مرة بتدارك هذا الخلل، وكثر الحديث عن مشروعات لقوانين تعيد تنظيم العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين، ولكن الضغوط السياسية والاجتماعية التي تعرض لها المشرع، قد حالت دون إتمام هذا الأمر الذي صار التراخي عنه سببا لمظالم عديدة ولخلل يوشك أن يهدد السلام الاجتماعي بين فئات الناس، وفى ذروة هذه الأزمة بدا للمحكمة الدستورية حين وصل الأمر إليها، أن تؤدى بسلسلة موصولة من أحكامها، جزءًا من الدور الذي تراخى التشريع عن أدائه. فأصدرت عدة أحكام كان لها أثرها المباشر على مجمل العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين وحسبنا أن نشير إلى الأحكام التي قررت عدم دستورية نصوص عديدة كانت تسرف في حماية المستأجرين على نحو أوشك معه حقهم أن يتحول من حق شخصي مستمد من العقد إلى حق عيني شبيه بالملكية مستمد من نصوص القوانين.. كما أوشكت عقود الإيجار أن تتحول إلى عقود مؤبدة، لا يملك المؤجر إنهاءها واسترداد ما له من حق على العقار الذي يملكه قانونًا، ويستأثر به وبمنفعته المستأجرون فعلًا.

(أ) في مقدمة هذه الأحكام ما انتهت إليه المحكمة من عدم دستورية ما تضمنته المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر من استمرار عقد إيجار المسكن -عند ترك المستأجر الأصلي له- لصالح أقاربه بالمصاهرة حتى الدرجة الثالثة الذين أقاموا معه في العين المستأجرة مدة سنة على الأقل سابقة على تركه العين أو مدة شغله لها (القضية رقم 6 لسنة 9 قضائية دستورية- الحكم الصادر بجلسة 18 مارس 1995).

(ب) ومنها ما قضت به من عدم دستورية الفقرة الثانية من ذات المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فيما نصت عليه من استمرار شركاء المستأجر الأصلي للعين التي كان يزاول فيها نشاطًا تجاريًا أو صناعيًا أو مهنيًا أو حرفيًا في مباشرة ذات النشاط بها بعد تخلى هذا المستأجر عنها (القضية رقم 4 لسنة 19 ق د- الحكم الصادر في 6 يوليو 1996).

(ج) وما قضت به من عدم دستورية ذات النص “الفقرة الثانية من المادة 29 من القانون 49 لسنة 1977- فيما نصت عليه من استمرار الإجارة التي عقدها المستأجر في شأن العين التي استأجرها لمزاولة نشاط حرفي أو تجارى لصالح ورثته بعد وفاته”.

ولما كانت المبادئ التي قررتها هذه الأحكام تدور كلها حول استعادة التوازن بين مصالح المستأجر وتطلعاته و مصالح المؤجر وحقوقه وكان الحكم الصادر في 18 مارس سنة 1995، قد حوى أهم الأسانيد التي استندت إليها سائر هذه الأحكام لتبرير التوجه الجديد للمحكمة، فإننا سنكتفى باستعراض أهم ما تضمنه هذا الحكم الصادر في 18 مارس 1995 من مبادئ وهو -فيما نرى- حكم بالغ الأهمية في تحديد رؤية المحكمة للعلاقة بين المستأجر والمؤجر، وفى تحديد ما تراه أساسًا دستوريًا لمسلكها في إقامة هذا التوازن وأساسا -كذلك- لمخالفتها توجه المشرع الذي عبرت عنه النصوص التي رأت المحكمة مخالفتها للدستور”.

(أ) لاحظت المحكمة -بحق- أن نطاق الطعن الماثل أمامها لا ينحصر فيما قررته المادة 29 سالفة الذكر.. وإنما يمتد إلى الأحكام ذاتها التي تبنتها المادة 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981 لصالح هذه الفئة عينها، ومن ثم امتد عدم الدستورية إليها هي الأخرى.

(ب) حدد الحكم، بوضوح لا مزيد عليه، موقف المحكمة من السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق مقررًا أن الأصل في هذا السلطة أنها تقديرية، ما لم يفرض الدستور على ممارستها قيودًا لا يجوز تخطيها. وأن المشرع في مجال تنظيم العلائق الإيجارية، وإن قرر من النصوص القانونية ما ارتآه محققا للتوازن بين أطرافها، “إلا أن هذا التوازن لا يجوز أن يكون صوريًا أو منتحلًا أو سرابًا، بل يجب أن يعكس حقيقة قانونية لا مماراة فيها، ليكون التنظيم التشريعي لحقوق المؤجرين والمستأجرين في دائرتها منصفًا لا متحيفًا، متضمنًا الحقائق الموضوعية وليس متعلقًا بأهدابها الشكلية”.

وانتهت المحكمة إلى أن القيود التي يفرضها المشرع على حق الملكية “أي حق المؤجرين الملاك: لا يجوز أن تكون مدخلا لإثراء مستأجر العين وإفقار مالكها، ولا أن، يحصل المستأجر من خلالها على حقوق لا يسوغها مركزه القانوني في مواجهة المؤجر، وإلا حض تقريرها على الانتهاز، وكان قرينة الاستغلال”. وبهذه العبارة تأكد أن المحكمة تقتحم فعلًا، وهي عالمة تمامًا، مجال السلطة التقديرية التي تختص بها -أصلًا- السلطة التشريعية، وكأنها تعيد للعلاقة بين المستأجرين والمؤجرين توازنًا عادلًا أخلت به نصوص القوانين التي قضت المحكمة بعدم دستوريتها.

(ج) وبسبب إدراك المحكمة لما قد يوجه لهذا الاقتحام الجريء من نقد أو ما قد يحيط به من تحفظ.. فقد توسعت في عرض مبررات هذا الاقتحام، واصفة تدخل المشرع بالنصوص محل الطعن بأنه “شطط وقلب للموازين” وأن من شأنه أن يجعل مغبون الأمس وهو المستأجر “غابنا” وأن من شأن هذا كله “أن يحل الصراع بين هذين العاقدين بديلًا عن اتصال التعاون بينهما”.

(د) لاحظت المحكمة -بحق كذلك- أن النص المطعون فيه يندرج تحت التشريعات الاستثنائية التي تدخل بها المشرع لمواجهة الأزمة المتفاقمة الناشئة عن قلة المعروض من الأماكن المهيأة للسكنى.. إلا أنها لاحظت -بحق كذلك- “أن الطبيعة الاستثنائية لهذه التشريعات التي اعتبر المشرع أحكامها من النظام العام لإبطال كل اتفاق على خلافها.. لا تعصمها من الخضوع للدستور، بل يجب “أن يكون مناط سلامتها هو اتفاقها مع الدستور، ويجب بالتالي أن تقدر الضرورة المواجهة لهذا التنظيم الخاص بقدرها، وأن تدور معها وجودًا وعدما تلك القيود التي ترتبط بها وترتد إليها باعتبارها مناط مشروعيتها وعلة استمرارها.

(هـ) ولم تكتف المحكمة بهذا التدليل المستمد من الطبيعة الاستثنائية للتشريعات محل الطعن.. وإنما عادت لتقيم حجة إضافية مستمدة من تحديد مصدر حق مستأجر العين في استعمالها مُّذكرة بأن هذا الحق مصدره العقد دائمًا، وأنه لا يزال حقًا شخصيًا.. وليس حقًا عينيًا ينحل إلى سلطة مباشرة على العين المؤجرة ذاتها يمارسها مستأجرها دون تدخل من مؤجرها، ولازم ذلك أن يكون بقاء مستأجر العين فيها مرتبطا بضرورة شغلها بوصفها مكانا يؤويه هو أسرته، فإذا تخلى عنها تاركا لها، وأفصح بذلك عن قصده انهارت الإجارة التي كان طرفًا فيها وزايلته الأحكام الاستثنائية التي بسطها المشرع عليه لحمايته.

وانتهت المحكمة من عرضها لهذه الحجة الإضافية إلى أن المشرع آثر بالنص المطعون فيه أن يمنح -بالشروط التي حددها- مزية استثنائية يقتحم بأبعادها حق الملكية انتهاكًا لمجالاتها الحيوية التي لا يجوز أن يمسها المشرع إخلالًا بها، ذلك أن منفعة العين المؤجرة تنتقل بموجبها (أي بموجب هذه المزية الاستثنائية) من مستأجرها الأصلي إلى غيره من أقربائه بالمصاهرة حتى الدرجة الثالثة، ليحل هؤلاء محل المستأجر الأصلي في العين التي كان يشغلها الأبناء على تعاقد تم بينهما مثلما هو الأمر في شأن التأجير من الباطن أو التنازل عن الإجارة، بل بقوة القانون.

ومضت المحكمة تردد هذا المعنى وتقلبه على جوانبه كلها مقررة أن ما فعله النص الطعين “يناقض خصائص الإجارة” وأنه “ينحل إلى عدوان على الملكية من خلال نقضه بعض عناصرها، وهو بذلك لا يندرج تحت تنظيمها، بل يقوم على إهدار كامل للحق في استعمالها واستغلالها”. ملحقًا بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش “وأن المشرع بهذا قد خرج على قاعدة التضامن الاجتماعي التي أرستها المادة (7) من الدستور”. وهو “ما يخل بالحدود التي ينبغي أن يتم تنظيم الملكية في نطاقها” مما يصم النص المطعون فيه بإهدار أحكام المواد 2، 7، 32، 34 من الدستور”.

ومما يستحق التنويه في هذا المقام أن المحكمة الدستورية قد تابعت في عدد من أحكامها الحديثة هذا التوجه الجديد في استعادة التوازن بين المؤجر والمستأجر استعادة تتأكد بها حماية الملكية الخاصة التي قررها الدستور، ونشير في ذلك إلى حكم حديث للمحكمة صادر في 3 نوفمبر 2002 في القضية رقم 70 لسنة 18 ق.

(و) انتهت فيه إلى عدم دستورية الفقرة الثالثة من المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 “فيما لم يتضمنه من النص على انتهاء عقد الإيجار الذي يلتزم المؤجر بتحريره لمن لهم الحق في شغل العين بانتهاء إقامة آخرهم بها سواء بالوفاة أو الترك”. ولهذا الحكم في تقديرنا دلالة مزدوجة فهو يعبر -من ناحية– عن مواصلة المحكمة جهدها الذي أشرنا إليه في إعادة التوازن بين حقوق المالك وحقوق المستأجر، كما أنه يعبر-فوق ذلك ومعه- عن ولاء المحكمة لتراثها الذي صار راسخًا وثابتًا في حماية الحقوق والحريات التي كفلها الدستور، وهو ولاء نتمنى ونتوقع أن يستمر وأن يتضاعف يومًا بعد يوم.

ولا نملك في نهاية استعراضنا لهذه الأحكام العديدة التي سعت بها المحكمة إلى إعادة التوازن بين حقوق المستأجرين وحقوق المؤجرين إلا أن نقرر أمرين: هما خلاصة تقييمنا لقضاء محكمتنا الدستورية في هذا المجال الاجتماعي الذي يعبر عن أزمة تعرضت لها حياتنا العامة بسبب صعوبة تحقيق التوازن والمصالحة بين فئتين كبيرتين من فئات المجتمع، لكل منهما مصالحها، ولكل منهما من يدافع عن تلك المصالح أمام الرأي العام وداخل المجلس التشريعي. الأمر الأول: أن المحكمة قد شيدت بناء قانونيًا ودستوريًا شديد التماسك لتتمكن من مواجهة هذا التناقض البيّن بين مصالح المؤجرين والمستأجرين. مستخدمة فيه كل ما امتد إليه نظرها من المبادئ القانونية. وفى مقدمتها ضرورة احترام حقوق الملكية الخاصة التي كفلها الدستور، وضرورة احترام المصدر التعاقدي لحقوق كل من المستأجرين والمؤجرين. وطبيعة التأقيت الملازم لعقد الإجارة في القانون، وفى الشريعة الإسلامية على السواء، وفوق هذا كله، وقبله أن السلطة التقديرية للمشرع في مثل هذه الأمور، لا يمكن أن تغل يد المحكمة عن بسط رقابتها على ممارسة تلك السلطة.

الأمر الثاني: أن هذا القضاء يمثل -في مجموعه- خطوة بالغة الجسارة وبعيدة الآثار في تحديد علاقة السلطة القضائية بالسلطة التشريعية.. وبهذه الخطوة انتحلت المحكمة لنفسها سلطة “إصلاح” الخطأ البيّن الذي قد تقع فيه السلطة التشريعية في ممارسة وظيفتها الدستورية في سن القوانين. وسلطة المحكمة في ذلك لا تختلف كثيرًا عن سلطة المحاكم الإدارية المقررة في الفقه والقضاء الإداريين لمراقبة ما قد يشوب السلطة التقديرية للإدارة من “غلو” وهو “الغلو” الذي وجد فيه قضاؤنا الإداري، مبررًا وأساسًا للقضاء بإلغاء القرار الإداري باعتبار ذلك الغلو سببًا مستقلًا للإلغاء أو باعتباره قرينة على الانحراف بالسلطة، وهو شبيه كذلك بما قرره مجلس الدولة الفرنسي لنفسه من سلطة إلغاء القرار الإداري إذا شابه خطأ صارخ- في التقدير.

وقد لا تكون هذه الصيغة الجديدة للعلاقة بين السلطتين القضائية والتشريعية هي الصيغة التي قام عليها دستورنا حين أخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.. ولكنها فيما نرى صيغة صالحة، ولكن في أضيق الحدود، لعلاج عجز المشرع أو تراخيه في بعض الحالات الاستثنائية عن إصلاح خلل حالت استطالة مدته وتمسك بعض الأطراف به استدامة لمصالحهم وما يرونه حقوقا اكتسبوها، دون تدخل المشرع ليضع -بقاعدة عامة جديدة- نهاية لما وقع من إخلال بالتوازن الضروري بين مصالح الفئات المختلفة، ولهذا ومع تقديرنا للضرورة التي دفعت المحكمة الدستورية إلى هذا النوع من التدخل، ومع إعجابنا بدقة وإحكام البناء القانوني الذي شيدت عليه قضاءها، فإننا لا نملك إلا أن نتوجه إلى المحكمة -التي يعلم الله كم نعتز بها وكيف نرى فيها خط دفاع كبير عن الحقوق والحريات والضمانات التي قررتها نصوص الدستور- كي لا تتوسع في استخدام سلطتها هذه، وأن تعتبر اللجوء إليها استثناء شبيهًا بالتدخل الجراحي الذي تقضى الحكمة بعدم اللجوء إليه إلا عند الضرورة القصوى وبعد أن يتحقق عدم جدوى سائر وسائل التدارك والعلاج.

إن التزام الحذر الواجب في ممارسة هذه السلطة التي قررتها المحكمة لنفسها من شأنه أن تتراجع أو تذهب إلى غير رجعة الدعوات التي ارتفعت منذ سنوات قليلة منادية بوضع قيود على سلطة المحكمة، من شأن الأخذ بها على ما سوف نبينه أن تتراجع الفرص الحقيقية لحماية الشرعية الدستورية، وتتراجع معها فرص حماية سائر الحقوق والحريات التي قررتها نصوص الدستور.

ثانيًا: الوسائل الفنية التي تستطيع المحكمة الدستورية أن تعدل بها عن بعض أحكامها القديمة:

مضى على إنشاء محكمتنا الدستورية ما تعد [يزيد] على اثنين وعشرين عامًا، أصدرت خلالها أكثر من 2500 حكمًا.. يقع أكثرها في ميدان الطعون بعدم دستورية القوانين.. وهي أحكام تتناول ألوانًا عدة من الموضوعات.. منها ما يتصل على [بمبدأ] المساواة في مجالاته المختلفة ومنها ما يتعلق ببيان طبيعة وحدود الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور.. ومنها -على ما بينّا في الجزء الأول من هذا البحث- ما يقع في مجالات بالغة الدقة من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وإذا كان جوهر العمل القضائي -بصوره كلها- يتمثل في إنزال حكم القانون على الوقائع المتنازع حولها.. وكانت تلك الوقائع متجددة متطورة.. ومع التسليم أن نصوص الدستور المصري تعلو -بحكم الجمود النسبي المقرر لها- على موجبات التغير المتكرر السريع.. فلا يزال صحيحًا أن الإطار الواقعي والموضوعي الذي تجرى في ظله مهمة “تنزيل حكم النصوص على وقائع الدعاوى والمنازعات” هذا الإطار متغير ومتجدد في بعض عناصره على الأقل على نحو قد ترى معه المحكمة أن الأمر يدعو إلى مراجعة بعض أحكامها السابقة، خصوصًا تلك التي مضى على صدورها أمد بعيد أو تلك التي كشفت الممارسة العملية عن أضرار ومظالم سببتها لأطراف النزاع أو لغيرهم ممن لم يكونوا طرفًا في الخصومات القضائية. ولأمر ما لا يزال خافيًا عنا، تصورت المحكمة ومعها جانب كبير من الفقه، وجانب كبير كذلك ممن يعبرون عن الرأي العام.. أن الأصل هو امتناع المحكمة عن ممارسة هذا “العدول” عن الأحكام القديمة.. ومواصلة الالتزام بما جرت به وقررته تلك الأحكام أيا كان وجه الرأي فيما قضت به وانتهت إليه. ولا بد لنا ونحن نعالج هذه القضية الفنية الدقيقة أن نذكر أمرين لا بد أن يكون لهما وزن كبير في تحديد منهج هذه المعالجة.

الأمر الأول: أن مصر ليست من الدول التي يقرر نظامها القانوني مبدأ حجية السوابق القضائية Slare Decisis المقرر والمعروف في النظام القانوني الأنجلو سكسونى أو الأنجلو أمريكي كما يقال اليوم.

إن هذا المبدأ، غير المقرر في مصر، يجد مبرره الأساسي في ضرورة المحافظة على استقرار المعاملات، من خلال استقرار المبادئ التي تتضمنها الأحكام القضائية.. وهو اعتبار له قيمته التي لا يجادل فيها أحد.. ولكن إعماله وحده وتجاهل ما قد يطرأ على الجماعة من موجبات التطور والتغيير يحول الاستقرار Stability إلى جمود وتحجر Stagnation and rigidity ومن ثم لا يتصور الرفض المطلق لمراجعة بعض المبادئ التي قررتها الأحكام السابقة للمحكمة والتي تظهر الحاجة واضحة إلى مراجعتها في ظل ما طرأ بعد صدورها من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية تستوجب تلك المراجعة.

الأمر الثاني: أن للمسألة خصوصية متميزة حين تتصل بالقضاء الدستوري وحين تتصل -بصفة خاصة- بالمبادئ التي قررتها الأحكام السابقة حماية للحريات وإعمالًا للحقوق والضمانات التي قررتها نصوص الدستور، إذا إن القيمة الحقيقية لتلك المبادئ لا تتمثل في حماية حقوق وحريات من يلجؤون إلى المحكمة سعيًا لحماية تلك الحقوق والحريات، ووقوفًا في وجه كل صور “الخروج على الدستور” التي تمس مصالحهم.. وإنما تشكل تلك المبادئ “حرمًا” آمنا حول حقوق الأمة وأفرادها جميعًا.. قد تحوم حوله سلطات الحكم وتحدثها نفسها بالمساس به ولكنها تتردد طويلًا قبل اقتحامه والولوغ فيه بسبب حراسة المحكمة له وقيامها على احترامه.. لذلك يتجنب كثيرون تشجيع المحكمة على العدول عن أحكامها القديمة، اعتقادًا بأن الراجح، أن يكون ذلك العدول تراجعا عن بعض المبادئ التي قررتها الأحكام القديمة، وانتقاصا من الحقوق والحريات التي استقرت الأحكام على امتناع المساس بها، وترخصًا في إعمال مبادئ الشرعية الدستورية وسيادة القانون وكلها أمور نتمنى ألا تكون، ولا نتصور –مطلقًا- أن يكون شيء من ذلك وراء البحث عن سلطة المحكمة في العدول عن بعض ما قررته أحكامها السابقة، كما لا نحب -من ناحية أخرى- أن تؤدى هذه الهواجس إلى إجهاض البحث الضروري عن “الوسائل الفنية” التي تفتح الباب أمام المحكمة لتجديد قضائها في ميادينه المختلفة. أما قضية “التراجع” الذي يخشى منه البعض، فتظل أمرًا متعلقًا بالسياسة القضائية للمحكمة، مرجعه في النهاية إلى تصورها لعلاقتها بسائر السلطات، ووعيها- الذي لا نشك فيه أبدًا- بأهمية الدور الكبير الذي تؤديه في تثبيت دعائم الشرعية الدستورية، وإقرار السلام الاجتماعي والسياسي وهو سلام لا قيام له ولا دوام إلا بإلزام سلطات الحكم جميعها بنصوص الدستور ومبادئه، وهي المهمة الكبرى التي وكلها الدستور إلى المحكمة الدستورية، واختصها بها، دون غيرها على ما تقول المادة 175 من الدستور.

ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة وهى التي تعمل في ظل مبدأ حجية السوابق القضائية لم تلتزم هذا المبدأ في المجال الدستوري بصفة خاصة، وأنها عبرت- في وقت مبكر للغاية- عن القيمة النسبية لهذا المبدأ، وذلك عام 1849 في القضية المعروفة باسم The Passenger Cas مقررة أن “القاعدة التي تجرى عليها هذه المحكمة هي أن آراءها في تفسير الدستور تظل دائمًا مفتوحة للبحث، لإعادة النظر فيها إذا تبين أنها أقيمت على أساس خاطئ، وحجية هذه الآراء يجب ألا تعتمد إلا على قوة ما تستند إليه من منطق وتدليل”. كما عاد القاضي الشهير براندايز Brandies فشرح موقف المحكمة من مبدأ حجية السوابق القضائية حين يتصل الأمر بتفسير الدستور، وذلك في رأى مخالف له Dissenting Opinion عام 1932 في قضية شركة كورونادو للزيت، ذهب فيه إلى أنه “حين يتصل الأمر بتفسير الدستور الاتحادي، ويتعذر تصحيح الأخطاء القضائية بإصدار تشريعات جديدة، فقد جرت هذه المحكمة على تصحيح أخطائها بنفسها عن طريق نقض أحكامها السابقة، نازلة بذلك عند حكم التجربة وما يتضح أنه الأصح والأسلم من المبادئ القانونية”.

بل إن بعض الشراح الإنجليز أنفسهم يرون أن القوة الملزمة لمبدأ حجية السوابق القضائية تقل كثيرًا حين يتصل الأمر بالمصالح العامة والنظام العام للمجتمع Public Policy “عن مؤلف فريدمان المشهورLegal Theory ص 330” فإذا كان هذا مسلك القضاء في إنجلترا والولايات المتحدة، وهما مصدر قاعدة إلزام السوابق القضائية.. فلا معنى للتردد في فتح الباب أمام التطور الطبيعي للقضاء الدستوري مواكبة للتطور السياسي والاجتماعي، مادامت هذه المواكبة تتم من خلال منهج موضوعي منضبط، لا يتسلل إليه ضعف أو هوى أو يتحكم فيه تأثر بترغيب أو ترهيب وكلها أمور يتنزه عنها كل قضاء عادل ومستقل.

فإذا انتقلنا إلى مناقشة الوسائل الفنية التي تستطيع محكمتنا الدستورية أن تلجأ إليها للعدول عن مبدأ قررته في بعض أحكامها السابقة ذكرنا أن هناك وسائل فنية ثلاث تستطيع المحكمة أن تستخدمها لتحقيق العدول عن مبدأ سبق أن قررته بعض أحكامها القديمة.

 الوسيلة الأولى: هي ما يعرف في لغة القضاء بتمييز “السابقة القديمة” عن “القضية الماثلة” أمام المحكمة Disting uishing a Precent. هذا هو الطريق التقليدي الذي يلجأ إليه القضاء الأنجلو سكسونى عبر مئات السنين.. حتى يتخلص من الآثار العملية الضارة والناتجة عن التطبيق الحرفي الجامد لمبدأ حجية السوابق القضائية، ومؤدى هذا الطريق أن تقرر المحكمة أن وقائع الدعوى الجديدة الماثلة أمامها تختلف عن الوقائع التي كانت معروضة عليها حين أصدرت أحكامها في السوابق القديمة ومعلوم أن القضاء في الدول الأنجلوسكسونية قد بلغ في سبيل “تمييز الدعاوى الماثلة عن السوابق القديمة” مبلغًا غير مقبول.. وأنه كثيرًا ما بنى عدوله عن المبدأ القديم على مفارقات بين وقائع الدعويين لا وزن لها ولا قيمة وما كان ينبغي أن يكون لها تأثير يستوجب العدول عن المبدأ القديم. وما دمنا قد انتهينا إلى أن قضاء محكمتنا الدستورية لا يحكمه التزام صارم بالسوابق.. فإن الحاجة لا تقوم في مصر إلى افتعال مفارقات بين وقائع تلك السوابق، ووقائع الدعاوى الجديدة الماثلة سعيًا إلى التخلص من تلك السوابق وإنما يتبقى أمام محكمتنا الدستورية وسيلتان فنيتان أخريان تملك المحكمة الاختيار بينهما. الوسيلة الثانية: مؤداها أن تتجاهل المحكمة الحكم القديم الذي تريد العدول عنه.. ولا تشير إليه مطلقا في حكمها الجديد مكتفية بتقرير مبدأ قانوني مخالف، أو تفسير للدستور مغاير للتفسير الذي سبق لها أن تبنته.. والواقع أن هذا التجاهل أيسر على المحكمة إذا كانت السابقة القضائية المخالفة قد مضى عليها زمن طويل تغيرت خلاله الأوضاع والملابسات المحيطة بموضوع الدعوى تغيرًا كبيرًا يبرر العدول عن المبدأ القديم.

ومن الأمثلة الشهيرة التي يسوقها الشراح الأمريكيون في هذا الصدد حكم المحكمة العليا الاتحادية عام 1917 في قضية بانتنج ضد أوريجون حيث قررت المحكمة الدستورية قانونًا صادرًا في ولاية أوريجون متضمنا تحديد حد أقصى لساعات العمل في المصانع، ناقضة بذلك حكما قديما شهيرا يرجع إلى عام 1905 صادرًا في قضية لوتشنر Lochner v.new york ضد نيويورك وفيه قضت المحكمة بعدم دستورية تشريع صادر في نيويورك يضع حدًا أقصى لساعات العمل في المخابر وكان هذا العدول تعبيرًا عن نظرة جديدة إلى سلطة الدولة في التدخل في حرية الأفراد في التعاقد، وإلى نظرة المحكمة لحدود هذه الحرية فبعد أن كانت المحكمة تتبنى تصورًا مسرفًا في احترام حرية التعاقد، يحول بين المشرع وبين حماية مصالح عامة ترجح عند المفاضلة على حرية الأفراد في التعاقد عادت فقيدت هذه الحرية رعاية لمصلحة عامة راجحة هي حماية العمال من استغلال حاجاتهم للعمل من جانب أصحاب المصانع وأرباب الأعمال، وتشغيلهم ساعات طويلة من شأنها أن تمس صحتهم وأن تعرضهم لأضرار قدر المشرع أهمية حمايتهم منها. وقد تفاوت النظر في تقدير هذه الوسيلة الفنية وفى المفاضلة بينها وبين التصريح بنقض السابقة القديمة.

فالميزة الكبرى لهذه الوسيلة أنها تيسر للمحكمة تصحيح أخطائها في هدوء، ودون إثارة للرأي العام، أو رأى بعض أصحاب المصالح، إلا أنها من ناحية أخرى تفتح الباب أمام المحكمة كي تعود إلى السابقة القديمة مادامت لم تنقض صراحة، وهو ما ينزع الاستقرار ويفضى إلى الاضطراب في المعاملات لذلك وجدنا المحكمة العليا الأمريكية تعود مرة أخرى عام 1923 إلى المبدأ الذي كانت قد قررته عام 1905، ذاهبة في قضية أدكنز ضد مستشفى الأطفال Adkins V.childern`s Hospital إلى عدم دستورية تشريع يضع حدًا أدنى لأجور النساء في العمل، زاعمة أن المبدأ الذي تقرر عام 1905 في قضية لوتشنر، هو السابقة المعتمدة وأنه لم ينقض أبدًا وفى تقديرنا أن المحكمة في مفاضلتها بين حكمين سابقين متناقضين من أحكامها ستجد نفسها مضطرة دائما إلى تمييز وقائع الدعوى الماثلة أمامها عن واحدة من السوابق التي تريد العدول عنها وتقريب تلك من الوقائع الدعوى التي نرى فيها “السابقة الملزمة لها”. وهو ما يفتح -بدوره- بابًا للحيرة في معرفة المبادئ الملزمة التي قررتها المحكمة في أحكامها المختلفة أو في تصور ما سوف تكون عليه الأحكام الجديدة حين يعرض الأمر مرة أخرى على المحكمة.

أما السبيل الثالث: الذي تملكه المحكمة والذي تلجأ إليه مضطرة إذا كان الحكم الذي تريد العدول عنه حديث العهد، لم ينسه المتقاضون ولا تملك المحكمة لذلك تجاهله والسكوت عنه. فهو العدول الصريح عما قرره الحكم القديم والتصريح بأن السابقة القديمة قد نقضت بقضائها الجديد. ومن الملابسات التي تسهل على المحكمة انتهاج هذا الأسلوب الأخير أن تكون السياسة التشريعية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية قد تغيرت تغيرًا جذريًا.. على نحو يكون معه التمسك بالسابقة القديمة وقوفًا في وجه حركة المجتمع، والتزامًا بما لا يلزم من رؤى ومفاهيم عدل المجتمع عنها واتجه إلى سواها.. وقد حدث هذا في الولايات المتحدة في أعقاب أزمة أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي بين الرئيس روزفلت والمحكمة العليا حول سياسته الاقتصادية الجديدة New Deal التي تبنت صورًا لم تكن مألوفة من صور التدخل الحكومي في العلاقات الاقتصادية وهى الأزمة التي انتهت -في أعقاب نجاح الرئيس روزفلت في الانتخابات عام 1936- إلى عدول المحكمة السريع عن سلسلة من أحكامها كانت قد قررت فيها عدم دستورية أجزاء كبيرة من برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي تبناه الرئيس روزفلت ومعه الكونجرس وبسبب السرعة التي جرى بها عدول المحكمة عن قضاء موصول لها فقد كان هذا العدول موضوع لنقد شديد تزعمه بعض أعضاء المحكمة وعلى رأسهم القاضي روبرتس الذي ذهب في رأى مخالف له عام 1944 إلى أن “هيبة المحكمة واحترامها لابد أن تسقط عند جمهور المتقاضين وعند المحامين حين يعملون أن شيئًا مما قالته لا يلزمها في الدعاوى الجديدة المنظورة أمامها”. ويظل الأمر في النهاية مرتبطًا بسياسة المحكمة ومدى قدرتها على التوفيق بين اعتبارات الاستقرار والاستمرار، واعتبارات الرجوع إلى الحق حين يتكشف وجه الخصومة- أو يتبين مقدار الضرر الذي سببه حكم قديم لها.

وفى ختام هذا الجزء من البحث المقرر [نقرر] الأمور الآتية:

1 – إن التعميم في مناقشة هذه المشكلة نقض [يقود] لا محالة إلى الخطأ، وأن المنهج السليم في تقدير مسلك المحكمة حين تعدل عن قضاء قديم لها ينبغي أن يتجه البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا العدول في كل حالة على حدة، وأن توزن الأضرار الناتجة عن هذا العدول بالأضرار الناتجة من استمرار المحكمة في تطبيقها لسابقة فسادها، أو تغيرت دواعي وأسباب الحكم الصادر فيها.

2 – يدل استقرار أحكام المحكمة العليا من بعدها المحكمة الدستورية العليا في مصر.. على أن المحكمتين وإن لم تعرضا على نحو مباشر لمناقشة حق المحكمة في العدول عن بضعة أحكامها القديمة.. إلا أن هناك أحكامًا غير قليلة عدلت فيها المحكمة فعلًا عن مبادئ قررتها في أحكام سابقة دون أن تصرح صراحةً بهذا العدول.. أي أنها اتبعت الوسيلة الفنية الثانية التي عرضناها فيما سبق. من ذلك على سبيل المثال أن المحكمة الدستورية قد رفضت بحكم شهير لها الصادر في القضية رقم 20 للسنة الأولى القضائية (دستورية) الطعن بعدم دستورية ما تقرره المادة 226 من القانون المدني من فوائد يدفعها المدين بمبلغ من النقود معلوم المقدار نظير تأخره عن السداد، وهي فوائد مقدارها 4% في المسائل المدنية و5% في المسائل “التجارية”.. وكان من أسباب هذا الطعن مخالفة هذا الحكم لأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها التي أصبحت منذ عام 1980 المصدر الرئيسي للتشريع بمقتضى التعديل الذي تقرر في تلك السنة للمادة الثانية من الدستور.

واستندت المحكمة في رفض هذا الطعن إلى أن المادة 226 المطعون بعدم دستوريتها قد صدرت عام 1948، أي قبل نفاذ المادة الثانية من الدستور، حتى قبل تعديل نصها الأصلي الذي تضمنه دستور عام 1971، وأن القيد الذي فرضه المشرع الدستوري على الدستور لا ينصرف إلا إلى التشريعات التي تصدر بعد نفاذ المادة الثانية من الدستور. وهذا الذي انتهت إليه المحكمة مخالف تمامًا لما سبق للمحكمة العليا أن قررته في عدة أحكام لها منها حكمها الذي أصدرته المحكمة في 6 نوفمبر 1971 مقررة عدم دستورية القرار بقانون رقم 31 لسنة 1963 بتعديل المادة 12 من قانون مجلس الدولة الصادر عام 1959 فيما نصت عليه من اعتبار القرارات الصادرة من رئيس الجمهورية بإحالة الموظفين إلى المعاش أو الاستيداع أو فصلهم بغير الطريق التأديبي من أعمال السيادة، وقد ذهبت المحكمة إلى أن القرار المطعون فيه ينطوي على مصادرة لحق هؤلاء المواطنين في الطعن في تلك القرارات أو التقاضي بشأنها، فضلًا عن إهداره مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق، بالمخالفة لنصى المادتين 40 و 68 من الدستور والدساتير السابقة، وأنه “لا يطهره من هذا العيب ما نصت عليه المادة 191 من الدستور من أن كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى صحيحًا ونافذًا، وأن نص المادة 191 المشار إليه “لا يعنى سوى مجرد استمرار نفاذ هذه القوانين واللوائح دون تطهيرها مما قد يشوبها من عيوب ودون تحصينها ضد الطعن بعدم الدستورية”.

وقد تابعت المحكمة الدستورية العليا مسلك المحكمة العليا هذا في سلسلة من أحكامها، نذكر منها على سبيل المثال حكمها الصادر في 11 أكتوبر 1997 والذى تعرض للطعن بعدم دستورية المادتين 14 و 15 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد على التي صدر قرار من مجلس قيادة الثورة في 28/11/1953 بمصادرتها ومصادرة ما عساه يكون قد انتقل منها من أفرادها إلى غيرهم عن طريق الوراثة أو المصاهرة أو القرابة، وقالت المحكمة في أسباب حكمها أنه “من حيث إن قضاء المحكمة العليا التي تتقيد المحكمة الدستورية العليا بأحكامها على ما جرى به قضاؤها مؤداه أن دستور 1956 لم يتخذ موقفًا واحدًا من التشريعات السابقة على العمل به، بل غاير بينها على ضوء أهميتها لثورة يوليو 1952 فما كان منها ملبيًا متطلباتها الرئيسية.. فإن حصانته من الطعن عليه أو التعويض عنه أمام أية جهة تكون نهائية لا رجوع فيها على ما تقضى به المادة 191 من هذا الدستور. وما كان من تشريعاتها في درجة أدنى فإن حمايتها تكون أقل إذ تبقى نافذة مع جواز إلغائها أو تعديلها وفقًا للإجراءات المقررة في الدستور فلا يكون نفاذها عملًا بنص المادة 190 من ذلك الدستور مؤديًا إلى تحصينها بما يحول دون الطعن عليها.

كذلك قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية عدد من النصوص التشريعية الصادرة قبل تاريخ العمل بدستور 1971 لمخالفتها المادة 34 من هذا الدستور. ولكن هذه السلسلة المتصلة من أحكام المحكمة العليا، ومن بعدها المحكمة الدستورية العليا لم تمنع هذه الأخيرة من مخالفة تلك الأحكام جميعها ورفضها والقضاء بعدم دستورية المادة 226 من القانوني المدني استنادًا إلى أن تلك المادة سابقة على تاريخ نفاذ المادة الثانية من دستور 1971 والتي جرى تعديلها عام 1980 على ما بينا.

وخلاصة ذلك كله أن المحكمة الدستورية العليا لم تتردد في العدول عن بعض أحكامها القديمة، وذلك دون أن تقرر صراحة أنها تعدل عنها.. مكتفية بتقرير مبدأ مخالف لما كان قضاؤها القديم قد أقيم عليه. ومعنى هذا كله أن الباب كان ولا يزال مفتوحًا أمام المحكمة لمراجعة بعض ما قررته من قبل في أحكامها القديمة.. ولكن هذه المراجعة تظل مع ذلك جزءًا من السياسة القضائية للمحكمة تحكمه اعتبارات أساسية في مقدمتها –فيما نرى– أمران:

أولهما: أن يكون هذا العدول تعبيرًا صادقًا عن الرغبة في أن تعبر أحكام المحكمة عما يطرأ على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري من تغيرات.. وأن تظل المحكمة – وهي تستجيب بقضائها لهذه التغيرات – على وعى كامل بأهمية تحقيق الاستقرار الاجتماعي والقانوني عن طريق متابعة الأحكام القديمة ما لم تنطو هذه المتابعة على إخلال واضح بالمصالح الجماعية الكبرى.. أو كانت التجربة العملية قد كشفت عما أدى إليه تطبيق السابقة القديمة من أَضرار محققة بالجماعة أو ببعض من أفرادها، أو وقوعها في خلل منطق لا يتصور العمل على استدامته وفرضه على المجتمع.

ثانيًا: أن يظل هذا العدول في الحالات التي يتم فيها، محافظًا على الخط الأساسي الذي تبنته المحكمة منذ نشأتها، والذي نتمنى ألا تعدل عنه أبدًا في غد قريب أو بعد غد بعيد، وهو خط حراسة الشرعية الدستورية، وإعلاء كلمة القانون، وصيانة الحقوق والحريات، ذلك أنه إذا غابت الحرية وغابت معها سيادة القانون، أمكن أن يغيب عن الأمة كل خير وكل استقرار، وإذا [حضرتا ففي صحبتهما يحضر] كل صلاح ورشد وأمن وخير.


* نُشر هذا المقال في العدد الثاني من مجلة “الدستورية”، التي تصدرها المحكمة الدستورية العليا في مصر (عدد أبريل 2003م).

توفي بالأمس (٢٢ أبريل ٢٠٢٣) أ. د. عبدالحميد البعلي بالكويت وسيصل جثمانه الكريم اليوم (٢٣ أبريل ٢٠٢٣) القاهرة…

والأستاذ الدكتور عبد الحميد محمود البعلي، أستاذ الفقه المقارن والاقتصاد الإسلامي، ورئيس قسم الفقه المقارن والدراسات الإسلامية بكلية القانون الكويتية العالمية.

أهم المؤهلات العلمية:

دكتوراة الفقه المقارن بكلية الشريعة- جامعة الأزهر.

الدكتوراة الفخرية من جامعة محمود قشقاري للدراسات الشرقية- القرقيزية الكويتية- بجمهورية قرقيزستان.

ماجستير القانون العام.

أهم الأعمال والخبرات المتعلقة بفقه الاقتصاد الإسلامي:

أول رئيس ومؤسس لقسم الاقتصاد الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود بالسعودية.

من المؤسسين للمعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي بجمهورية قبرص التركية.

أول رئيس لقسم الفقه المقارن والاقتصاد الإسلامي بالمعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي بجمهورية قبرص التركية.

أول مستشار للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.

بعض المشروعات القانونية والدراسات التي قام بها:

وضع أول صياغة لمقترح مشروع قانون للبنوك الإسلامية واشترك في مناقشته في اللجنة الاستشارية العليا لاستكمال تطبيق الشريعة في الكويت.

وضع أول صياغة لمشروع تمويل عجز الموازنة في الكويت واشترك في مناقشته وصدر من اللجنة العليا الاستشارية بعنوان (الأدوات المقترحة لتمويل عجز الموازنة).

أهم المؤلفات:

ضرورة تقنين أحكام الفقه الإسلامي لتطبيق الشريعة الإسلامية.

تقنين أحكام فقه المعاملات المالية المعاصرة مع نموذج تطبيقي.

تهيئة الأجواء لتطبيق الشريعة ومراعاة واقع البلاد ومصالحها.

تحميل السيرة الذاتية كاملة

قال الدكتور شوقي علام مفتي مصر ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إن الدستور المصري نص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.

وأضاف شوقي علام خلال لقائه مع الإعلامي حمدي رزق، ببرنامج «نظرة»، المذاع على قناة صدى البلد، أن المبادئ هي الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة، مردفا: «الدستور يقول يا سلطة تشريعية في الدولة لما تيجي تشرعي لا تتبني قوانين على خلاف مبادئ الشريعة الإسلامية لأنها مستقرة وثابتة ولا تتغير بتغير الزمان أو المكان، وهذا أمر تراعيه مصر في كل التشريعات».

وتابع مفتي مصر، أن القانون المصري هو وسيلة تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه لا يمكن وضع النص الشرعي موضع التطبيق إلا من خلال هذه التقنيات في الدولة الحديثة ولا يمكن القول إننا سنخضع لاجتهادات يمكن أن تتغير من قاض لآخر نظرا لوجود وجهات نظر متعددة.

الشروط الكافية التي نص عليها القرآن الكريم لا تتوفر في إثبات العديد من الجرائم

وبين شوقي علام أن الشروط الكافية التي نص عليها القرآن الكريم لا تتوفر في إثبات العديد من الجرائم، ولا يمكن أن يطمئن القاضي إلى وجود الشروط والأسباب التي تؤدي إلى تطبيق العقوبات الحدية خاصة في الزنا والسرقة، موضحا أن الدستور لا يستبدل عقوبة مذكورة في القرآن بأخرى، لكن الشروط لم تتوافر لتطبيق العقوبة ولا يمكن أن تتوافر حتى في أثناء الاعتراف.

وأكد مفتي مصر، أن ما يقر من أحكام مختلفة في القانون المصري، غير الواردة بالنص الشرعي هو نتيجة لعدم توافر الشروط الكافية وليس استبدالا للعقوبات المنصوص عليها.

*المصدر: 

مقدمة:

في هذا المقال أريد أن أناقش أفكارًا نمطية سادت الفكر “التقدمي” و”العلماني” العربي فترة طويلة؛ بل لا زال لها تأثير لا يستهان به عن طبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية وخصومها من رجال “الإصلاح”، وبين مسائل كبرى مثل الاستقلال عن الدولة والاستقلال الوطني ومسألة الديمقراطية والفردية والجماعية في الإدارة، وفي الأمثلة التي سأذكرها سيلاحظ القارئ أن سلوك الفرقاء كان فيه “خروج ملموس” على المتوقع أي على الأفكار النمطية التي نعرفها، الأفكار التي تقول مثلًا إن رجال الدين ممالئون للسلطة وللاستعمار ومعادون للديمقراطية والقرار الجماعي، ومن “البديهيات” طبعًا أنهم معادون لفصل الدين عن الدولة ..

والذي أراه أن هذا “السلوك الغريب” لن يبقى غريبًا بمجرد أن نزيح عن أعيننا حجاب مفاهيم نمطية استوردناها من تجربة تاريخية مختلفة كليًا هي التجربة التاريخية الغربية، وندرس المسائل المبحوثة في سياقها التاريخي الحضاري الخاص وبلا قيم وأحكام مسبقة.

• حين يتمنى أهل الإسلام أن تترك الدولة الدين في حاله!

من المعلوم أن الفكر الإسلامي المعاصر ولد على خلفية معارضة استيراد القوانين التي لا تستند إلى الشريعة الإسلامية وبناء الدولة الحديثة على أساس هذه القوانين لا على أساس الشريعة، ومن هنا اعتدنا على فكرة تبدو بديهية وهي أن الإسلاميين هم الخصوم الألداء لفكرة “فصل الدين عن الدولة”، وهذا ما نجده بالفعل في أدبيات الحركة الإسلامية وصحفها حيث يعتبر هذا الشعار شعار العلمانية وبرنامجها، والدمج بين العلمانية ومبدأ فصل الدين عن الدولة يبدو كما لو كان المسلمة المقابلة والمكافئة لمسلمة الدمج بين الحركة الإسلامية والعداء لهذا المبدأ.

في هذا المقال أريد أن أوضح أن طرح المسألة بهذا الشكل الذي ورد في الفقرة السابقة بعيد جدًا عن الدقة، وأن المسألة أكثر تعقيدًا من هذا التبسيط، ولتوضيح الجوانب التي لا تذكر من هذه المسألة في التحليلات السائدة عمدت إلى استذكار أمثلة من التاريخ الحديث كان فيها أهل الإسلام يكافحون من أجل تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة، وكانت الدولة العلمانية على العكس هي التي لا تريد هذا الفصل! وآمل أن قارئي العزيز سيستطيع في النهاية أن يفهم السبب في ذلك ويستخلص العبر من هذه الوقائع، وبصورة خاصة سيعرف القارئ اللبيب إن شاء الله أن كاتب هذه السطور أيضًا ضد فصل الدين عن الحياة بأسرها وعن الدولة بالجملة، ولكن هذا أقرره في النهاية وعلى أساس مختلف عن الأطروحات المتسرعة التي نراها في الساحة الثقافية العربية.

• هل العلمانية تعني دومًا فصل الدين عن الدولة؟

وكتمهيد أذكّر القارئ بأن العلمانية ليست واحدة؛ فثمة علمانية تعني فصل الدين عن الدولة مع عدم تدخل الدولة في شؤون المؤسسة الدينية (الكنيسة وغيرها) وإعطائها الاستقلال الكامل ماليًا وإداريًا وتعليميًا، وعدم تدخل الدولة في شؤون الأفراد الدينية، فيترك من يشاء التدين لتدينه ومن يشاء الابتعاد عن الدين لابتعاده، وهذا النظام هو المتبع مثلًا في إنكلترا وألمانيا (في ألمانيا بالمناسبة تساعد الدولة حتى في جمع نوع من الضريبة للكنيسة تؤخذ تلقائيًا ما لم يخرج الفرد بطلب منه من الكنيسة التي ورثتها عائلته).

هاهنا نجد “فصلًا للدين عن الدولة” بمعنى أن الدولة لا ترى نفسها طرفًا مؤيدًا أو معارضًا للدين وتترك الأفراد والمؤسسات في حالها كما قلنا.

ولكن أوروبا شهدت نوعًا آخر من العلمانية يمكن أن نمثل له بفرنسا الثورة (وقد بقيت عناصر من هذا الموقف في فرنسا الحديثة رغم أن فرنسا الحديثة لم تعد “ثورية تمامًا” لا في هذه القضية ولا غيرها)، والاتحاد السوفياتي السابق وفيه تكون الدولة منفصلة عن الدين ولكنها ليست محايدة دينيًا، فهي أقرب إلى أن تكون معادية للدين، وهي لا تتسامح مع أي تعبير ديني في مؤسسات الدولة وفي المدرسة، وهي بهذا تخرق مبدأ الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد الذي تعودنا خطأ أن نعده سائدًا في الغرب بأسره بلا قيود.. ومن الأمثلة المتطرفة لهذه الحالة تركيا وبعض الدول العربية.

وفي هذا المثال الأخير قد يفهم القارئ كيف يمكن للمسلمين أن يطالبوا في حالات معينة بفصل حقيقي للدين عن الدولة، بمعنى أن تكون الدولة محايدة كليًا تجاه معتقدات الأفراد الدينية وتجاه مؤسساتهم التي يبنونها ويمولونها ذاتيًا. فحين تمنع المدرسة الفرنسية حجاب الفتيات ويمنع البرلمان التركي دخول نائبة تضع على رأسها منديلًا؛ فإن الدولتين فرنسا وتركيا تؤكدان بسلوكهما هذا على أن التدين ليس مسألة شخصية، وعلى أن الدولة ليست محايدة دينيًا، بل هي صاحبة موقف ديني ولو بالسلب!

والاتجاه الإسلامي حين عارض فصل الدين عن الدولة فقد كان يتوجه في الواقع بهذه المعارضة في ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: نحو الماضي وفيه تعبر هذه الحركة عن معارضتها لعملية إحلال القانون الوضعي مكان الشريعة الإسلامية، وهي العملية التي بدأت في السنين الأخيرة للدولة العثمانية واكتملت تقريبًا في عهد الاستعمار ثم الدول المستقلة شكليًا التي بناها ثم في عهد الاستقلال، بحيث لم يبق من الشريعة إلا قانون الأحوال الشخصية الذي يبنى في الدول العربية كلها باستثناء تونس على أساس شرعي إسلامي لا يخرج عن أقوال الفقهاء بمجملها؛ وإن رد بعضها فعلى أساس من أقوال أخرى.

الاتجاه الثاني: اتجاه للحاضر وفيه تكافح هذه الحركة ضد اجتثاث ما تبقى من آثار الشريعة الإسلامية في النظام القانوني.

والاتجاه الثالث أخيرًا: هو من أجل المستقبل المرجو الذي هو عودة الشريعة الإسلامية لتكون هي الناظم المحدد للدولة والمجتمع.

ولكن الإسلاميين في غمرة حماسهم لشعار تطبيق الشريعة وضد شعار فصل الدين عن الدولة تفوتهم رؤية واقعية لموقف الدولة من الدين عندنا، ففي الحقيقة ما يعاني منه المجتمع العربي معاناة مباشرة لا يكاد يكون هو انفصال الدولة عن الدين؛ بل يكاد يكون مسك الدولة للدين مؤسسات ومساجد ومدارس وللتدين الفردي بيد من حديد! ولعل مشاهد تلفزيونات بعض الأقطار العربية سيحس بالرثاء لخطباء صلاة جمعة يمسكون بيدهم ورقة فرضتها عليهم الدولة يقرؤونها لا يحيدون عنها يمينًا ولا شمالًا! ولا شك عندي أن النظام العلماني الألماني مثلًا الذي لا يخطر له على بال أن يكتب موعظة الأحد للقسيسين هو أفضل للدين من هذه الأنظمة التي لا تريد أن “تترك الدين في حاله” ولا تريد “فصل الدين عن الدولة” بهذا المعنى! مع أن هذا الفصل هو شعار مرحلي قد يكون مناسبًا للمسلمين على مبدأ “الوحدة خير من جليس السوء”!

آمل أنني بهذه المقدمة جعلت القارئ أقدر على فهم الأحداث التي ستبدو له غريبة في الجزء التالي من المقال.

• تجربة الجزائر مع قانون فصل الدين عن الدولة في الحقبة الاستعمارية

من الغريب حقًا أن “بلد النور” فرنسا التي كانت في زمن الثورة وهو غير بعيد كثيرًا عن الزمن الذي احتلت فيه الجزائر بلدًا معاديًا للمسيحية علمانيًا بنسخة العلمانية، التي قلنا إنها ليست محايدة تجاه الدين بل هي معادية له، كانت في الجزائر بلدًا مسيحيًا مهتمًا جدًا بنشر المسيحية وتسيير أمور إدارته عبر التعاون الوثيق بين الجنرالات والقساوسة، حتى إن سكرتير الجنرال بيجو أعرب عن إيمانه بحلول عهد ألوهية المسيح في الجزائر: “إن أيام الإسلام قد دنت وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح”(1).

وبتعبير فرحات عباس في كتابه ليل الاستعمار: “إن الثورة البرجوازية في فرنسا أعدمت الرهبان، وأحرقت الكنائس، وحاولت نزع الملكية من بلد مسيحي.

أما في الجزائر فهذه البرجوازية نفسها جعلت من المساجد كنائس تنشر المسيحية وتبشر بها في قطر إسلامي، واستعملت في ذلك أموال المسلمين، وتلك هي الطامة الكبرى حيث بعثت الروح الصليبية من مرقدها، رافعة راية المسيح لمحاربة الإسلام، ولو كانت في قرارة نفسها تعبث بكلا الدينين”(2).

والظاهرة غريبة ليس في الجزائر وحدها فمن العجب أن يتذكر الجنرال غورو هزائم حرب قادتها البابوية المكروهة حين وقف يشمت بصلاح الدين، وأن يتذكر ضباط بونابرت في الحملة على مصر في رسائلهم إلى أهلهم هزيمة لويس التاسع في المنصورة.

لا عجب والحالة هذه في أن يتمنى المسلمون لو تقف الدولة الاستعمارية موقفًا محايدًا من الدين، بل سأثير عجب القارئ بأكثر من ذلك: إن المسلمين تمنوا ولا شك والحالة كما وصفنا من تشجيع الدولة للتبشير لو أن الدولة المستعمرة وقفت موقفًا علمانيًا متطرفًا معاديًا مبدئيًا لأي دين كان! إذن لما شجعت القساوسة المبشرين على الأقل ولتساوت الأديان في عداء الدولة لها! ولكن الحال أن الدولة اختصت الإسلام بالعداء وحاولت نشر المسيحية بين الأطفال الأيتام ثم بين الأمازيغ.

لنذكر قبل هذا أول خطوة مهمة فعلتها الدولة المستعمرة وهي التصرف في أموال الأوقاف الإسلامية خلافًا لاتفاق التسليم مع حكومة الجزائر الذي تعهدت فرنسا فيه باحترام الدين الإسلامي وأوقافه ومعاهده، واحترام ملكية المواطنين الجزائريين وحريتهم الدينية.

مصادرة الأوقاف هذه أو تسليمها ليد الدولة كانت هي الخطأ الذي لا يغتفر في تاريخنا الحديث، وقد شارك في هذا الخطأ علماء الحركة الإصلاحية الإسلامية الذين كان همهم تنظيم وتحديث المؤسسات الدينية-كالأزهر وغيره، ورأوا في هيمنة الدولة واستلامها لزمام هذه المؤسسات والقضاء على استقلالها الخطوة التحديثية الضرورية، وكانت النتيجة ما نراه الآن من اضمحلال لاستقلال الأزهر ولهيبته العلمية، وزوال واقعي لمؤسسة جامع الزيتونة ومؤسسات شبيهة أخرى عندنا..

والدولة العلمانية الفرنسية لم تصادر الأوقاف فقط بل صادرت المساجد وحولتها إلى كنائس! هكذا أصبح أكبر مساجد قسنطينة كنيسة ولم يرجع مسجدًا إلا مع الاستقلال، وهكذا جرى مع جامع كيتشاوة في العاصمة الذي تحول إلى كاتدرائية.

وفي عام 1859 صدر قانون بإلغاء المحاكم الشرعية في منطقة القبائل واستبدالها بمحاكم عرفية، الأمر الذي أوقد نار ثورة كبرى في هذه البلاد بقيادة الشيخ محمد الحداد شيخ الطريقة الرحمانية والحاج محمد المقراني، وفي هذه الثورة استشهد من الجزائريين ستون ألفًا، وفقد الفرنسيون عشرين ألف جندي. وبعد قمع الثورة أقر القانون المدني الفرنسي في هذه المناطق، ومنع التكلم فيها بالعربية، وحظر تعليم القرآن والفقه الإسلامي.

لنأت الآن إلى قانون فصل الدين عن الدولة وصدر في فرنسا عام 1905 وبمقتضاه أصبحت الكنيسة في فرنسا مستقلة بكل ما يتعلق بالدين المسيحي عن الدولة، وصدر مرسوم في 27سبتمبر 1907 يطلب العمل به في الجزائر، ولكن هذا القرار طبق على جميع الأديان في الجزائر (اليهودية والمسيحية) ما عدا الدين الإسلامي، فهو وحده الذي بقي مؤممًا يخضع لسيطرة الإدارة الاستعمارية في كل أموره.. فكان الوالي العام الفرنسي في الجزائر هو الرئيس الأعلى للمسلمين في الأمور الدينية، فهو الذي يعين الأئمة في المساجد والمفتين والقضاة ويعزلهم، كما أنه هو الذي يقرر مواعيد الأعياد الإسلامية إلى غير ذلك مما يتصل بأمور الدين..(3).

والنتيجة كان للأقلية المسيحية واليهودية 372 معبدًا في مقابل 166 مسجدًا للأكثرية الساحقة في الجزائر!

وما يهمني في هذا المقال كما يذكر القارئ هو ذكر مطلب المسلمين بأن ترفع الدولة يدها عن الدين وتفصله عنها فصلًا حقيقيًا!

أول وفد جزائري تكون لبحث قضية الجزائر كان في مؤتمر الصلح بفرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الوفد مكونًا من نواب جزائريين في المجالس البلدية والعمالية، وكان بقيادة الأمير خالد بن الهاشمي بن الحاج الكبير بن الأمير عبد القادر الجزائري، وحين لم يحصل على نتيجة كوّن الأمير خالد مع زملائه هيئة “وحدة النواب المسلمين”، وعبرت جريدة اسمها “الإقدام” عن آرائها بالعربية والفرنسية.

وفي عام 1925 قدمت هذه الحركة مطالب إلى رئيس وزراء فرنسا عُرفت لاحقًا باسم “مطالب الأمير خالد العشرة”، والمطلب السابع فيها يقول: “تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة بالنسبة للدين الإسلامي”!

وبعد نشوء “جمعية العلماء” برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس صار استقلال الدين عن الدولة هدفًا من أهدافها.. يقول رئيس الجمعية الثاني الذي خلف بن باديس بعد وفاته في مقال له في جريدة “البصائر” العدد الثالث من السلسلة الثانية عام 1947: “يا حضرة الاستعمار إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده وتفهم حقائقه وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافها إلى أهلها، وتطالبك باستقلال قضائه..”.

ومن العجب بمناسبة ذكر الأوقاف أن التبشير كان يتم في الجزائر بأموال الأوقاف الإسلامية!

وقد شاركت جمعية العلماء في “المؤتمر الإسلامي”عام1936، والمتابع لهذا المؤتمر يجد أن السمة العامة لمطالبه لم تكن استقلالية تطالب بفصل الجزائر عن فرنسا؛ بل كانت تطالب بدمج الجزائر في فرنسا وإزالة توسط الولاية العامة الجزائرية! وهذا سيبدو لنا الآن في غاية الغرابة، ولكن لنقرأ مطالب المؤتمر: “1-إلغاء سائر القوانين الاستثنائية التي لا تطبق إلا على الجزائريين.

2- إلحاق الجزائر بفرنسا رأسًا وإلغاء الولاية العامة الجزائرية ومجلس النيابات المالية ونظام البلديات المختلطة.

3- المحافظة على الحالة الشخصية الإسلامية مع إصلاح المحاكم الشرعية بصفة حقيقية ومطابقة لروح الفقه الإسلامي وتحرير هذا القانون:

– فصل الدين الإسلامي عن الدولة بصفة تامة، وتنفيذ هذا القانون حسب مفهومه ومنطوقه.

– إرجاع سائر المعاهد الدينية إلى الجماعة الإسلامية لتتصرف فيها بواسطة جمعيات دينية مؤسسة تأسيسًا صحيحًا.

– إرجاع أموال الأوقاف لجماعة المسلمين ليمكن بواسطتها القيام بأمور المساجد، والمعاهد الدينية: والذين يقومون بها.

– إلغاء كل ما اتخذ ضد اللغة العربية من وسائل استثنائية، وإلغاء اعتبارها لغة أجنبية.

– الحرية التامة في تعلم اللغة العربية، وحرية القول للصحافة العربية”.

وكما يرى القارئ فالمطالب لم تكن تتضمن أكثر من المطالبة بالعيش في دولة علمانية محايدة تجاه الدين والاختيارات الثقافية للفرد!

وقد نرى الآن أن هذه المطالب في غاية المهاودة بل ثمة من انتقدها في حينه، ولكننا نذكر بأن “فصل الدين عن الدولة” بصورة مطلقة قد لا ترضى به الدولة، وقد يعده علماء المسلمين خطوة مرحلية هامة كما نقول الآن بلغة الأحزاب السياسية المتداولة.

• ما هو مشترك مع تجربة الاستعمار في “الدول المستقلة”.

قد يظن القارئ المتعجل أن ذكر تجربة الإسلام مع الاستعمار الفرنسي لا يفيد إلا هواة التاريخ، وأن هذه التجربة لا علاقة لها بوضع الإسلام في الدول الإسلامية المستقلة، ولكن النظرة الممحصة سترينا ما هو مشترك مع هذه التجربة، ففي الحالتين كانت هناك دولة علمانية صراحة أو ضمنًا ترفض أن تترك الدين والمؤسسة الدينية والتدين الفردي للمجتمع، وتصر على تأميمه والهيمنة عليه وقولبته وتقنينه كليًا.

وفي الحقيقة لو درسنا مليًا تجربة “إصلاح” الأزهر و”تحديثه” لرأينا بوضوح أن هذه المؤسسة العظيمة منذ نهاية القرن التاسع عشر كانت تُلحق تدريجيًا بالدولة أحيانًا مع اعتراض الأزهريين، ولكن غالبًا بموافقتهم، وكان لهذه الموافقة سببان واحد فكري والثاني مادي عملي.

السبب الفكري هو السبب العام المميز للفكر العربي في العصر الحديث وهو الانبهار بالمؤسسات الغربية والسعي إلى بناء المؤسسات المحلية على طريقتها، وهو الأمر الذي قاد مشايخ الأزهر إلى الموافقة على إزالة نظام الحلقات العلمية المفتوحة ونظام المجاورة القديم، واستبداله بنظام الفصول الدراسية والكليات الذي هو ولا ريب أقل “ديمقراطية” إن شئتم وأكثر احتكارًا للعلم، وأقل انفتاحًا على الحوار بين الطلاب والأساتذة، وفي هذا النظام الجديد الذي تصرف فيه الدولة على “جامعة الأزهر” لا عجب أن يصبح الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة.

وقد كان قانون الأزهر الذي صدر عام 1911 وهو الذي ينظم الدراسة على الطريقة الجديدة وتعديله الذي صدر سنة 1930، وأنشئت على أساسه الكليات الثلاث: الشريعة، واللغة العربية، وكلية أصول الدين هو الخطوة الحاسمة في القضاء على نظام الدراسة القديم.

يقول الشيخ محمد عبد الله عنان في كتابه “تاريخ الجامع الأزهر”: “وقد فقد الأزهر كثيرًا من مزايا الدراسة الجامعية الحقة بإلغاء الحلقات الدراسية الشهيرة التي لبثت قرونًا تزين أروقته وساحاته فقضى عليها النظام الجديد (…)، والواقع أن هذه الحلقات القديمة لم تكن سوى المدرج الجامعي الحديث، وقد كانت تتفوق بلا ريب في عناصرها الجامعية على فصول الكليات الأزهرية، وكان خيرًا لو أصلحت ونظمت على غرار الدراسات الجامعية العليا، التي يتولاها أعلام الأساتذة والأخصائيين، وقد كان في استبقائها على هذا النحو تخليدًا لذكرى الحلقات الأزهرية التاريخية التي كانت أيام ازدهارها من محاسن الدهر ومحاسن الأزهر”(4).

والسبب الثاني المادي العملي مشتق في الحقيقة من تحول النظامين القانوني والتعليمي للدولة، إذ إن القضاء في مصر وما يتبعه من محاماة ووظائف في المحاكم بُني على أساس النظام التشريعي والإداري الغربي، مما جعل الأزهر يحاول عبثًا تأمين وظائف لخريجيه في هذا النظام، وقد انهارت هذه المحاولات مع إلغاء القضاء الشرعي وما يتبعه من محاماة شرعية، وكذلك حُرم الأزهريون من فرصة التدريس في المدارس، أو قاربوا على الحرمان التام مع إنشاء الجامعة وكلية دار العلوم.  

وما جرى للأزهر جرى أسوأ منه للزيتونة مما لا نريد أن نطيل هذا المقال بذكره، ولكن الخلاصة التي نستنتجها من كل ما تقدم أن الدولة في بلادنا هي أول من يعارض استقلال الدين عنها، وعلى الاتجاه الفكري الإسلامي العربي أن يعرف هذه الحقيقة ولا يترك شعاره البعيد وهو بناء الدولة على أساس الشريعة يغطي عينيه، فلا تريان الواقعة القريبة وهي هيمنة الدولة على التدين سواء بشكله المؤسسي أم بشكله الفردي.

وبهذا قد يكون من الحكمة أن يطالب الغيورون حقًا على الشريعة الجامعون مع الغيرة حكمة وفهمًا للسياسة بالإبقاء على ما تبقى من مظاهر الشريعة في الدولة، وبترك الدولة المؤسسات الدينية لاستقلال ذاتي يشبه استقلال الكنيسة في البلاد الأوروبية التي ذكرناها، ما دامت الدولة ترفض السير على الشريعة!

• تجربة العلاقة بين المؤسسة الدينية والشعب والدولة في حالة الكنيسة القبطية المصرية:

في التصور الشائع للعلاقات بين المؤسسة الدينية والمؤسسات الاجتماعية والمفاهيم السياسية من نوع “الدولة”، “الديمقراطية”، “الإجماع”، “فردية القرار”، “فصل الدين عن الدولة”، “الوطنية”، “التبعية للاستعمار”، ثمة مصادرات نموذجية جاهزة في أذهان المثقف العربي الحديث، أريد هنا أن ألقي عليها ضوءًا نقديًا مستندًا إلى التجارب التاريخية الفعلية.

كنا مثلًا استنادًا إلى تقليد يساري ممتد ننسب إلى رجال الدين ممالأة السلطة وإلى المتحررين معاداتها أو على الأقل قلة الاستلطاف بينهم وبينها! وكنا نرى أن “الديمقراطي” الذي يؤمن بإرادة الأكثرية هو بطبيعته يعبر عن مصلحة الجموع ويتطابق معها ويقف إلى جانب مبدأ الإجماع أو الأكثرية في القرارات التي تتخذها الهيئات المختلفة، على حين يميل رجال الدين بطبعهم إلى الفردية في القرار، إلى آخر هذه المصادرات التي نريد للقارئ الآن أن يتابعها بنفسه في مثال أراه قيمًا جدًا ومليئًا بالعبر؛ هو مثال الكنيسة القبطية في مصر في القرن العشرين والنصف الثاني من القرن التاسع عشر في علاقاتها مع المفاهيم والمؤسسات المذكورة(5).

منذ بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر نشأ ضمن الجماعة القبطية تنافس وأحيانًا صراع بين المؤسسة الدينية الممثلة في الكنيسة القبطية الأورثوذكسية بهرميتها ومؤسساتها من كنائس وأديرة وما يمول هذه المؤسسة من أوقاف كثيرة، وبين المؤسسة العلمانية الناشئة التي تمثلت في “المجلس الملي” الذي صدر قرار إنشاؤه لأول مرة في عام 1874 على عهد الخديوي إسماعيل، ومن أبرز قيادات هذا المجلس كان الشخصية السياسية المشهورة بطرس غالي.

وفي ذلك الوقت كان منصب البطريركية خاليًا لوفاة البطريرك ديمتريوس عام 1872 وكان يدير أعمال الكرسي البطريركي بالوكالة الأنبا مرقس مطران البحيرة، وقد قام هذا المجلس بانتخاب البطريرك الجديد الذي كان الأنبا كيرلس الخامس، وكان هذا استنادًا إلى تقليد قديم يجعل انتخاب البطريرك عملية يشارك فيها أفراد الطائفة القبطية من خارج السلك الكهنوتي- بل يرى بعضهم أن البطريرك لا مانع من أن يكون قادمًا من خارج المؤسسة الدينية أصلًا.

وباختصار كانت وظيفة المجلس الملي أن يهتم بإدارة كل ما لا يخص الجانب الديني البحت من شؤون الكنيسة.

وكانت الجهة المهيمنة على المجلس الملي تتهم الجهاز الديني بإساءة الإدارة المالية، وأما البطريرك فرأى في المجلس محاولة غير مشروعة لإنشاء سلطة موازية للكنيسة تتدخل في شؤونها، لذلك سرعان ما عطل المجلس وظل المجلس معطلًا حتى عام 1883 عندما عاد بعض الوجهاء الأقباط وطالبوا البطريرك بإعادة المجلس فلم يوافق، وحين سعى هؤلاء الوجهاء عند الدولة لإعادة المجلس أرسل كيرلس الخامس إلى رئيس الوزراء يقول: “لقد اختبرنا ذلك المجلس فلم نر منه فوائد لأية جهة كانت واستغنى الحال عنه من وقتها”، ثم طلب من الخديوي عدم عقد المجلس ولكن الخديوي أجبره على إعادته، وكان لسعي بطرس غالي عند الدولة دور في هذا الشأن فانصاع البطريرك وصدر الأمر العالي بتشكيل المجلس في 13 مارس 1883، وانتخب بطرس غالي وكيلًا له ثم أعد المجلس لائحة له صدر بها الأمر العالي في 14 مايو 1883.

وكانت الوظيفة المقررة للمجلس الملي وفقًا للائحة هي “النظر في كافة المصالح الداخلية للأقباط، وحصر أوقاف الكنائس والأديرة والمدارس وجمع حججها ومستنداتها، وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف، وحفظ الأرصدة وإدارة المدارس والمطبعة، ومساعدة الفقراء، وحصر الكنائس وقسسها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات، والقيام بوظيفة محكمة الأحوال الشخصية التي تنظر منازعات الزواج والطلاق وغيرها”، ويتشكل المجلس من 12 عضوًا و12 نائبًا يكونون معًا الجمعية العمومية. والأعضاء والنواب ينتخبون 150 ناخبًا، ويكون البطريرك هو رئيس الاجتماع الانتخابي ورئيس المجلس الملي، على أن يكون للمجلس وكيل من أعضائه يقوم مقام الرئيس عند غيابه، ومدة عضوية المجلس 5 سنوات(6).

وكما قال صلاح عيسى: “وخوفًا من أن يتجمد المجلس مرة أخرى فإن الداعين إليه استصدروا قانونًا يحدد العلاقة بين البطريرك والمجلس، بحيث لا تكون اللائحة مجرد قرار صادر من المجلس نفسه ولكنها تصبح قانونًا له قوة النفاذ”.

ولنتذكر هنا هذه النقطة فسوف نجدها كثيرًا كما وجدناها في الفقرة السابقة: إن دعاة “فصل الدين عن الدولة” بمعنى فصل المؤسسة الدينية عن الدولة وجعلها مؤسسة مستقلة ذاتيًا لم يكونوا في هذه الحالة كما في حالات أخرى كثيرة الأطراف “الإصلاحية العلمانية الديمقراطية”، بل كانت هذه الأطراف هي التي تستعين بالدولة لإجراء التغييرات في المؤسسة الدينية وإزالة استقلاليتها وإلحاقها بالجهاز السلطوي، على حين كانت المؤسسة الدينية هي التي تناضل في سبيل الاستقلال الذاتي عن الدولة.

وبعد هذا جمد المجلس الملي مرة أخرى بعد رفض البطريرك محاولة هذا المجلس التدخل في شؤون الأديرة وأوقافها إلى أن جاء عام 1891، وفي هذا العام طلب عدد من وجهاء الأقباط من البطريرك إعادة تشكيل المجلس، ولكنه رفض قائلًا: إن اللائحة التي تحدد اختصاصات المجلس مخالفة لشرائع وقوانين الكنيسة، واقترح البابا أن تعرض اللائحة على جمعية من المطارنة والأساقفة لبيان وجهة نظر الشريعة الدينية فيها، فرفض الوجهاء هذا الاقتراح وتشاجروا مع البابا وخرجوا ووجهوا دعوات إلى الطائفة القبطية لتجتمع وتنتخب جمعية عمومية، فرفض البابا هذه الدعوة وعقد “مجمعًا مقدسًا” للنظر في انسجام المجلس مع الإنجيل، ورفض دعاة المجلس حضور هذا المجمع للمناقشة، ثم صدر قرار المجمع بأن فكرة إنشاء مجلس ملي هي فكرة مخالفة للإنجيل والقوانين الكنسية التي تعطي البطريرك تفويضًا كاملًا في كل الأمور العامة بما فيها تنفيذ الأحكام وقطع المنازعات وتقدير العطاء للمستحقين، وقرر المجمع أن تدخل أحد من الشعب في تدبير أمور الكنيسة ومتعلقاتها في شكل مجالس أو في أي شكل هو مخالف للأوامر الإلهية والنصوص الرسولية، ذلك أن إنشاء هذا المجلس هو سلب لحقوق الكنيسة وشرف رؤسائها المأمور بها من الإله، وتسليم شعبها لقيادة من لم تكن لهم السلطة.

بعد ذلك أسس دعاة الإصلاح جمعية سموها “جمعية التوفيق القبطية” وأصدرت الجمعية مجلة هاجمت فيها البطريركية وحالة المدارس التي تديرها والأديرة والأوقاف والرهبان والإكليروس، وأسس مناصروا الكنيسة جمعية سموها “الجمعية الأرثوذكسية” بادلت الهجوم بهجوم معاكس، وانهالت برقيات أنصار الإصلاح على الحكومة والخديوي تطالب بإلحاح بتشكيل المجلس الملي مرة أخرى، وفي صيف 1892 قابل بطرس غالي الخديوي عباس حلمي الثاني في الإسكندرية وطلب منه تشكيل المجلس، وبالفعل وافق الخديوي وانتخب المجلس الجديد في الدار البطريركية، وقد اختير 24 عضوًا من الأعيان البارزين، صار منهم اثنان رئيسي وزارة بعد ذلك، هما بطرس غالي ويوسف وهبة، وواحد صار وزيرًا هو مرقس سميكة.

وعارض البابا تشكيل المجلس معارضة تامة مستندًا إلى قرار المجمع المقدس، وسانده في هذه المعارضة وكيل البطريركية مطران الإسكندرية الأنبا يؤانس، أما الخديوي فاستاء من تحريضهما الشعب على المجلس، وحين حاول الاثنان زيارته في عيد الأضحى لتهنئته كالعادة رفض الخديوي استقبالهما.

وشن البابا حملة واسعة على دعاة المجلس الملي، ووجه إليهم تهمة خطيرة لم تكن كما يرى المدقق في وثائق تلك المرحلة خالية كليًا من الصحة، وهي أن دعاة المجلس هم من الزائغين عن العقيدة القبطية الأرثوذكسية الذين ساروا مع المبشرين البروتستانت، وكان نشاط هؤلاء قد قوي بصورة خطيرة وبدأ يجني ثمارًا ملموسة من حملاته التبشيرية بين أفراد الجماعة القبطية. وقال البابا: إن الحكومة ليس لها مصلحة في فرض المجلس على الكنيسة لأن المسألة غير سياسية بل هي “دينية كنائسية شرعية”.

وتدخل القنصل الروسي متوسطًا بين بطرس غالي والبطريرك، وتوصل الجانبان إلى اتفاق تعدل فيه لائحة المجلس، فتظل الأديرة تحت إشراف البطريرك، وتقسم المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية إلى قسمين شرعي من اختصاص المجلس الروحي، وحسبي من اختصاص المجلس الملي، وأخذ التعديل كما يقول صلاح عيسى بوجهة نظر البابا الذي اتهم بعض أعضاء المجلس الملي بأنهم ليس من الأرثوذكس بل هم أميل إلى البروتستانتية، فتقرر أن يحل محلهم عدد من الإكليروس نسبتهم إلى العلمانيين ثلث إلى ثلثين.  

ولكن المجلس رفض التعديلات واشترط على البطريرك ألا ينفرد بعمل يدخل في دائرة اختصاص المجلس، ولا يأخذ شيئًا من الإيرادات سواء كانت من الأوقاف أم من مرتبات الأساقفة أم من تركاتهم إلى آخره، ولا يأخذ سوى الهدايا الشخصية ويكتفي بمرتب شهري يساوي ثلاثين “بنتو”.

فرفض البطريرك هذا وهاجم قرار المجلس وقال: إنه لا يريد الصلح وإنما التحكم في الإكليروس والبابا، وإن المجلس يريد وضع الإكليروس تحت أمر الشعب، بينما قواعد الدين تجعل الشعب تحت أمر الإكليروس.

وعندما تصاعد الخلاف إلى هذه الدرجة قرر المجلس الملي عزل البابا واختيار الأنبا اثناسيوس أسقف صنبو وكيلًا لإدارة البطريركية، وحين وافق هذا الأسقف أسرع البابا إلى عقد مجلس روحي مقدس قرر حرمانه وطرده من الكنيسة.  

وقد قام أعضاء المجلس بجهود كبيرة لإقناع الحكومة بالضغط على الخديوي لإصدار قرار بالعزل، وبالفعل صدر قرار الخديوي بعزل البابا ونفيه هو ومناصره الأنبا يؤانس، الأول إلى دير البراموس بصحراء وادي النطرون، والثاني إلى دير الأنبا بولا بالصحراء الشرقية.

• الجماهير مع من؟

إذا كان عزل البابا ونفيه انتصارًا للمجلس الملي و”الإصلاحيين”؛ فإن الذي حول هذا الانتصار إلى هزيمة لاحقة رغم وقوف الحكومة إلى جانب المجلس كان الجماهير القبطية، ويصف صلاح عيسى في مقاله الشيق “البطريرك في المنفى” كيف تعاملت الجماهير القبطية مع هذه التغييرات في قيادة الكنيسة.

فلقد نفذت الجماهير قرار البابا بحرمان الأسقف، ويقول عيسى: “هجر الأقباط دار البطريركية وواجه أسقف صنبو الأنبا اثناسيوس مجموعة من الظروف المحرجة، فعندما أراد أن يزور أحد وجهاء الطائفة في بيته حدثت مشكلة بين الوجيه المذكور وزوجته وأبنائه وأشقائه، إنهم جميعًا يقيمون في دار واحدة وهم أرثوذكسيون مؤمنون ولا يمكن أن يسمحوا بأن يدخل دارهم رجل محروم بقرار من مجمع مقدس، إنهم لا يقبلون مخالطته ولا مؤاكلته ولا الحديث معه، بل ويرفضون حتى مجرد أن يلج عتبة باب دارهم. وكان موقفًا مؤلمًا ومحرجًا لأسقف صنبو بيد أنه تكرر كثيرًا.. في تلك الأيام هجر الأقباط في مصر كنائسهم فالكنيسة المرقسية الكبرى كانت تحت إشراف الآغامانس فليتاؤس عوض، وكان من دعاة المجلس ومؤيديه، بل، ويا للكارثة كان أحد القسس الذين وقعوا على قرار نفي البابا كيرلس الخامس، وبحث الأقباط في القاهرة عن كنيسة أرثوذكسية يصلون فيها فلم يجدوا سوى كنيسة الروم الأرثوذوكس بالحمزاوي فتوجهوا إليها في أيام الآحاد التالية لذلك، ولأن الكنيسة في الأصل مخصصة لجالية محدودة العدد فإن الأعداد الهائلة من الأقباط الذين ذهبوا للصلاة فيها قد أدت إلى ازدحامها بالمصلين، وغير القسس لغة الصلاة من اليونانية إلى العربية، وتعطلت أكاليل الزواج في القاهرة، واضطر أبناء الطائفة للذهاب إلى الجيزة لعقد الزواج.

وكلما توفي أحد لم يدخلوه قط إلى الكنيسة المرقسية الكبرى التي كانت تحت الحرم، وعندما توفي جرجس بك شلبي وكان من وجهاء الأقباط وذهب القمص فلتاؤس عوض لدار المتوفي للصلاة عليه رفض أهله ذلك، لأن القمص عضو بالمجلس الملي ومخالط للأسقف المحروم فهو إذن محروم مثله، ولذلك طردوه من دارهم ولم يصلوا على الميت في كنيسة كبرى، ولكن في كنيسة صغيرة (…)، وتزايدت هجرة الأقباط من كنائسهم وعندما جاء عيد الصليب لم يحضر في كنيسة الملاك البحري سوى ستة أشخاص، مع أن العادة كانت قد جرت بأن هذا العيد مهرجان ضخم تمتلئ فيه هذه الكنيسة بالآلاف من الناس، وفي هذا العيد أيضًا لم يذهب الناس كعادتهم إلى دير العريان بالمعصرة لذبح الذبائح ،وأقفلت الكنائس تمامًا ككنيسة الزقازيق، ونضبت إيرادات البطريركية فلم يرد إليها شيء من البلاد، وبمضي الوقت كان عدد الممتنعين عن الذهاب إلى الكنائس يزداد”.

وبعد سنة من عزل البابا ونفيه أقنع رئيس الوزراء الجديد رياض باشا الخديوي بأنه ما كان له الحق في نفي البابا وأما الخديوي فوضع المسؤولية على من أشار عليه بهذا القرار من الأقباط وعلى رأسهم بطرس غالي باشا ثم أعيد البابا ومنحه الخديوي أكبر وسام آنذاك وهو الوشاح المجيدي وصفح البابا عن خصومه وعفا عنهم وألغي المجلس الملي وقامت مكانه لجنة ملية مؤقتة مؤلفة من 4 أشخاص.

• “المحافظون” و”الإصلاحيون” في مسألة الوطنية والتبعية

هذا الصراع مليء بالعبر وهو يدلنا مرة أخرى على مقدار الخطل في المحاكمات الحداثية التي تعودنا عليها، فقد كان من الممكن لكل محلل ذكي أن يرى وراء أكمة الشعار الإصلاحي ارتباطات الإصلاحيين الوثيقة بالإنكليز، ومحاولاتهم تحويل الكنيسة القبطية إلى كنيسة قريبة من البروتستانتية لتكون موالية لإنكلترا، ومحاولة السلطة إزالة استقلالية الكنيسة وإلحاقها بجهازها كما فعلت بنجاح تام مع الأزهر، وقد يعترض بعض المؤرخين علينا بالقول إن البابا أيضًا كان له مناصرون خارجيون متمثلون في القيصر الروسي، بل فرنسا أيضًا تدخلت لصالحه نكاية ببريطانيا، لأنها حتى ذلك الحين لم تكن قد أقرت لبريطانيا بحق الهيمنة على مصر (وهذا الإقرار جرى لاحقًا عام 1904 فيما سمي “الاتفاق الودي”)، ولكن هذا الاعتراض غير وجيه في رأيي لأن فرنسا لم تكن تشكل أي قوة خطيرة داخل مصر مقارنة بإنكلترا، وروسيا كانت بعد أبعد من فرنسا عن تشكيل مثل هذه القوة، وبالتالي فإن التدخلين بخلاف التدخل الإنكليزي لم يكونا يهددان الاستقلال الوطني للكنيسة القبطية. 

أما البابا كيرلس الخامس فقد كان مشهودًا له بالوطنية وكانت له مواقفه الحاسمة في هذا الاتجاه، فقد كان ممن أيد عرابي وعارض الغزو الإنكليزي، وأعلن فتوى تقول إن العدوان الإنكليزي على مصر يخالف تعاليم المسيحية الحقة، وأنهم بعدوانهم كفرة خارجون على دينهم، ووقع على قرار خلع الخديوي توفيق ورفض مساعي اللورد كرومر لوضع الكنيسة القبطية تحت الحماية البريطانية، ورفض عروض هذا اللورد لمساعدة مدارس الكنيسة ماليًا، وفي عام 1911 نصح الأقباط أن لا يعقدوا المؤتمر القبطي ذي التوجه الطائفي ووقف مع ثورة 1919، وكان له دوره المؤثر في تحقيق تلك الوحدة الوطنية الكبيرة بين عنصري الشعب المصري في الثورة، وكما قال العقاد عنه: إنه كان “رجلًا ناسكًا متعبدًا مؤمنًا برسالته الدينية أشد الإيمان، وكان مع رعايته لفرائض الدين لا ينسى فرائض الكرامة الدنيوية في معاملته لأصحاب السلطان ولو كانوا من الملوك أو في حكم الملوك. خطر لعميد الاحتلال البريطاني اللورد كيتشينر أن يلقاه على غير موعد فذهب إلى الدار البطريركية وأمر الحجاب أن يبلغوا صاحب الغبطة أن فخامته موجود في الدار، فهرول الحاجب الملازم له وهو يلهث ويكاد يصيح: اللورد يا أبانا.. اللورد يا أبانا.. فسأله في أناة: من اللورد يا هذا؟ وعلم جلية الخبر فلم يزد على أن قال: اذهب يا ولد وقل لفخامته إن البابا لا يقابل بغير ميعاد. وطلب منه الملك فؤاد أن يبارك وزارته كما بارك سعدًا فلم يجبه ولم يزد على أن قال: إن البركة لا تمنح باليمين وتسلب باليسار”(7).

والصراع بين التيار الإصلاحي والجهاز الكنسي لم يتوقف لاحقًا وكانت له جولاته وفيها هزائم وانتصارات لكل من الطرفين ولنذكر الآن واحدة منها وهي تلك التي جرت بعد وفاة البابا كيرلس الخامس عام 1927وهو البابا الذي وصفته صحيفة إصلاحية ناطقة بالإنكليزية “المورنينغ بوست” بعد وفاته بأنه “رجل قليل البصيرة والعلم ميال للمشاكسة صبر الناس على حياته الطويلة عديمة الجدوى بأمل أن تتاح فرصة الإصلاح بعد وفاته”(8).

وقد دارت المعركة حول انتخاب وكيل للبطريركية بانتظار انتخاب بطريرك جديد، ثم بعد ذلك جرت معركة انتخاب البطريرك.

وكان المطران يؤانس الذي ذكرناه سابقًا مقربًا من البطريرك المتوفى ومهيمنًا على الجهاز الكنسي، فكان بهذا أقوى المرشحين للنيابة البطريركية، وكان متهمًا من الرأي العام الإصلاحي بأنه مسؤول عن فساد الإدارة وتبديد الأموال، وفي مواجهته كان المطران مكاريوس مطران أسيوط وهو داعية قديم للإصلاح، وأخذ عليه أنه قبل برئاسة المؤتمر الذي عقده ذوو الاتجاه الطائفي من الأقباط عام 1911، وهذه نقطة ملتبسة قابلة لتأويلات متعددة لن نطيل النقاش فيها هنا، ونعيد القارئ المهتم إلى الصفحة 411 من كتاب طارق البشري “المسلمون والأقباط”.

كان الأنبا يؤانس إذن مرشح الإكليروس للنيابة البطريركية، وفي المقابل كان المطران مكاريوس مرشح الإصلاحيين الذين يبدو أنهم في هذا الوقت كانوا حائزين على شعبية لا بأس بها، والنقطة الأولى في الصراع التي تستثير الذكر لاحظها طارق البشري: “لقد جاءت وفاة كيرلس الخامس في وقت إعادة اختصاصات المجلس الملي إليه وارتفاع موجة الإصلاحيين ضد يؤانس وأنصاره، لذلك ظهر في البداية أن يؤانس صاحب الكفة المرجوحة، ولكن من يعرف أن المسيطر على الأبنية التنظيمية في أية مؤسسة هو الكاسب فيها ما دام يتمتع بتأييد رجالها وما دامت تلك المؤسسة قائمة ونشيطة لا يتهددها انهيار، من يعرف هذه الحقيقة يدرك أن يؤانس رغم خفة موازينه العامة كان على العكس هو صاحب القدح المعلى، إن يؤانس رغم أن قسمًا كبيرًا من ناخبيه سيكون من خارج الكنيسة فهو يقف عمليًا على رأس هذه الكنيسة بما لها من سلطان روحي على الآخرين، وبما لا تزال تقبض عليه من شؤون المال والإدارة. وقرارات الكنيسة مهما صادفت من معارضة خارجية فهي صاحبة القرار الممسكة بزمام الشرعية الكنسية، ومهما كانت المعارضة ضدها منظمة فإن هذه المعارضة التي تأتي من خارجها لا تمثل سلطة إصدار القرار للشرعية، وبهذا لن تمثل المعارضة إلا جماعات للضغط مهما بلغت قوتها فلا تصل بها إلى النفوذ الحاسم(…)، فكان مكاريوس هنا كالشيخ محمد عبده يأتيه التأييد من خارج مؤسسته لا من داخلها، وكانت مشكلة مكاريوس الخطيرة لا تتأتى فحسب من كونه معزولًا بين رجال الدين، ولكن من أن المؤسسة التي رشح لرياستها قد استقطبت ضده حيث صار لا يصلح لها ولا تصلح له، ولم يكن ثمة خيار إلا أن يقتحم أنصاره به المؤسسة الدينية لا ليعين رئيسًا لها فحسب ولكن ليعيد صياغتها كلها صياغة أخرى وليغير من طاقمها بما يتفق مع موقفه، وهذا أمر من الصعوبة بمكان بمراعاة التقاليد الكنسية الراسخة”(9).

وفي مواجهة التأييد الإكريلكي ليؤانس غيّر أنصار الإصلاح التكتيك وطالبوا بانتخاب البطريرك رأسًا دون البدء بتعيين نائب بطريركي.

وبعد صراعات طويلة ومد وجزر بين الطرفين لا نريد أن نطيل المقال بذكر تفاصيلها؛ عقد الإصلاحيون اجتماعًا كبيرًا بقيادة الدكتور سوريال جرجس الذي كان من نواب الوفد في مجلس الشيوخ، وكان المفروض أن الاجتماع مخصص لتأييد انتخاب يوحنا سلامة وهو مرشح إصلاحي لمنصب البطريرك، غير أن الاجتماع حول إلى عملية انتخاب البطريرك فوافقت الأغلبية على انتخاب سلامة بطريركًا، مما فاجأ بعض الحاضرين ولم ينجح الانتخاب المذكور في الحصول على الشرعية، وفي ديسمبر1928 صدر أمر ملكي يتضمن وجوب الإسراع بانتخاب البطريرك، وتضمن تحديدًا لجمعية الانتخاب، وقد ضمن هذا التحديد فوز مرشح الجهاز الإكريليكي يؤانس لأن الغالبية اختيرت من مؤيديه، وبالفعل انتخب يؤانس بطريركًا وعين رسميًا في 9 ديسمبر 1928، والنقطة التي يفيدنا أن نذكرها هنا هي أن مرشح الإصلاحيين يوحنا كان وفق أدلة كثيرة مؤيدًا من قبل الكنيسة الأسقفية الإنكليزية وواحد من أكبر مشايعيه وهو القمص إبراهيم لوقا راعي كنيسة مصر الجديدة، وكان هو المنظم الرئيس للاجتماع الذي انتخب يوحنا وغالبية المدعوين للاجتماع كانوا من أنصاره، وكان من أعضاء جمعية أصدقاء الكتاب المقدس التي أسسها مبشران أسقفيان هما: ثورنتون وجاردينر، وقد ذكر أن لوقا كان يستعمل ترانيم بروتستانتية في خدمة قداس الكنيسة الأرثوذكسية، وكان من دعاة التقريب بين الكنيستين الإنكليزية والقبطية، وفي المقابل كان يؤانس حائزًا على دعم الملك، ونلاحظ هنا تعقيد العلاقة بين القوى الخارجية والأطراف المتصارعة داخل الجماعة القبطية، فالإنكليز وعدوا الإصلاحيين سرًا بالدعم، وفي المقابل فإن الملك دعم يؤانس، والواضح أن الإنكليز سحبوا دعمهم ليوحنا في اللحظة الحاسمة لا لأنهم كفوا عن دعم الإصلاحيين، بل لأنهم كانوا يريدون تقسيم الكنيسة بدليل أن اللورد لويد الذي كان يدعم الإصلاحيين سرًا ويعدهم بالدعم في الانتخابات ثم لم ينفذ وعده، وسرعان ما اتصل بلوقا بعد الانتخابات وطلب منه الانضمام إلى الكنيسة الأسقفية. يقول طارق البشري في تفسير الموقف الإنكليزي الملتبس: إنه بعد أن حاولت الكنيسة الأسقفية استيعاب الكنيسة القبطية، وقاوم الأقباط ذلك وانضموا إلى الحركة الوطنية بقيادة الوفد، ورفضوا حماية الإنكليز وفكرة التمثيل النسبي، “فلعله يكون من المنطقي أن يفكر راسمو السياسة الإنكليزية بمعونة المبشرين الأسقفيين في العمل على شق الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لاستخراج فريق من الأقباط منها، وإذا لم يمكن ضم هذا الفريق إلى الكنيسة الأسقفية فسيكون على الأقل أقلية من أقلية تؤيد الاحتلال، وليس أنجح في هذا الأمر من دعم الخلاف بين الأقباط ومظاهرة كلا الفريقين فيما يفرق بينهما، وليس خيرًا من تنصيب يؤانس عاملًا يظهر به المنشقون أمام جمهور القبط بمظهر الإصلاح والاستنارة”(10).

فاز يؤانس بانتخابات البطريركية وظل بطريركًا حتى توفي عام 1942، وكان هو نفسه رجلًا متقشفًا زاهدًا، ولكن المحيطين به اتهموا بالتبديد، ويصفه البشري بأنه: “كان رجلًا ينتمي إلى الأجيال المنحدرة عن القرون الوسطى، الدين عنده عبادة لا علم، والفضل في الدين عنده للأكثر ممارسة للعبادات والطقوس لا للأوغل في العلوم، والصلابة عنده للأكثر محافظة على تقاليد السلف، والرياسة سلطان أبوي، والجديد بدعة من البدع. والفكرة الديمقراطية والنيابة عن الجماهير وترشيد الإدارة وتنظيم الرقابة وإنشاء المدارس وإدراك متطلبات العصر، وكل تلك الأمور التي تمليها النظرة المستقبلية؛ فلأنها تمليها النظرة المستقبلية لم يكن له بها أدنى شأن”.

• رجال الدين و”الإصلاحيون” في مسألة القرار الجماعي والقرار الفردي

من الأحداث البارزة التي جرت بعد هذا أن الإصلاحيين تمكنوا أخيرًا عام 1944 من إيصال مرشحهم إلى سدة البابوية، إذ فاز المطران مكاريوس فوزًا كبيرًا وأيده الإصلاحيون المهيمنون على المجلس الملي، وأيدته أيضًا الحكومة الوفدية القائمة، لذلك شرع البطريرك الجديد في تنفيذ مطالب الإصلاحيين فأصدر قرارًا بتنظيم إدارة أوقاف الأديرة، فأسند الإدارة إلى المجلس الملي، وألف لجنة ينتخبها المجلس ويصدق عليها هو مهمتها جرد أملاك الأديرة ومحاسبة النظار وتنظيم إدارتها، وتنظيم أوضاع الرهبان، والإنفاق من إيرادات هذه الأوقاف لسد حاجات الأديرة، وتخصيص ما يفيض للأغراض الإصلاحية، وقرر أن يكون تعيين نظار الأوقاف وإقالتهم باقتراح من هذه اللجنة يعتمده البطريرك، وقوبل القرار بحماس بالغ وازدحمت الوفود المهنئة بمقر البطريركية، وازدحمت الصحف ببرقيات التهنئة. ولكن البطريرك وجد نفسه وحيدًا في الجهاز الإكليريكي وعارض أعضاء المجلس المقدس القرارات الجديدة، ورفضوا اختصاص المجلس الملي بإدارة أوقاف الأديرة، وظل صوت رئيس المجمع وهو البطريرك وحيدًا، وقد أيد مجلس الوزراء موقف البطريرك وأعطى قراره الشرعية، لكن تنفيذ هذا القرار لم يكن ممكنًا في ظل اعتراض رجال الكنيسة، وهنا ظهر موقف طريف نحب أن ينتبه إليه القارئ يصفه طارق البشري: “انقلبت المواقف، صار الإصلاحيون الديمقراطيون “يطالبون” بدعم وتأكيد السلطة الفردية للبطريرك ويحبذون سلطانه على التابعين للكنيسة، وصار المطارنة المحافظون “يمارسون” ديمقراطية التنظيم الكنسي قائلين إن البطريرك ليس إلا مطرانًا، هو كبيرهم ليس إلا. والمجلس الملي يطالب ببطلان اجتماعات المجمع المقدس بغير رياسة البطريرك ودعوته، والمجمع يجتمع ويقرر وينفذ ويمارس “شرعية القرار الجماعي”(11).

ومن الأمور الجديرة بالذكر أيضًا في هذا السياق أن الإصلاحيين طلبوا من الحكومة تنفيذ القرار بقوة السلطة، ولكن رئيس الحكومة الوفدي النحاس كان هو الذي رفض هذا وأصر أن يكون التنفيذ بقوة القضاء والمحكمة فقط! 

وقد انتهت هذه الحلقة من حلقات الصراع بعودة مكاريوس إلى تبني مواقف رجال كنيسته وتخليه عن “الإصلاحيين”.

___________________________________________

الهوامش:

1- كوليت وفرنسيس جانسون “الجزائر الثائرة”، ترجمة: علوي الشريف وآخرين، دار الهلال، القاهرة، 1957، ص41.

في: “الشيخ عبد الحميد بن باديس -فلسفته وجهوده في التربية والتعليم”، الأستاذ تركي رابح، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع- الجزائر، تاريخ المقدمة، 1969.

 2- فرحات عباس، “ليل الاستعمار”، ترجمة: أبو بكر رحال، مطبعة فضالة، المغرب، بدون تاريخ، ص105.

 3- تركي رابح، “الشيخ عبد الحميد بن باديس..”، ص47.

 4- محمد عبد الله عنان، “تاريخ الجامع الأزهر”، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1958، ص264.

 5- اعتمدت في العرض اللاحق على مواد صحفية متفرقة علاوة على مقال شيق لصلاح عيسى “البطريرك في المنفى”، مجلة “اليسار” المصرية، العدد الأول، مارس 1990. واعتمادي الأساسي كان على كتاب طارق البشري الممتاز “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”- الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- 1980.

6– طارق البشري، “المسلمون والأقباط..”، ص396.

 7- موجودة في طارق البشري، مرجع سابق، ص397، نقلًا عن جريدة الأخبار 26 سبتمبر 1955.

 8- في طارق البشري، المرجع السابق، ص408.

 9- طارق البشري، المرجع نفسه، ص 414.

 10- طارق البشري- م. س، ص433.

 11- طارق البشري- م. س، ص 447.

في التاسع عشر من أكتوبر لسنة 2021 قضت محكمة العطارين لشئون اﻷسرة فى الدعوى رقم 243 لسنة 2021، بإدخال ورثة وفقا للائحة الطائفة الإنجيلية للأحوال الشخصية. وجاء قرار المحكمة – وهو الأول من نوعه – ببطلان إعلام الوراثة رقم 198 لسنة 2021 وراثات العطارين، الذي صدر وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، واعتبارها كأن لم تكن. وعليه يتم تقسيم إرث المرحوم/ فؤاد صدقى ابراهيم، وفقا لمبادئ الشريعة المسيحية لائحة الأقباط الإنجيليين الوطنيين، بما يعني حصر إرثه فى أبناء شقيقه ويستحقون ثلثى التركة، وأبناء شقيقته ويستحقون ثلث التركة، بدلا من انفراد أبناء شقيقه بكامل التركة. يأتي هذا إعمالا ﻷحكام المادة 81 من لائحة الطائفة الإنجيلية للأحوال الشخصية، والمادة 73 من ذات اللائحة.

كان السيد/ هاني رفيق صدقى قد تقدم فى مارس الماضى بطلب لتحقيق وفاة ووراثة عمه المرحوم/ فؤاد صدقي إبراهيم. وطلب الأول تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية فى الإرث – وفقا للمادة الثالثة من الدستور، وطبقًا للائحة الطائفة الإنجيلية فى اﻷحوال الشخصية – ومساواة طائفة الإنجيليين الوطنيين بطائفة اﻷقباط اﻷرثوذكس في تطبيق لائحتها نظرًا للمساواة فى المركز القانونى. حضر جميع اﻷطراف، وأقروا بالموافقة على تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية في الإرث. لكن المحكمة لم تلتفت لطلباتهم، وقضت بما لم يطلبوه بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وانفراد العصبة من الذكور بالإرث ( أبناء شقيق المورث).

جدير بالذكر أنه وفقا للشريعة الإسلامية، في حالة وفاة أحد الأشخاص دون أن يكون له وريث من الدرجتين الأولى والثانية، يؤول الإرث إلى الذكور دون الإناث من فروع أشقائه الذكور، ودون فروع شقيقاته اﻹناث. ويختلف هذا عن لائحة الأقباط الأرثوذكس التي تقر توزيع الإرث بالتساوي بين فروع الأشقاء الذكور والإناث، بينما تنص لائحة الأقباط الإنجيليين على أنصبة لفروع الأشقاء الذكور ضعف فروع الإناث.

وفي مايو الماضي طعن محامو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، موكلين من السيد/ ماجد عزمى يوسف ابن شقيقة المرحوم/ فؤاد صدقى ابراهيم، ببطلان إعلام الوراثة. وطالب بتفعيل المادة الثالثة من الدستور المصري، ومساواة طائفة الإنجيليين الوطنيين بطائفة اﻷقباط اﻷرثوذكس، التي قضت لصالحهم المحاكم بتطبيق مبادئ شرائعهم فى الإرث. وذلك بحيث يوزع الإرث بين أبناء شقيق المورث، وأبناء شقيقته، وألا ينفرد بذلك الإرث أبناء شقيقه الذكور. 

*المصدر: 

دخلت كلية الحقوق حين دخلتها منذ أعوام بعيدة، متأثرًا بما اطلعت عليه في كتاب وثائقي كانت تضمه مكتبة الوالد -عليه رحمة الله- عنوانه: «الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية» وهو كتاب فاخر المظهر، مصقول الصفحات، وقد أحيطت كل صفحة منه بإطار ذهبي، وتخللت صفحاته صور لكبار رجال القضاء من مستشارين وقضاة ونواب عموميين وكبال رجال المحاماة.. وكلها توحي بالمهابة والمكانة العالية التي تحيط كل واحد من هؤلاء في نفوس أبناء المجتمع جميعًا حكامًا ومحكومين، وكانت أكبر أمنياتي أن أتخرج في الكلية وأكون واحدًا من هؤلاء الصفوة، الذين يجمعون إلى العلم التخصص في القانون مكانة اجتماعية بالغة التميز، وكنا منذ دخلنا كلية الحقوق نسمع قصصًا وحكايات تروي كيف تكرم الدولة رجال القضاء وجميع المشتغلين بالقانون، وكيف يلتزم هؤلاء -من جانبهم- صورة فريدة من صور الوقار والترفع عما لا ينبغي أو لا يليق، مبالغين في ذلك إلى درجة تجعلهم بمنأى عن أحاديث الصحافة والإعلام، وبمنأى عن الخوض في سيرتهم أو التعرض لعملهم القضائي.

ودار الزمان دورات عديدة وبالعالم كله، تغيرت بها الأفكار والقيم، وظهرت للسلوك والعلاقات بين أفراد المجتمع أنماط لم يكن كثير منها مألوفًا ولا مقبولًا في ذلك الزمن البعيد القريب، وكان لكل فئة من فئات المجتمع سببها من هذا التغير، ما يُحَب منه ويُستحسن، وما يكره منه ويستقبح.

وكانت المحاماة -ولا تزال- تسمى «القضاء الواقف» إلا أن المحامين يترافعون أمام الهيئات القضائية وهم وقوف، ولكنهم يعدون في نظر القانون ونظر الناس جميعًا ركنًا أساسيًا من أركان نظام العدالة في المجتمع، وركن يتمم ويكمل عمل القضاة الجالسين، ولا يقل عنه جدارة بالاحترام الشديد.

والقضاء بأعمدته كلها معتبر في جميع المجتمعات المتحضرة ركن من الأركان في الحفاظ على الشعور بالعدل والمساواة وبالحرية تحت لواء سيادة القانون، وأن للبيت أركانه والحفاظ على كفاءته وحسن سمعته واستقلاله هدف لا يتصور التفريط في تحقيقه وتعزيزه.

وقد أتيح لي خلال السنوات الأخيرة أن أقف مترافعًا أمام العديد من محاكمنا، الابتدائية ومحاكم الاستئناف ومحاكم مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، فرأيت أمورًا تتعلق بالقضاء الواقف، وأخرى تتعلق بالقضاء الجالس، وكلها موضع نظر وتقويم وشكوى من جموع المحامين والقضاة، وإذا كان كثير منها يبدو متصلًا بالجوانب الشكلية… فإن هذه الجوانب تعتبر رمزًا مهمًا معبرًا عن مكانة الهيئة ونظرة المجتمع إليها.

وقد لاحظت خلال السنوات الأخيرة ترديًا مؤسفًا في هذه الجوانب… ومذ أسابيع قليلة توجهت إلى إحدى محاكم الجنح المستأنفة في دعوى مرفوعة ضد أحد السادة الوزراء بصفته الشخصية، فإذا بالجلسة تعقد في غرفة المداولة وليس في إحدى القاعات المتخصصة للجلسات، وهو أمر تحول إلى ما يشبه القاعدة بسبب قلة تلك القاعات، ولكن غرف المداولة تخلو في معظم الحالات من مقاعد للسادة المحامين، فيتزاحمون وقد يتدافعون أمام باب الغرفة أو داخلها، وقد لا يسمع بعضهم نداء الحاجب على رقم قضيته، وهو ما حدث معي أكثر من مرة، وقد يقف بعض هؤلاء -ومنهم نساء وكبار السن- ساعات في انتظار دورهم وهو أمر بالغ المشقة بالغ الإهانة لجموع المحامين.. وكأن أعضاء القضاء الواقف ينبغي أن يظلوا واقفين وألا يجلسوا أبدًا… وإذا غاب التقدير والاحترام مثل هذه الأمور التي قد يعتبرها البعض شكلية وهامشية صعب أن يتحقق احترام موضوعي حقيقي لمن لم يجد له مقعدًا يجلس عليه ويستريح فيه قبل أن يبدأ مرافعته… ولا يدري كيف تسكت نقابة المحامين ومجلس القضاء الأعلى عن متابعة هذه الأمور، أم أنهم يطالبون فلا يستجاب لهم، وهو أمر لا يسع أحدًا قبوله.

فإذا انتقلنا إلى القضاء الجالس، وهو الذي يعلن كلمة الحق والعدل بأحكامه، متحملًا مسؤولية كبرى أمام الله وأمام الناس جميعًا، وفي مقدمتهم أطراف المنازعات القضائية على اختلافها، وجدنا مظاهر شكلية جديدة وأخرى موضوعية تنال من الإطار الواجب الذي يحيط أداء القضاة لأعمالهم.

ومن الظواهر الشكلية التي أرجو أن يتسع لها صدر السادة القضاة والمستشارين، تراجع بعض التقاليد التي لها أهميتها في إيجاد أهميتها في إيجاد جو يؤكد التمييز وعلو المكانة، وأعني ذلك ارتداء الوشاح خلال الجلسات… مما يجر عادة إلى تحلل السادة المحامين من ارتداء روب المحاماة، وهو ما تؤول معه الأمور إلى نوع جديد من التقاليد يغيب معها إحساس المتقاضين والمحامين لخصوصية مجلس القضاء، وذلك الجو المهيب الذي يعلنه حاجب المجلس حين يصيح صيحته المعروفة «محكمة» فيسكن الحاضرون جميعًا، وتملًا الهيبة نفوسهم ويتكلم القانون على لسان القضاة وأعضاء القضاة وأعضاء النيابة والمحامين.

ومن مظاهر غياب الطقوس الشكلية التي عرف بها النظام القضائي في العالم كله أشرنا إليه من عقد أكثر الجلسات في غرف المداولة، وهو ما يغري بالتحلل من الإجراءات الشكلية تحللًا يبلغ أحيانًا مبلغًا يصعب قبوله والارتياح إليه، حيث رأيت بعض السادة المستشارين وهم قلة قليلة، يدخن السيجارة أو الغليون (البايب) خلال الجلسات وينفث الدخان قريبًا من وجوه الحاضرين، وأغراني ذلك إغراءً شديدًا بأن أقارن ذلك بما نشاهده في معظم المحاكم الإنجليزية حيث لا يستطيع ولا يجوز أن يخرج أحد -أي أحد- من قاعة الجلسة حتى وإن كان القاضي مشغولًا بفحص الأوراق والمراجع والمستندات، إلا إذا باشر ثلاثة أمور… أولها أن يصيح بصوت عالٍ قائلًا «مولاي» أو «سيدي القاضي» ثم ينحني انحناءة الركوع الكامل، ثم يتحرك متراجعًا بظهره حتى يخرج من الباب. إن مثل هذه المراسم والطقوس ليست بلا قيمة، بل إن لها دورًا لا يمكن إنكاره في إضفاء الهيبة على مجلس القضاء وجميع المشاركين فيه.

فإذا انتقلنا إلى الأمور الموضوعية، فإن الحديث يطول بما لا يتسع له هذا المقام، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أمرين… يتصل أولهما بالقضاء الواقف ويتصل الآخر بالقضاء الجالس:

(1) أما القضاء الواقف … فإن المدخل لإصلاح أوضاعه يستقر في يد النظام السياسي ويد نقابة المحامين. وذلك أن السنوات الأربعين الأخيرة قد شهدت تحول أكثر النقابات في مصر إلى مجالس سياسية يمارس أكثرها العمل السياسي وهي ظاهرة يفسرها الانسداد الجزئي لما يسميه علماء السياسة والقانون الدستوري القنوات الإصلاحية للعملية الديمقراطية فإذا حال التدخل في الانتخابات بأي صورة من صوره دون تعبير تلك القنوات عن الواقع السياسي والاجتماعي، وإذا ضاقت القنوات الشرعية عن استيعاب التطلع المشروع للمشاركة في الحكم من جانب القوى والأحزاب المختلفة لجأ الناس إلى قنوات غير شرعية أو غير مخصصة للتعبير السياسي، وهو أمر تسأل عنه الحكومات في المقام الأول ويدل عليه الانتشار الواسع لظاهرة اشتغال النقابات بالعمل السياسي أكثر من اشتغالها بالنشاط النقابي والمهني.

(2) أما القضاء الجالس، فإن القضايا الموضوعية المتصلة بأدائه لمهمته القضائية، وتدخل بعض القضاة من خلال نواديهم المختلفة وعبر ما يكتبونه في الصحف وما يعلنونه في القنوات التلفزيونية الفضائية وغير الفضائية مشاركة منهم في الحياة السياسية، هذه القضايا اختلفت في شأنها الآراء بين عامة الباحثين من رجال القانون وبين القضاة أنفسهم، والكلام فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة نرجو أن نعود إليها في بحث قريب، على أن هناك موضوعًا واحدًا نرى أن الحديث فيه من جانب القضاة متاح ومباح، سواء وقع التعبير عن الرأي فيه على نحو فردي أو من خلال أندية القضاة أو مجالس القضاء الرسمية .. وذلك يشمل كل ما يتعلق باستقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة … أما ما عدا ذلك فالأصل فيه أن يعبر القاضي عن رأيه وفكره من خلال ما يصدر عن منصة القضاء من أحكام وأوامر تحكمها المعايير والضوابط القانونية، حتى يرتفع القضاء كله فوق انفعالات السياسة وما تجر إليه من انقسام بين القضاة، وإغراء بعض الناس بالتطاول عليهم، مما ينال -أردنا أم لم نرد- من هيبتهم واستقلالهم، ويفتح أبوابًا عديدة للتدخل في شؤون العدالة خلافًا لما يقرره الدستور.

ولا يقل خطورة عن هذا التجاوز، أن يتعرض القضاة لضغوط من جانب بعض مؤسسات الدولة التنفيذية والشعبية تطويعًا لهم أو سعيًا -غير جائز- للتأثير على قضائهم… إن ذلك إذا وقع يقتل الثقة فيهم وفي قضائهم وفي سيادة القانون في المجتمع، وبغير هذه الثقة يهتز اطمئنان أفراد الشعب على حقوقهم وحرياتهم، وهو اهتزاز لا رجعة عنه إلا بالكف عن السعي بطريقة أو أخرى لتسييس القضاء والأحكام، ويدخل في هذا الترغيب غير المقبول فيما نرى قيام بعض السادة القضاة بالعمل مستشارين للوزراء والمحافظين مع استمرارهم حال انتدابهم للجلوس في منصة القضاء، وأعرف أن أعدادًا كبيرة من السادة القضاة والمستشارين يشغلهم النظر في هذا الأمر بجوانبه المتعددة، وقد يختلفون حوله ولكن الذي أميل إليه بشدة ألا يجمع القاضي بين وظيفة تقديم المشورة للوزراء والمحافظين مرتبطًا عضويًا وإداريًا بمكاتبهم وبين الجلوس على منصة القضاء فهذا عالم وذاك عالم آخر، ولكل منهما طقوسه ونوع علاقاته، والجمع بينهما شديد الصعوبة، ومن شأنه أن يضع القاضي في حرج بالغ لا مهرب منه.

ولعل الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها المجتمع تكون أحد أسباب الترخص في هذا الأمر وقبوله من جانب عدد كبير من السادة القضاة. وفي تاريخ القضاء العربي أن الخليفة العباسي المأمون جعل مرتبات القضاة من عصره أعلى مرتبات في الدولة، فلما كلم في ذلك قال: “أردت أن أعصمهم من السؤال والرشا”؛ وهي حجة صحيحة وحكيمة تحفظ الكرامة، وتعين على النزاهة، وتسد أبواب الإغراء بكل ما لا ينبغي أن يتعرض له حراس العدالة والمؤتمنون على رعاية الحقوق والحريات، وتحقيق سيادة القانون.

لا يخطئ من يقول إن «حقوق الإنسان» هي شعار الـربع الأخير من القرن العشــرين الميلادي. فـقـد نشطت حـركة الـدفاع عن حقوق الإنسان منذ أواسط السبعينيات من هذا القرن نشاطا فاق كل ما سبق لهذه الحركة أن حقّقته منذ نشأتها. وكان هذا النشاط عــــالميًا في انتشاره، غير محدود بحدّ في موضوعاته، فكل ما يخطر على البال من شأن أو شيء أو فكرة تتّصل بحياة الإنسان تحـــــوّلت-في تيار هذا الانتشار-إلى صورة من صور «الحقوق» الإنسانية الجديرة بالحماية. وتوجّهت أنظار أنصار هذه الحــركة المتجدّدة إلى كل ركن من أركان المعمورة ينشئون جماعات أو جمعيات لحقوق الإنسان: تـرصد انتهاكاتها وتنبّه إليها وتنتقـدها، وتنشر الـوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي بها، وتعلن في كل عام موقفا محدّدًا في «تقارير» تنشر على الكــافة، ويـتلقّـاها العــامـلون في مجال حقوق الإنسان، والمهتمون بها بانتظام يبعث فيهم مـزيدًا من الاهتمام ويدعوهم إلى جديد من النشاط في اتجاهي المراقبة والإعلام معًا.

ومنـذ بدأ الحديث في النصف الأول من هذا القرن عن حقوق الإنسان من حيث هـي فكرة مـجرّدة، في مـواجهة أفكار النازيـين والفاشييـن وأضرابهم، ثم من حيث هي نصوص قانونية دولية جسّـدها الإعـلان العـــالمي لـحـقـوق الإنـسـان، والمفكرون الإســلاميون، والــــدعاة والفقهاء، مشتغلون ببيان سبق الإسلام في تقرير هذه الحقوق وإرساء دعائم احترامها استنادًا إلى نصوص ثابتة في القرآن الكريم – لا تقبل التغييـر ولا الحذف ولا الإضافة – ونصوص صحيحة في السنة النبوية الشـريفة تصـلح أسـاسـًا لبـناء متـكامل لإعلان عـالمي لحقوق الإنسان مستمد من الإسلام. وقد صدر هذا الإعلان فعلًا- تتـــويجا لهذا الجهـد الفكـري الضخـم- عن المجلس الإسلامي في أوربا، وسمي بـ: “البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام” وأعلن في 19/9/1981م من مقر اليونسكو في العاصمة الفرنسية: باريس. وهذا البيان يضمّ نصوصا بلغ عددها ثلاثة وعشرين نصّا كلّها مؤيّد بسند شرعي من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة.

وعلى هذا النحو: محاولة التأصيل من النـاحية المـوضـوعية للمفاهيم التي تتناولها حقوق الإنسان بنصوص القرآن والسنة، وبفهم المفسرين والفقهاء، جرت معظم الدراسات التي تناولت حقوق الإنسان وموقف الإسلام منها. ولا شكّ أن في كثير من هذه المحاولات كثيرًا من العمل العلمي الجاد الذي يستأهل كل تـقـديـر. ولا شك أن في كثير من هذه المحاولات ما يمكن أن يعد «كشفا» لحقائق علمية إسلامية أوشك أن يطويها النسيان، أو يقضـي عليها الإهمال الذي ترتّب على تنحيـة الشريعة الإسلامية في جل أوطانها، عن حكم الحياة اليومية للمؤمنين بها. ولكن الأمر الذي لم يحظ بعد بحقّه من العناية، بل لعله لا يزال يلقى معارضة تقوى وتضعف بحسب اتجاهات الـرياح المحية والعالمية، هو أمر الشكل، أو أمر «الآليات» -إن صحّ التعبير- التي يمكن بها أن تضبط ممارسة الدفاع عن حقوق الإنسان.

وفي تقــديـرنا أن الجـانب العـملـي لممارسـة الحقوق المصـطلح على تسمـيتها بحقوق الإنسان، والإطار التنظيـمـي لمراقبة مدى الالتزام بها يمثّلان في الوطن العربي والعالم الإسلامي-بوجه– موضوعا ذا أهـمية أكبر بكثير من الأهمية التي يجب أن تعطى للجانب النظري المـوضـوعي المتـمثّل في إثبات قبول الإسلام لهذه الحقوق أو سـبقه في تـقريرها. لأننا مهما أسهبنا في هذا البيان النظري، الذي هو حجّة لنا، فإن البيان العمـلي والالتزام الفعلي بمضمون هذه الحقوق، ومقتضاها، ونتائجها في علاقة الفرد بالجماعة أو بالسلطة، هو الذي يؤكّد شهادة البيان النظري، أو ينفيها، فيحولّه من حجّة لنا إلى حجّة علينا.

ومن الإنصاف أن نسـجّل هنا السبق العـالمي في مجال تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان. ففي العالم عدد غر قليل من المنظمات التي تُعنى بهذا التنظيم، وتتابع قضاياه في معظم الأقطار، ومن بينها أقطار الوطن العربي ودول العالم الإسلامي. فهناك منظمة العفو الدولية، وهي من أوائل المنظمات العاملة في هذا المجال، وأعضاؤها منتشرون في نحو مـائة وخمسـين بلـدا من بـلـدان العالم، وعـددهـم يـربـو على سـبعمـائة ألف عضو، ولها أكثر من 4200 مـجموعة محـلية في ثــلاثة وسـتين قطرًا([1])، وهـي تهتم أسـاسـًا بمتابعة حالات «سجناء الـرأي». والأمـانة العامة لمنظمة العفو الدولية مقـرّها العاصمة البـريطانية: لندن، وهـي تصـدر تقـريرًا سـنويا بعدة لغات عن حالة حقوق الإنسان وانتهاكاتها في غالبية بلدان العالم، وتصدر كلما اقتضت الظروف تقارير عن بلدان معينة، ولمنظمة العفو الدولية مجموعات محلية في كل من مصر وتونس واليمن والكويت (حتى عام 1993 كما سـيأتي) ولها مكانة دولية مـرموقة في الــدفاع عن حقوق الإنسان، وبــوجه خاص عن حقوق المطارديـن أو السجناء بسبب آرائهم أو عقائدهم.

وهناك منظمة المادة (19)، أو المركز الدولي ضد الـرقابة، وهي تستمـدّ اسمها من نص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقرّر أن «لكل إنسان الحق في حريّة الـرأي والتعبير، ويشمل ذلك حـــــريّة المعتقد دون تــــدخّل، والحقّ في السعي إلى، والحصـول على، المعلومات والأفكار وتبادلها عبر مختلف وسائل دون اعتبار للحدود». وقد أنشـأت المنظمة شـبكة واسعة من المنظمات والأفـراد الــــذين يؤمنون بأهدافها ويقومون بمعاونتها في نشاطها ولو لم يكونوا من بين أعضائها. ولمنظمة المادة (19) سـكـــــرتارية في لندن تقوم بتـلقي المعـلــــومات وتنسيقها، وتصـدر تقـريـرا سنـويا عن حـالـة الــرقابة على المعلـومات والأفكار، ووقائع كبت الحـريات في مختلف بلدان العالم. وتقدم تقارير المنظمة الدورية وغير الدورية – التي تصدر في مناسبات بعينها – إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة لـلأمم المتحدة. وينصبّ اهتمام المنظمة على الكشف عن الـــــرقابة علـى الــرأي والمعتقدات والتعبير عنها بـالـكتـابة والنشر والإعـلام وتعنى – لذلك – بمناصرة ضحايا هذه الرقابة في مختلف أنحاء العالم.

ومنذ عام 1977م أنشئت في وزارة الخارجية الأمـــريكية إدارة لحقوق الإنسان بموجب قرار رئاسي (أصدره الـرئيس الأسبق جيـمـي كارتر) وصادق عليه الكونجرس. وتعدّ هـذه الإدارة تقريرًا سنويًا عن حالة حقوق الإنسان في مختلف دول العالـم تستقي مادته من تقارير السفارات الأمـريكية ومن غيرها من المصادر، ويقدّم إلى الكونجرس الأمـريكي. وقد اشتـرط القرار الـــرئاسي المـــذكور الـــربط بين المسـاعـدات الاقتصادية والفنية وغيـرها التي تقدّمها الـولايات المتحدة لدولة ما، وبين مدى احترام هذه الدولة لحقوق الإنسان»([2]).

وفي الولايات المتحدة، أيضا، منظمة: “محـــــامون من أجل المحـــامين وهـي فرع من منظمة أكبر هي: محـــامون من أجل حقوق الإنسان، وأعضاء المنظمتين من المحـــامين المــؤمنين بحقوق الإنسان، وتضمّ المنظمة الثانية على وجه خاص المحامين المؤمنين بوجوب الـدفاع عن الحقوق المهنية والإنسانية لزملائهم. وتقـارير المنظمة لا تقتصر- كما يوحي اسمها- على العناية بقضايا المحـامين فحسب، ولكنها تشمل غير المحـامين الذين يكونون ضـحايا لانتهاك حقوقهم الإنسانية. وللمنظمة اهتمام خاص بالوضع القانوني لـلأقليات العرقية والدينية والقومية. وقد حظيت بصفة العضو المـراقب في لجنة حقوق الإنسان التـــابعة لـلأمم المتحدة، وبصفة العضو الاستشاري لـدى الكــونجرس الأمريكي.

ولـلأمم المتحدة لجنة خاصة بحقوق الإنسان أنشئت بمقتضى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتوجب المادة (40) من هذا العهد على الدول الأعضاء الأطراف فيه تقديم تقارير عن التدابير التي اتخذتها لإعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد الدولي، وعن التقدّم الذي يتحقّق في مدى التمتّع بهذه الحقوق. وتتكوّن هذه اللـجنة من ثمـــانية عشر خبيرا يعمـلون بصفـتهم الشخصية – ولا يعملون باعتبارهم ممثّلين لبلادهم – وتقع على هذه اللجنة مسؤولية مـراقبة تطبيق الحقوق التي يتضمّنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ومتابعة التقدّم الحاصل في التمتّع بها[3]. وقد كان من نتـــائج مـــؤتمر فييـنا (14-25 يـــونيو 1993م) المعروف بـ«المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان» أن تقرر أن تسعى الأمم المتحدة لإنشاء وظيفة «مفوض سام» لحقوق الإنسان. وقد صـدر قرار بذلك من الجمعية العامة في دورتها رقم 48 المنتهية في 20/12 1993م وقد بدأ هذا المفوض عمله خلال عام 1994م.وقد نصّ القرار على: إنشاء منصـب المفوّض الســـــــــــامي لحقوق الإنسان، وعلى أن يكون هذا المفوّض:

(أ) شخصا ذا مكانة أدبية رفيعة وعلى درجة سامية من النزاهة الشخصية، ويتمتّع بالخبرة الفنية، بما في ذلك الخبرة في ميدان حقوق الإنسان، ويتوفّر لديه من المعرفة والتفهّم للثقافات المتنوعة ما يلزم لأداء واجبات المفـوض السامي على نحو نزيه وموضوعي وغير انتقائي وفعال.

(ب) أن يعـينه الأمين العام لـلأمم المتحدة وتـوافق عليه الجمعية العامة مع إيلاء الاعتبار الواجب للتناوب الجغرافي، ويشغل منصبه لفترة محـدّدة مـدّتها أربع سنوات مع إمكانية التجديد لفترة محدّدة واحدة أخرى مدّتها أربع سنوات.

(ج) أن يكون برتبة وكيل أمين عام.

ونص القرار على أن يقوم المفوض السامي بما يأتي:

(أ) أن يعـمل في إطار ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، والقانون الدولي، بما في ذلك الالتزام ضمن هذا الإطار، باحترام سيادة الدول وسـلامتها الاقـليمية وولايتها القضـــائية الداخلية، وبتعـــزيز الاحترام والمراعاة العامين لجميع حقوق الإنسان، تسليما بأن تعزيز جميع حقوق الإنسان وحـمايتها يشكّل، في إطار مقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، شاغلا مشروعا للمجتمع الدولي.

 (ب) أن يستــرشد بـالتسلـيم بأن جميع حقوق الإنسان – المـــدنية والثـقـافية والاقتصادية والسيـاسـية والاجتمـاعية – عالمية مترابطة ومتداخلة لا تقبل التجزئة، وبأنه مع وجوب مراعاة أهمية الخصائص المميّـزة الـوطنية والإقـليمية ومختلف الخـلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول، بصـرف النظـر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقــافية، أن تعزّز جميع حقوق الإنسان والحــــريات الأساسية وأن تحميها.

(ج) أن يسـلم بـأهـمية تعـزيز تنمية متوازنة ومستدامة للناس جميعًا، وبـأهمية كفـالة إعمال الحق في التنمية على النحو المحدد في إعلان الحقّ في التنمية.

والمفوض السامي هو مسؤول الأمم المتحدة الذي يتحمّل المسؤولية الرئيسية عن أنشطة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان في ظل توجيه وسلطة الأمين العام، وفي إطار جملة اختصاص وسلطة ومقررات الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ولجنة حقوق الإنسان، وقد نصّ القرار المشار إليه على أن تكون مسؤوليات المفوض السامي كما يلي:

(أ) تعزيز وحماية تمتّع الناس جميعا تمتّعا فعالا بجميع الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(ب) تـنفيذ المهام التي توكلها إليه الهيـئات المختصة في منظومة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وتقـديم التـوصيات إليها بغية تحسين وتعزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها.

(ج) تعزيز وحماية إعمال الحقّ في التنمية وزيادة الدعم المقدم لهذا الغرض من الهيئات ذات الصلة في منظومة الأمم المتحدة.

(د) تـوفـير الخـدمات الاسـتـشـارية والمساعـدة التقـنية والمـالية عن طريق مركز حقوق الإنسان.

 (هـ) تنسيق برامج الأمم المتحدة التثقيفية والإعلامية ذات الصـلة في ميدان حقوق الإنسان.

(و) أداء دور نشط في إزالة العقبات الـراهنة والتصدّي للتحديات المـاثلة أمام الإعمال التام لجميع حقوق الإنسان، وفي الحيـلـولة دون استمرار انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، على النحو المحدّد في إعلان وبرنامج عمل فيينا.

(ز) إجـراء حوار مع جميع الحكـومات تنفيذا لولايته بغية تـأمين الاحترام لجميع حقوق الإنسان.

(ج) زيادة التعاون الدولي من أجل تعــــزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها.

(ط) تنسيق الأنشطة الـرامية إلى تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في منظومة الأمم المتحدة جميعها.

(ي) ترشيد أجهزة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وتكييفها وتقويتها وتبسيطها، بهدف تحسين كفاءتها وفعاليتها.

(ك) تولّي الإشراف العام على مركز حقوق الإنسان.

وتضـمّن الـقرار-أيضًا- أن تكون جـنيف هـي مقـر المفوض السامي وأن يقدّم تقريرا سنويا عن أنشطته إلى لجنة حقوق الإنسان وإلى الجمعية العامة عن طريق المجلس الاقتصادي والاجتماعي([4]). وقد كان معروضا على مـــؤتمر فييـنا، كــــذلك، فكـرة إنشاء محكمة دولية لحقوق الإنسان، ولكن لم يكتب لهذه الفكرة النجاح، بل إنها وُوجهت بمعارضة شديدة من دول عديدة، لأسباب غير خافية([5])!

وهناك أخيـرًا، في الـــذكر لا في الأهمية، المنظمة العـــربية لحقوق الإنسان، وقد تأسّست في قبرص(!) يوم 1/12/1973، وتتّخـذ مقرًا رئيسًا لممارسة نشاطها في العاصمة المصرية: القاهرة، على الـرغم من عدم التصريح لها بالعمل بشكل رسـمي واضح، والجدل القانـونيّ المستمر منذ افتتاح نشاطها حول شرعية وجودها في القاهرة، وهو جدل يزداد، وتهديـد لها يتكـرّر، كلمــا اتّخـذت مـواقف حـادّة من انتهاكات حقوق الإنسان في مصر([6])! وتبـنّت هذه المنظمة منذ تــأسيسها الإعلان العــالمـي لحقوق الإنسان والعهود الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسة، والعهود الدولية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد أصبحت المنظمة من عام 1983م عضوا مـراقبا في اللجنة الإفـــريقية لحقوق الإنسان والشعوب (المنـبثقة عن منظمة الــوحدة الإفـــــــــريقية) وأصبحت عضوًا استشاريًا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي التـابع لـلأمم المتحدة، ولها صلات وثيقة مع عـديد من منظمات حقوق الإنسان في العالم كله[7]. للمنظمة فروع في معظم البلدان العربية تعاني أكثر ما يعانيه مقــرها الــرئيسي، وكان آخر صور هذه المعـاناة حل فـرع المنظمة في الكويت تطبيقا لقرار صدر في أواخر عام (1993م) بحلّ الجمعيات غير المـرخّصة ومن بينها فرع المنظمة العربية وفرع منظمة العفو الدولية. وللمنظمة العربية فروع ومـراسلون في بعض البلاد الأوربية وهي تصدر تقريرًا سنويًا يستند إلى فروعها وأعضائها الأفراد، وتقارير المنظمات الدولية الأخرى المعنية بحقوق الإنسان. وأهـم من التقـرير السـنوي -في تقديرنا- النشرات غير الدورية التي تصـدرها المنظمة في المناسبات التي تستدعي ذلـك والبيانات الخاصة بانتهاكات معينة ترى التنبيه إليها.

وثمة منظمات أخرى معنية بحقوق الإنسان في الوطن العربي بعضها محـلّي مثل المنظمة المصــرية لحقوق الإنسان، وبعضها غير قطـري مثل اتحاد المحـامين العرب واتحاد الحقوقيين العرب، والاتحاد العام للصحفيين العرب. ولكن الـدور الأكبر عربيا-بلا شك- هو دور المنظمة العربية لحقوق الإنسان.

والسؤال الذي يطـرح نفسه بعد هذا العرض السـريع لمسألة تنظيم الـــدفاع عن حقوق الإنسان هو: مدى مشروعية هذا التنظيم بـالنظر إلـى الأحكام الإسلامية الخاصة بحقوق الإنسان من ناحية، وبالعمل الاجتماعي بوجه عام من ناحية أخرى.

وابتداءً تقـرّر أننا نرى وجوب هذا التنظيم لا مجرّد جوازه.

ويستند هذا الرأي إلى النظر في ثلاثة واجبات تنطق بها النصوص الإسلامية، نطقا صريحا ثابتا بالقرآن الكريم والسنة النبوية: الواجب الأول هو واجب الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواجب الثاني هو واجب التعاون على البر والتقوى، والواجب الثالث هو واجب منع الظلم. ويستند أيضا إلى التقـدير الفقهي لفروض الكفـاية التي تضم جلّ أشكال العمل الاجتماعي. ولا تسمح ظروف مثل هذه الورقة بأكثر من إشارة متعجّلة إلى فكرة «وجوب» التنظيم الذي يتولّى الدفاع عن حقوق الإنسان دون دخول في تفاصيل كيفية هذا الدفاع والآليات العملية التي يمكن اصطناعها لتـحقـيقه، لأن هـذه التفاصيل وتلك الآليات تقتضي دراسة خاصة، فضلا عن كونها متغيّرة من قطر إلى آخر وقابلة للتغيّر والتطوّر من زمن إلى زمن.

ولعـلّ الفارق الجوهري بين نظرة الإسلام إلى حقوق الإنسان، ونظرة الحضارة الغربية إليها هو أن الحضارة الغربية حقّقت أعظم انجازاتها في هذا المجال بتحويل حقوق الإنسان من حقوق طبيعية إلى مطالب سياسية، بينما يجعلها الإسلام- في نصوصه الثابتة –حقوقا ربانية([8]). أو بعبارة أخرى- تحدّد هذا الفرق- فإن الشريعة الإسلامية تنظر إلى حقوق الإنسان على أنها فرائض إلهية وواجبات شرعية على حين أن الحضارة الغربية تراها مجرد «حقوق». وأحد الفروق الجوهرية بين الحق والواجب، أن الأول قابل للتنازل عنه وممارسته ليست ملزمة، بينما الثاني لا يستطيع صاحبه إسقاطه، ويأثم إن فرط فيه أو تنازل عنه([9]). وهـذا الفارق يقود دون عنـاء إلى الـــــــــربط بين واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين تنظيم الـدفاع عن حقوق الإنسان، إذ المعروف في الشـريعة هو كل ما ينبغي قـوله أو فعله وفقا لأحكـامها. والمنكر هو كل ما ينبـغي اجتنابه وفقا لهذا الأحكام. ويستوي في ذلك أن يكون ما يجب الأمر به أو النهي عنه منصوصا عليه صراحة في مصادر هذه الشريعة أو أن يكون مأخوذا من روح النصوص الشرعية وفحواها([10]).

ونصوص القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية توجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الجماعة، كما توجبه على الأفراد، ففـي القرآن الكريم قول اللّـه تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾. (آل عمران: 104) والأمة الإسلامية ممـدوحة في الكتاب العزيز بقول اللّـه تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ (آل عمران: 110). والأمر بالعدل والإحسان في قول اللّـه تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل:90) هذا الأمر بــــــالعدل يتضـمّن إجمــــــالًا لتفصـيل كل أمر بالمعروف وكل نهي عن المنكر. وأحاديث الـــرسول ﷺ في الأمـر بـــالمعروف والنهي عن المنكر أشهر من أن تـذكر وهـي مـروية في الصحيحين وغيــرهما. ويكفي أن نشير إلى قوله ﷺ: «من رأى مـنـكـم منكرا فليـغيّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([11]).

ولـــــــــلإمـام محمد عبده كلام رائع في وجوب تنظيم الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظيما جماعيا، يضمن استمرار العمل بالمعروف واستمرار النهي عن المنكر، ذكره في تفسيره لقول اللّـه تبارك وتعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف﴾ … الآية، حيث قال: «أما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متّحدون وأقوياء يتولّـون الـدعوة إلى الخير، والأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل، ولا منكر أنكر من الظلم»([12]). وعلى ذلك فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو، بتعبير الإمام الغزالي،» القطب الأعظم في الــدين والمهم الذي ابتعث اللّـه له النبيين أجمعين…»([13]) يوجب أن يكون بين المسلمين من ينظمون أنفسهم للدفاع عن حقوق الإنسان على نحو ما وصف الإمام محمد عبده.

والمبـدأ الثاني الذي يؤكّد ما نعتقده من وجوب تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان هو المبدأ التعاون على البر والتقوى المقرّر في قول الله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾. (المائدة:2) وهـذه الجملة الكريمة في ختام الآية الثانية من سورة المائدة، مع آيات أخرى ممـاثلة في مواضع أخرى من القـرآن الكريم، تـوجب التعاون على «البر» الذي هو اسم جـامع لكل خير، أو بـتعبـير ابن عبـاس رضي الله عنه: «البـرّ فعل ما أُمـرت به، والتقوى تـرك ما نُهيـت عـنه، والإثم هو المعـــــاصي، والعدوان هو تعــدّي حـدود اللـه تبـارك وتعالى»([14]). والتعاون في هذا النص أمر بالإعانة يؤديها بعض المؤمنين لبعض، وهي تكون من الجماعة للفرد ومن الفرد للجماعة، فإذا تركوها كانوا آثمين. وإذا كانت حقوق الإنسان في نظر الإسلام- كما قدّمن فروضا واجبة- فإن التعاون على تحقيقها تعاون على البر لا ريب فيه، والتعاون على منع انتهاكها تعاون على منع الإثم والعدوان بلا مـراء.

والمـبدأ الثـالث الذي يـــؤكِّد ما ذهبنا إليه من وجوب تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان هو مبدأ منع الظلم وهو مبدأ إسلامي أصيل فاللّـه تبارك وتعالى يأمرنا بالعدل والإحسان ويتوعّد الظلمة والظالمين. في مثل قوله تعالى: ﴿إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير حق أولئك لهم عذاب أليم﴾ (الشورى: 42). ويعد المظلومين حسن العاقبة في مثل قوله تعالى: ﴿والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾ (النحل: 40) وينذر القـرى الظالمة بالهلاك في مثل قوله تعالى: ﴿وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد﴾ (الحج:45). وقوله تعالى: ﴿وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا﴾ (الكهف:59). وفي صحيح السنة النبوية قول الرسول ﷺ: «اتّقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة». وقوله ﷺ: «إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللّه بـعـقاب من عنده»([15]).

وفي هـذه الأحــاديث وأمثــالها نرى الخطــاب موجّهـا إلى جمـاعة المسلمين، والحديـث عن «الناس» بلفـظ الجمـع يؤكـد أن العمـل في هذا الشأن عمل جماعي لا يقوم به إلا مجموع أفراد يصدعون بالأمر بالنبوي الشريف، ولم يأت هذا الأمر على هذا النحو إلا إيذانا بأن «الفرد» مهما بلغ تأثيره لا يستطيع أن يصنع في هذا الشأن صنيع الجماعة. ومن هنا كان النظر الفقهي الصحيح إلى فروض الكفاية على أنها أفضل في الأداء من فروض الأعيان، وأولى بالتقديم عند التعارض بينهما. لأن نفع فروض الكفاية يصيب الجماعة ونفع فرض العين يناله من يؤديه، والإثم في ترك فروض الكفاية يلحق الكافة، بينما يقتصر الاثم في ترك فرض العين على مكلف واحد([16]).

وفي صحيح السنة واقعة تؤكّد ذلك كله، تلك هـي رواية الـرسول ﷺ لقصة «حلف الفضول». فقد روى أصحاب السير أم رسول اللّـه ﷺ قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جــــدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردّوا الفضول على أهلها وألا يعزّ ظالم مظلوما» (أي يغلبه) وفي رواية …» ما أحبّ أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»([17]). وقد كان من شأن هذا الحلف أن بعض ذوي الغيرة من أهل مكة ساءهم أن بعض كبار القوم فيهم يستبيحون ظلم الغريب ويأبون أن يؤدّوا إليه حقه فاجتمع هؤلاء الرجال، وكان فيهم بعض أعمام رسول اللّـه ﷺ، وتعاقـدوا وتعاهــدوا باللّـه ليكونـن يدا واحدة على الظالم في نصرة المظلوم، أو تعاهــدوا «ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلته» فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول[18]. وفي السير أيضا أن أصحاب رسول اللّـه ﷺ لم ينكروا على من دعا بحلف الفضول –وهو الحسين بن علي رضي الله عنه- حين ظلمه بعض القوم حقه فقال له: «لتنصفني أو لأقومن في مسجد رسول اللّـه ﷺ ثم لأدعون بـحلف الفضـول، فقـال جـمع من الصــحابـة والتابعـين: لنقومن معه فلننصفنه -أو حتى ينصف- أو نموت جميعا»([19]). وكأن هؤلاء الصحابة والتابعين أرادوا الاستغاثة بمنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان آنذاك، ولم يجـدوا في ذلك حرجا بل وجده أهل الغيـرة منهم واجبا ولو قدموا في سبيل أدائه حياتهم.

فتظــــاهـرت من ذلك كله: نصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة النبـوية، وخبـر النـبي ﷺ عن حلف الفضـول وصنيع الصحـابة رضوان اللّـه عليهم، وتقديم جمع من الفقهاء، ذوي النظر الاجتماعي الثاقب، فروض الكفاية على فروض الأعيان عند التعارض- تظاهرت الأدلة، من ذلك كله، على وجوب تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان، ولم يمنع من ذلك في عصـر الصحـابة رضي الله عنهم قيام الدولة على الشرع الحنيف ولا وجود قضاة يولّيهم الحاكم أمر فضّ المنازعات بين الناس. فإذا قيل اليوم إن تكوين جماعة للدفاع عن حقوق الإنسان أمر واجب، مع بعد العهد بين عدل العصر الإسلامي الأول وبساطته وتعقّد حياتنا وتنوّع صور انتهاك الحقوق التي قد تصيب الفرد والجماعة، وتكاثر الأمور التي أصبحت العناية بها عناية بأنواع جديدة من الحقوق الإنسانية، على نحو ما يتبيّـن من الاختصـاصات التي نيطت بالمفوض السـامي لحقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة لـلأمم المتحدة التي تشارك في عضــويتها الدول الإســلامية جميعا، وحــاجة بعض هـذه الحقوق إلى تخصّص دقيق مثل الحقوق المتعلّقة بــالصحة، والبيئة والعمل وغيرها….إذا قيل اليوم في ظل هذه الظروف جميعا إن تنظيم الحقّ في الدفاع عن حقوق الإنسان، وتنظيم وسائل مراقبة الالتزام بما فـــــرضه اللّـه له من هـذه الحقوق، أمـر واجب، فإن هذا القول لا يكون مجافيًا لنصوص الشرع بل يكون متّفقا معها مستلهما روحها. والقول بغير ذلك لا يعيبه محض الخطأ الفقهي، فهذا لا يسلم منه أحد مهما بذل من جهد وأوتي من بصـيرة، ولكنه يعاب لخطورته التي تتمثّل في تصويره الإسلام الحنيف، الصالح لكل زمان ومكان، عند أهل هذا الـزمان في مختلف الأماكن التي يعيش فيها المسلمون، بصورة لا تتّفق مع حقيـقـته، وتجعله أقلّ من غيره من النظم البشرية قدرة على الإنصـاف، وإحقاقا للحقّ، وإبطالا للباطل، وإقامة للعدل الذي به قامت السماوات والأرض جميعا[20].

وجامع ما ننتهي إليه في هذه العجالة أن الإسلام الحنيف كما سبق إلى تقرير الحقوق الإنسانية من حيث موضوعها على نحو ما فصّلها البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام، سبق إلى إيجاب تنظيم الدفاع عنها بصورة تحقّق في الواقع العملي-لو طبّقت التطبيق الصحيح- وضعًا لحقوق الإنسان أفضل كثيرًا مما هي اليوم عليه في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

واللّـه تعالى جده. أعلم وأحكم.

________________________

المصدر: محمد سليم العوّا، في: ندوة “حقوق الإنسان في الإسلام”. لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2004، ص399-428، http://doi.org/10.56656/100095.08.


([1]) هذه المعلومات والمعلومات التي تليها عن سائر المنظمات تعتمد أوضاعها حتى شهر يونيه 1995.

([2]) للعــــربي المسلم أن يقول هنا: أفلح إن صدق! فإن الواقع ليشهد أن أكبر الدول حظوة في تلقي المساعدات الأمـريكية: إسرائيل، هي أعظمها انتهاكا لحقوق الإنسان المتمثّل في شعب كامل هو الشعب الفلسطيني، ثم تتوالى المواقف الأمـريكية من البوسنة، ومن مسلمي الهند، ومن الصومال، ومن الجزائر، وغيرها، لتثبت أن القول لا يصدق العمل.!!

([3]) انظر مثالا لعمل هذه اللجنة في: “المنظمة المصرية لحقوق الإنسان: وجها لوجه”، (الرد على تقرير الحكومة المصرية إلى اللجنة) القاهرة، 1993.

([4]) «قرار الجمعية العامة لـلأمم المتحدة رقم 48/141 الصادر في الجلسة العامة رقم 85 المعقودة في 20/12/1993م في دورتها الثامنة والأربعين».

([5]) راجع ورقة الدكتور محمد حمد عمران عن حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق المقدمــة إلى “ندوة جمعية الحقوقيين بالإمارات العربية المتحدة”، ديسمبر 1993، ص3-4.

([6]( وإنشاء المنظمة في قبرص دليل على الحاجة إلى تأصيل «تنظيم» الدفاع عن حقوق الإنسان في الفكر السياسي العربي والإسلامي المعاصر.

(([7] التقـرير السنوي لمجلس أمناء المنظمة «عشر سنوات في المواجهة 1983 – 1993»، القاهرة، 1 و2 ديسمبر 1993.

([8]) سيف الدولة، عصمت، الإسلام وحقوق الإنسان، التعارض والتوافق، منـبر الحوار، العدد 9 سنة 3 (1408هـ/ 1988م)، ص33.

([9]) عمارة، محمد، الطيب والخبيث في حقوق الإنسان، العدد سالف الذكر من مجلة منـبر الحوار، ص 40.

(([10] العوا، محمد سليم، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ط7، دار الشروق، القاهرة – مصر، ص 155.

([11]) صحيح مسلم مع شرح النووي، ج2، ص21- 24.

(([12] رشيد رضا، محمد، تفسير المنار، (وهو تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده)، الجزء4، ص45.

(([13] الغزالي، محمد، إحياء علو الدين، ج2، ص 269.

([14]) ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، الجزء4، ص45.

([15]) صحيح سند أبو داود لـلألباني، ج3، ص 818، برقم 3644.

(([16] راجع: العواّ، محمد سليم، المـرجع السابق ذكره، ص 172 – 173. وتفضيل فرض الكفاية هو قول الإمام الإسفرايينـي وإمام الحرمين الجويني وأبيه، ونسبه ابن حجر الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر إلى: جمع من العلماء.

(([17] سيرة ابن هشام، القاهرة، 1914، ج1، ص90، والسيرة النبوية للندوي، بيروت، 1981، ص127، وغيرهما من كتب السيرة.

([18]) وقد جاء في سبب التسمية أن ذلك الحلف كان الحلف الثاني، سبقه اتفاق ثلاثة من جرهم وهم الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن قضاعه، سيرة ابن هشام، الجزء1، ص91.

(([19] سيرة ابن هشام، المصدر السابق، ص 93.

(([20] قارن ورقة الدكتور عبد اللّـه النعيم المقدمة إلى «ندوة اتحاد المحامين العرب (المكتب الدائم) تونس، ديسمبر، 1992» وتعليق الدكتور محمد سليم العوّا عليها في الاجتماع نفسه.