موقع حوارات

موقع حوارات

يشغل مالك بن نبي؛ كما يستنتج القارئ لمؤلفاته العارف بسيرة حياته؛ موقعًا خاصًا في الفكر الإسلامي الحديث. ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن هذا الفكر يشكل مدرسة خاصة من مدارس الاتجاه الفكري الإسلامي المعاصر.

مالك بن نبي هو أولًا نتاج لأطول تجربة خاضها مجتمع مسلم مع الاستعمار، وهي تجربة الجزائر، وهو ثانيًا: استمرار للتيار الإصلاحي الذي قاده في مصر الشيخ محمد عبده وتلاميذه، وفي الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس و”جمعية العلماء”، ثم هو كما يخبرنا في سيرة حياته “مذكرات شاهد للقرن” تأثر في شبابه كثيرًا بالدعوة السلفية التي جاء بها الشيخ محمد عبد الوهاب وسميت بالوهابية لدرجة أنه عقد العزم على السفر إلى الحجاز؛ ولكن العراقيل البيروقراطية هي التي حالت دون تنفيذه لعزمه في الثلاثينات من القرن العشرين، وهذه القاعدة الفكرية التي انطلق منها مالك بن نبي: إصلاحية عبده وبن باديس والدعوة السلفية في الجزيرة العربية، تفيدنا في فهم توجهه الفكري العام. ثم من بعد ذلك كان مالك بن نبي مشاركًا في التغيرات السياسية والأيديولوجية في العالم الإسلامي؛ وفي المشرق العربي على وجه الخصوص.

أن تكون ابن مجتمع مستعمر بل تم احتلاله من قبل الاستعمار قبل أن تولد بعشرات السنين، فهذا يعني أنك ستطرح أولًا وقبل كل شيء على نفسك مهمة تمييز نفسك كثقافة مستقلة، وفي الحقيقة كان الإسلام عند بن نبي بديهة، بل إن المستعمر لم يكن يسمي أهل الجزائر بأي اسم قومي آخر غير الإسلام، ففي الجزائر كان هناك “فرنسيون” و “مسلمون” (وهذا ما نراه في وثائق تلك المرحلة وكتاباتها) والأمر الذي واجه بن نبي إذًا ليس مسألة نزاع داخلي على السلطة مع تيار علماني وطني -على الأقل في القسم الأعظم من حياته الذي شهد أهم كتاباته، وهو القسم الذي سبق استقلال الجزائر- بل هي مسألة صراع مع استعمار غريب وفي هذا الصراع طرح بن نبي على مجتمعه مهمة النهضة الحضارية التي تخلصه من القابلية للاستعمار وصولًا إلي الخلاص من الاستعمار نفسه. ومن هنا لم يواجه بن نبي مشكلة تطبيق الشريعة الإسلامية في الدولة الوطنية، بل واجه مشكلة نهضة حضارة الإسلام من سباتها العميق. إن ميزة مدرسة مالك بن نبي التي تهبها طابعها الخاص في مدارس الفكر الإسلامي المعاصر هي أنها تركز على مشكلة الحضارة الإسلامية وليس على مشكلة السلطة السياسية. وقد شارك مالك بن نبي أحيانًا في جدالات مع المستشرقين بشأن ادعائهم أن الإسلام بالذات هو مصدر تخلف المسلمين. وبنظرته الحضارية ما انتابه الشك قط في الحقيقة التي تقول إن الإسلام هو -على العكس- عامل نهضة وإن المسلمين ينحطون بقدر ابتعادهم عنه.

ولكن الفرق بينه وبين المدارس الإسلامية التي ظهرت من الستينيات فصاعدًا أنه لم يواجه مشكلة ابتعاد الدولة الحديثة عن الشريعة بل استمر في المدة القليلة التي عاشها بعد الاستقلال في الاطمئنان إلى أنه لا خطر على الإسلام نفسه، وإنما الخطر هو في استمرار المسلمين في وضع الانحلال الحضاري.

وفي رأيي أن طريقة مالك بن نبي في طرح مشكلة المسلمين كمشكلة حضارة ومجتمع ودعوته المجتمع الإسلامي للنهوض بعمله الخاص الدؤوب ودون انتظار نيل الحقوق من طرف خارجي هي طريقة قيمة جدًا نحتاج إليها هذه الأيام، حين نرى أن من الإسلامين من يمحور كل نشاطه حول هدف مطالبة السلطة بحقوق أو قوانين ويترك مهمة الإصلاح الاجتماعي مؤجلة بانتظار تطبيق الشريعة الإسلامية! إن مالك بن نبي في رأيي يعلمنا أن تطبيق الشريعة هو واجبنا، وعلينا أن نشرع به فورًا في أوسع أبوابه، وهو باب بناء المجتمع المتين، لا في أضيق أبوابه، وهو باب الجدل العقيم والتركيز على الفرعيات والبحث عن نقاط الاختلاف وليس عن نقاط الالتقاء بين المسلمين.

وطريقة مالك بن نبي في التحليل الصبور لمشاكل الحضارة يحتاج إليها جيل الشباب عندنا الذين يميلون في حماسهم إلى ترك التحليل العلمي وتفضيل رفع الشعارات عليه.

ولعل لجوء بن نبي إلى التحليل الصبور مما لا يجعله كاتبًا مفضلًا عند هؤلاء الشباب الذين يعجبهم الأسلوب الحماسي الذي يطرح أفكارًا قليلة وعواطف كثيرة، مالك بن نبي يطرح على العكس عواطف قليلة وأفكارًا كثيرة وهو بمنهجه هذا يعتقد أن مسألة نهضة الحضارة تخضع لسنن الله في الكون، وهي بالتالي تستوجب منا أن ندرس هذه السنن بإمعان لنستطيع التأثير ونكون فاعلين في الحضارة كما رأينا العمل الصبور المنهجي الدؤوب المتواضع الذي يقبل بإنجازات صغيرة هي لبنات بناء الحضارة المنشودة ولا يتبع مبدأ “كل شيء أو لا شيء” وليس مصابًا بمرض فرط التسييس الذي لا يرى شيئًا مهمًا خارج مسألة السلطة، هذا العمل هو الذي يبدو لي أنه جوهر دعوة بن نبي، وليس بن نبي قليل الطموح؛ فهو يرى أنه انطلاقًا من هذا العمل، انطلاقًا من قيام كل فرد في المجتمع بواجبه نحصل على حقوقنا الكبرى في العالم.

فإلى من يتوجه بن نبي في الخطاب؟ أيتوجه إلى المجتمع أم إلى السلطة؟ وإجابتي على هذا السؤال تقول إن بن نبي يتوجه إلى كليهما، ولكنه يركز اهتمامه خصوصًا على العمل الاجتماعي الذي تقوم به المؤسسات الوسيطة بين الدولة والناس، كالجمعيات الأهلية والمؤسسات الاقتصادية، وهيئات التخطيط الاجتماعي والعمل الثقافي، ولا يركز اهتمامه الوحيد على مركز القرار السياسي في المجتمع. وباختصار فإن مدرسة مالك بن نبي السياسية توجه انتباهنا إلى جوانب في غاية الأهمية من شأنها أن تثري العمل النهضوي وتستكمل نواقصه.

وحين نريد أن نحدد موقع بن نبي في الفكر الإسلامي المعاصر فإننا يمكن أن ننظر إليه بطريقتين مختلفتين واحدة داخلية وأخرى خارجية.

الطريقة الداخلية هي أن ننظر إلى هذا الفكر ببنائه الداخلي الذاتي وتفاعله مع الواقع.

والطريقة الخارجية هي أن ننظر إليه بمقارنته بالمدارس الأخرى. وهذه الطريقة تساعدنا بلا شك على رؤية ما لم يطرحه بن نبي أو ما لم يواجهه من قضايا ومشاكل، ولكنها تساعدنا أيضًا على رؤية جوانب قوة رؤيته إزاء جوانب ضعف المدارس الأخرى، الطريقة الداخلية هي التي اتبعتها إلى الآن في مقالي هذا، وهي تخبرنا، فيما آمل، عمّا قاله بن نبي ولكنها لا تخبرنا عما لم يقله وقالته المدارس الأخرى.

وما كنا لنتتطرق إلى هذه النقطة الأخيرة لولا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في أيامنا هو الآتي : كيف كان بن نبي سينظر إلى من يسمون في عصرنا بالإسلامين؟ وما الذي كان سيقره من أطروحاتهم وطرقهم في التفكير -علمًا أنهم متنوعو الأفكار وليسوا متطابقين في كل شيء، بل يختلفون من اتجاه الآخر في قضايا هامة- وما الذي كان سيرفضه؟

في الحقيقة إن الذي يقرأ بن نبي وفي ذهنه منذ البداية طريقة الاتجاهات المعاصرة المسماة الاتجاهات الإسلامية، قد يميل وهو يبحر في صفحات بعض مؤلفات بن نبي إلى عده مجرد باحث اجتماعي أو باحث في فلسفة التاريخ كان من الممكن ألا يكون أصلًا باحثًا مسلمًا، فكثير من نظرياته الاجتماعية والتاريخية صالحة لأن تقال في أي ثقافة أخرى وأيًا يكن انتماؤها الديني.

هذه نقطة افتراق كبرى عن الاتجاه الإسلامي السياسي السائد؛ إذ هذا الاتجاه الأخير لا يهتم بالتحليل الاجتماعي والتاريخي بحد ذاته؛ بل هو أساسًا تشغل باله فكرة واحدة هي إقامة دولة على أساس الشريعة الإسلامية؛ وهو يرى أن كل مشاكل المسلمين ناتجة عن غياب هذه الدولة؛ وأنه ما من حل مجد قبل هذا القيام، وكل التحليلات السوسيولوجية والتاريخية إن وردت في كتابات هذا التيار وورودها نادر فهي ترد لتأكيد هذه الفكرة الرئيسية.

سأقول بداية: إن فكرة بناء الدولة على أساس الشريعة الإسلامية ونقد قيام الدولة المعاصرة في بلاد المسلمين على أساس القانون الوضعي المستورد لا تكاد ترد عند بن نبي وهو يعد مشكلة المسلمين الأساسية -كما رأينا- هي أنهم يعيشون في حالة انتقالية بين وضع حضارة قديمة تفسخت وحضارة جديدة لم تبن بعد، وكل كتاباته سماها بالفعل مشكلات الحضارة، وكل حديث عن بن نبي هو حكمًا حديث عن نظريته في شروط النهضة؛ وما يسبق هذه النظرية منطقيًا من نظريات أعم في دورة الحضارة وبناء المجتمع وتغير هذا البناء مع المراحل التي تمر فيها الحضارة في تطورها بين النهوض والارتقاء والانحدار.

ولكن بن نبي إن كان قليل التركيز على مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية فإن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه غير مهتم بالشريعة؛ وبالعكس؛ فهو أولًا في نظريته الرئيسية يرى أنه لا يمكن أن تقوم حضارة بغير دور الدين المركب لعناصر الحضارة كما رأينا، وهو ثانيًا يعارض الأوضاع الاجتماعية التي لا تتناسب مع الشريعة الإسلامية وإن كنا نرى أنه ضمنًا لا يرى أن نصوص الفقه الإسلامي تكفي وحدها لبناء الحضارة المطلوبة؛ إذ هذه الحضارة لها سنن علمية مثل سنن الطبيعة على المسلم أن يبحثها ولا يتوقع أن يجدها جاهزة في نصوص الشريعة؛ وإن كان بالتأكيد يجد كثيرا من التوجيهات العامة في هذه النصوص (كما رأينا في استشهاداته بالآية عن التغيير ]إن الله لا يُغيرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنفُسِهِم( [الرعد: ۱۱/۱۳] وبالحديث “توشك أن تتداعى …”، وبأحداث السيرة)، ومن هنا رأيناه يطالب لحل مشكلة المرأة في المجتمع الإسلامي بمؤتمر يشارك فيه اختصاصيون في علم النفس والتربية والطب وعلم الاجتماع كما يشارك فيه اختصاصيون في الشريعة. ولعل هذا المثال يوضح بصورة جيدة أنه يرى الشريعة قانونًا عامًا للمسلمين ولكن حياتهم الاجتماعية تتقرر بسنن لا تتعارض مع الشريعة، ولكن نصوص الشريعة لا تكفي وحدها لاستخلاصها. وفي اعتقادي أن هذا الرأي بالذات رأي أي عالم شرعي متبحر؛ رغم أن العناصر المتسرعة في مجتمعنا قد تسارع إلى التنديد بهذا الفهم الذي هو في الحقيقة للمتأمل هو بديهيًا. وهو يعد الشريعة أساس حضارة الإسلام على شرط أن تكون فاعلة في الروح والنفس كما رأينا، لا أن تكون نصوصًا جامدة للاستظهار أو للبحث النظري المجرد.

والاختلاف الكبير لرؤية بن نبي عن رؤية الأيديولوجية العربية المعاصرة كلها، وليس عن أيديولوجية الحركة الإسلامية ما بعد البنا فحسب، هو أنه لا يرى حل مشكلة المسلمين في استلام سلطة مهما تكن جيدة، بل يراها أساسًا فعلًا اجتماعيًا وتجددًا نفسيًا روحيًا لمجتمع، شبكة علاقاته الاجتماعية كثيفة، يقوم كل فرد فيه بواجبه ويركز على واجباته أكثر مما يركز على حقوقه.

وهذه الفكرة أراها غاية في الفائدة في زماننا؛ إذ إنه في الوقت الحاضر ما من سلطة -مهما كانت جيدة- تستطيع أن تصمد أمام التحديات الخارجية وأمام المتطلبات الداخلية أيضًا، من اقتصادية وغيرها، إذا استمر الوضع الاجتماعي الحضاري المتحلل عندنا وهو متحلل بوجوهه كلها، فثمة تجزئة سياسية وتناحر بين الدول وتدهور اقتصادي وتحلل اجتماعي وثقافي. وأي عمل فوقي لن يجدي فتيلًا إن لم يترافق مع عمل تحتي يقوم به مجتمع بثت به الروح وقرر فيه كل فرد أن يقوم بواجبه، وكأن مصير الحضارة كلها معلق به، وفي رأي بن نبي أن هذه النهضة عندنا تقوم أساسًا على أساس الدين وهو بهذا المعنى بلا شك مفكر إسلامي بامتياز، وهو في هذا السياق انتقد المستشرقين نقدًا مريرًا لاعتقادهم أن الإسلام بالذات كان هو العامل المسبب لانحطاط المجتمعات الإسلامية؛ أما هو فكان يؤمن إيمانًا عميقًا أن الإسلام هو عامل نهضة، وأن الابتعاد عن الإسلام هو السبب الحقيقي في الانحطاط، ومن هنا فإن التحلل من واجبات الدين لا ينتج شرطًا من شروط النهضة بل على العكس، وهذا ما جعله ينقد رئيس بلد إسلامي اقترح على شعبه الإفطار في رمضان المواجهة ضرورات البناء الاجتماعي، قائلًا:

“كأن هذا البناء يمكن أن تقوم قائمته دون أسس أخلاقية، أو كأنما يمكن في أي بلد فصل الجهد الاجتماعي عن القوى الأخلاقية التي تسانده، دون هدم هذا الجهد ذاته وهذا مستحيل” (” ميلاد مجتمع.. ” ص ۹۸).

وعند بن نبي لا نجد علاقة عدائية مع الأنظمة السياسية، وهو لا يطرح شعار إسقاط الأنظمة، وقد يقال إنه لم يكد يشهد في بلاده نظامًا ليفكر في إسقاطه؛ إذ لم يعش طويلًا بعد عهد الاستقلال، وهذا على صحته ما كان ليصح حتى لو أن بن نبي بطريقته في التفكير عاش إلى الآن؛ لأنه؛ كما رأينا؛ ما كان من الممكن أن يرى حل المشكلة الحضارية في إجراء سياسي فوقي من نوع “تطبيق الشريعة الإسلامية” بمعنى استبدال المدونة من نوع “المجلة” العثمانية بالقانون الوضعي، والتجارب المعاصرة تعطيه في رأيي الحق في ذلك، ولنتأمل في أمثلة طُبقت فيها الشريعة بهذا المعنى كما في السودان والسعودية؛ بل كما في اليمن الإمامية.. بل كما في أكثر من تجربة كانت تحوز على الجماهيرية وقامت على أكتاف الناس وتمتع قوادها بنظرة للمجتمع والعصر والشريعة بل والفكر واسعة الأفق إلى حد جيد برأيي وهي تجربة “الثورة الإسلامية الإيرانية”.

ولا يجعل هذا من بن نبي طبعًا كما رأينا شخصًا لا يريد تطبيق الشريعة لكن له فهمه الأوسع أفقًا لهذا التطبيق المستند بصورة أفضل إلى سنن الله في المجتمع والحضارة. وقد حاولت في هذه الدراسة أن أشرح معنى هذه الفكرة.

وبن نبي لم يؤسس حزبًا سياسيًا، وفي اعتقادي أن طريقته في التفكير وفي تصور “البرنامج” الذي يجب أن تسير عليه السياسة الإسلامية ما كان ليجعله يسير في اتجاه كهذا، ولعل إعجابه بحركة الأستاذ البنا في بداية صعودها الكبير ناتج عن كون هذه الحركة غير حزبية، بل كان موقف البنا من الأحزاب المصرية في غاية السلبية كما هو معلوم فهو يقول: “الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهي أساس الفساد الاجتماعي”، وقد طالب بحلها جميعًا([1]).

ورؤيته لم تكن أيضًا لتجعله يركز على مسألة الصراع على امتلاك القرار السياسي رغم أنه ما كان يهمل دور هذا القرار. غير أنه لم يكن يحس كما يرى قارئه بهذا الفصام المرير عن الأنظمة الحاكمة الذي يحس به كثير من عرب اليوم، وعلى العكس من ذلك فقد كانت له صداقة مع الأنظمة ولا سيما النظام الناصري وكان معجبًا بالنظام السعودي الذي قام على أساس الحركة السلفية المسماة الوهابية، ونعى على بعض المفكرين (وهو بن باديس) أنهم لم يفهموا الفرق بين ابن سعود والإمام يحيى فأنبوا الطرفين على الاقتتال بينهما كأنما الشيخ لم يتبين عظم النزاع الذي تقف فيه القوى الروحية والمادية في النهضة الإسلامية متجسدة في الفكرة الوهابية، في وجه قوى الانحطاط والتدهور ممثلة في الإمام يحيى (“وجهة العالم الإسلامي”، ص۹۳) وإن كان على ما يبدو خاب أمله في تطور المجتمع السعودي كما خاب أمله في تطور تجارب نهضوية أخرى! وليراجع القارئ خيبات أمله التي تظهر في جمل قصيرة في كتب العقود اللاحقة، انظر مثلًا تعليقه عن خيبة أمل الحاج -وأحسبه يتكلم عن نفسه- الذي يصادف حين ينزل في جدة لافتة “هيئة الأمر بالمعروف” فيطرب لها ثم حين يتقدم خطوات يخيب أمله (“مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، ص 90).

 وأعتقد أن بن نبي لو عمل في الميدان العام فسوف يعمل في صفوف حركة اجتماعية ليس لها طابع حزبي بل هي حركة عامة تستهدف البناء التحتي ولا تستهدف اجتذاب الأصوات الانتخابية أو الصعود إلى السلطة، وقد رأينا في فقرة سابقة أنه ما كان يفضل شكلًا محددًا من الأنظمة السياسية فلا يفاضل بين الجمهورية والملكية والاستبداد المطلق على أساس هذه الصفات بالذات، بل على أساس المضمون الإيجابي الذي يحدد إن كانت سياستها علم اجتماع مطبقًا أم ضربًا من الأوهام والخزعبلات!

ونرى هنا فارقًا لأسلوب بن نبي في التفكير السياسي وفي المفاضلة بين الأنظمة وبعض التيارات المعاصرة التي تصر على تبني شكل معين على أنه “الشكل الشرعي ” -مثل شكل “الخلافة”- والفرق في الحقيقة شاسع؛ فبن نبي لم يكن يعتقد أن ثمة إجابة جاهزة على الأسئلة التطبيقية مثل سؤال نظام الحكم، وما كان يرى في شكل نظام الحكم إلا شكلًا فحسب، يحدد الحكم عليه من خلال مضمونه الفعلي الواقعي وفاعليته في المسألة المركزية عنده: مسألة النهضة.

ويلفت انتباهنا في فكر بن نبي غياب الحديث عن “الجهاد” تقريبًا، فهل كان بن نبي يجهل هذا المفهوم؟

في اعتقادي أن بن نبي كان كما رأى القارئ يجعل من النهضة أساس الحل لمشكلة الحضارة الإسلامية وهو في بداية كتاب “شروط النهضة” يتحدث عن الجهاد البطولي للأمير عبد القادر والقبائل التي انضمت تحت رايته ويلاحظ ملاحظة حزينة على هذا الجهاد: “إنهم كانوا يقاتلون من أجل الخلود لا من أجل البقاء!”([2]).

“فعندما برق في أفقنا فرس الأمير عبد القادر في وثبته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفى سريعًا شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم”. (“شروط النهضة”، ص20).

على أن هذا الجهاد وإن لم يحقق غاية غير الخلود؛ فقد كتب الخلود لشعب مثبتًا قوة الإسلام الروحية التي كانت درعه الذي منعه من الانحلال كما انحلت شعوب أخرى كالشعوب الأمريكية الأصلية.

وأستنتج من هذا أن بن نبي كان لا يرى الجهاد طريقًا يحل بذاته المشكلة الحضارية؛ فأولًا يجب حل مشكلة القابلية للاستعمار أي مشكلة النهضة. على أنني لا يفوتني بالمناسبة أن أذكر أن بن نبي نسب للإسلام بقاء هذه الشعوب؛ فهي نفسها باقية على الإسلام وإن بشكله غير الفاعل ومشكلتها حضارية لا عقدية كما رأينا عند نقده للحركة الإصلاحية، وقد وجدت من الواجب الإشارة إلى هذه النقطة: إن مالك لم يخطر على باله -ولا خطر على بال معاصريه- ما خطر على بال الغلاة الذين جاؤوا بعده من عد المجتمعات الإسلامية الحالية مجتمعات جاهلية بل كافرة.

وقد يبدو هذا الرأي (الذي لا يرى في الجهاد الآن حلًا) انهزاميًا -وأعتقد أن هذا الرأي الاستنتاجي لم يصغه هو بهذه الصورة الصريحة- ولكنني أراه في غاية الواقعية؛ وبالذات إذا نظرنا إلى واقعنا الراهن؛ حيث تحولت فكرة الجهاد إلى فخ يكاد يقود الشعوب الإسلامية إلى حتفها، والمكان الوحيد الذي أعرفه لا يمكن فيه إلا المقاومة حتى لو لم يتوفر أي شرط مادي أو اجتماعي أو فكري هو فلسطين التي يواجه شعبها خطرًا على وجوده الجسدي بالذات والمقاومة مفروضة عليه خيارًا إجباريًا، ولعلي ألاحظ هنا أن المجتمع الفلسطيني قد شهد نهضة داخلية عظيمة ما كان بن نبي إلا ليفرح لها في ظل الانتفاضة. وهذه النهضة الاجتماعية التي حققت أرقى أشكال التنظيم والعلاقات الاجتماعية قلما تتم الإشارة إليها في الدراسات عن الانتفاضة، ولم يؤثر فيها الإفساد المتعمد الذي جاء من الخارج المحتل ومن الداخل السلطوي.

وأعتقد أنه من حسن حظ بن نبي رحمه الله أنه مات ولم يشهد ما جرى في بلاده الحبيبة من مسخ شيطاني لم يشهد له تاريخ الإسلام مثيلًا للفكرة الدينية التي تحولت بشكلها الزائف شيطانًا دمويًا مشبوه الأصل والدوافع يغتال عشرات الآلاف من الأبرياء، وينشر الرعب تحت خيمة الشيطان الكبرى التي اسمها في عصرنا: “تكفير المجتمع”.

وفي اعتقادي أن المسلمين محتاجون قبل الجهاد الأصغر إلى جهاد أكبر، يكافحون فيه عوامل الانحطاط في ذواتهم وعيوبهم الاجتماعية الهدامة من ذاتية وانعدام روح المصلحة العامة وعشائرية وجهل وكسل وفقدان للمنطق العملي مما رأيناه شروطًا للنهضة تقوم بوجودها ولا تقوم بغيابها.

ولنأت الآن إلى السؤال عن السر في قلة تأثير فكر بن نبي في وقت إنتاجه :

في اعتقادي أن هناك من الأسباب ما هو عَرَضي وما هو جوهري :

الأسباب العرضية تتمثل في صعوبة أسلوبه ووعورة لغته وسوء تركيبها ولجوئه إلى التحليلات النظرية الدقيقة التي يصوغها أحيانًا بمعادلات رياضية! ولا شك أن كاتبًا كهذا لن يكون مشوقًا للقراءة خصوصًا إذا قورن بكتاب يعتمدون على صيغ بسيطة خطابية عاطفية ذات ألفاظ مجلجلة.

وأما الأسباب الجوهرية فأهم ما فيها في نظري، السبب الذي أصوغه كما يلي: إن بن نبي جاء في غير وقته!

لقد كان زمنه زمن السياسة وزمن فكرة أولوية النضال من أجل السلطة على ما عداه وفكرة وجود عامل واحد يحل المشاكل الاشتراكية أو الوحدة العربية أو تطبيق الشريعة وبناء الدولة الإسلامية. لقد كانت هذه سمة العصر التي كانت كما قلت توحد تيارات الأيديولوجية العربية باطنًا وإن اختلفت بل تناقضت في الظاهر.

وكما يحصل مع الأفكار الأصيلة فإنها يمكن أن تتوارى في الخلفية في حالة كمون في الظروف غير الملائمة لها؛ ثم تبرز إلى السطح مع بروز الحاجة الاجتماعية لها.

لقد هُزم مشروع التغيير من فوق، وكما ذكرت لنتأمل في التجربة السودانية تحت حكم الإنقاذيين وما جرى لهم، وما جرى لتجربة هي أهم من هذه بعد، إذ هي تجربة سلطة صعدت على أكتاف مظاهرات التأييد المليونية: تجربة الثورة الإيرانية.

والذي أراه أن بن نبي أصبح مطلوبًا الآن.. لماذا؟

السبب الجوهري أن الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجية العربية في نصف القرن الماضي قد تلقى ضربات قاصمة :

ولنتأمل فوق هذا في هزائمنا المعاصرة كلها: لقد هُزمت سلطتا دمشق والقاهرة في عام ١٩٦٧ دون أن يكون أقطاب هاتين السلطتين وخصوصًا السورية من الفاسدين وعلى العكس يشهد معاصرو رجال السلطة السورية المهمين أنهم آنذاك من الناحية الشخصية كانوا في غاية النزاهة ونظافة اليد والإخلاص لمبادئهم.

إذن هذا الواقع يفرض العودة إلى السؤال الحضاري … سؤال الفاعلية … سؤال النهضة وهذا هو سؤال بن نبي الذي لم يستمع إليه معاصروه جيدًا.

 لذلك فالزمان الآن زمانه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: جزء مستل من كتاب “مالك بن نبي والوضع الراهن”، ص70-83. (مع تعديل عنوان الجزء المستل من جانبنا).

** الدكتور محمد شاويش: ولد في سوريا عام 1961 من أسرة فلسطينية. حاصل على إجازة في الشريعة وأصول الدين. حائز على ماجستير في الدراسات العربية ودكتوراه في علم الترجمة عن مشكلة ترجمة الأدب العربي إلى الألمانية من جامعة FU Berlin -قسم اللغات السامية. له عديد من الكتب والمقالات المنشورة في صحف ومجلات عربية.


[1] انظر: مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي”- “نظام الحكم”- مكتبة الإيمان بالمنصورة -١٤١٢هـ -١٩٩٢م – ص 326- 327.

[2] يتطابق تقويم بن نبي هذا وبصورة غير متوقعة مع تقويم مفكر عربي من اتجاه مختلف تمامًا -وهو ياسين الحافظ- للمقاومة القومية التقليدية للاستعمار الفرنسي في فيتنام، وهي مقاومة انتهت بالهزيمة حتى جاءت الحركة المحدثة التي قادها هوشي مينه. ولا أعرف إلى أي حد حدث الشيوعيون فيتنام حقًا فالحافظ في كتابه “التجربة التاريخية الفيتنامية “- كان واقعًا تحت تأثير الحماس للانتصارات الفيتنامية الكبرى في السبعينات. ولعله الآن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ما كان سيصدق بالحماس والوثوق نفسه أن فيتنام حققت هذا التحديث؛ إذ فيتنام فيما أظن وعلى رغم كفاحها المجيد من أجل طرد الاستعمار الخارجي والوحدة القومية لم تزل في صفوف دول العالم الثالث والعلاقة في طريقة التفكير ويدون أي تأثير متبادل بين الحافظ وبن نبي تستحق التأمل والدراسة، وهي تدلنا على أن الأيديولوجية عندنا على اختلافها الظاهري تتبع طرقًا متشابهة في التفكير تمليها عليها وحدة المشاكل الواقعية المطروقة والخيارات المحدودة العدد للخروج من هذه المشاكل (من نوع تغيير سلطة أم تغيير مجتمع؟ جواب واحد للمشاكل المطروحة أم أجوبة متعددة؟ حل تحتي أم حل فوقي؟.. وتأمل!).

في القاهرة عقد قضاة مصر أول مؤتمر في تاريخهم، نظمه نادي القضاة، تحت عنوان “مؤتمر العدالة”.

وقد تشعب عمل المؤتَمرِين إلى شعب خمس، انتظمت كل واحدة منها في لجنة من لجان المؤتمر، لتناقش شأنًا مهمًا من شؤون العدالة، أو تتداول في بعض شجونها.

وكان أكبر مثير للانتباه ذلك الذي شغلت به للجنة سُميت بلجنة التشريع، وعقد لها اختصاص مناقشة سبل معالجة التضخم التشريعي، وقد أشار رئيس الجمهورية في خطابه الذي افتتح به المؤتمر إلى أن مصر قد صدر فيها ستة آلاف قانونًا منذ يوليه سنة 1952 حتى الآن، وهو رقم -في نظر المختصين- يقل كثيرًا عن الرقم الحقيقي لعدد التشريعات. ولكن هذه اللجنة شغلت بأمر آخر، غير تضخم التشريعات وزيادة عددها بلا توقف، شغلت بأمر نوع التشريعات المطبقة في مصر، ومصدرها وأساسها.

فكان المحور الرئيسي لعمل هذه اللجنة هو: تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر. ولم يبد أحد من المتحدثين من رجال القانون أو القضاة أو المحامين إلا تأييدًا مطلقًا لتطبيق الشريعة، وإعمال أحكامها واتخاذها –كما كانت- أساسًا للنظام القضائي والقانوني المصري.

وتوالت الحجج في هذا الخصوص: فنص المادة الثانية من الدستور المصري يوجب ذلك، وتطبيق أحكام الشريعة فرع لصحة الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، واستقلالنا السياسي لم يكتمل حتى اليوم.

إذ لا يكتمل لأمة استقلالها السياسي وهي مستعمرة تشريعية بكل ما في الكلمة من معان، بل إن مصر على وجه الخصوص مستعمرة تشريعية لمستعمرين متعددين لا لمستعمر واحد، وفي هذا من العنت والعسف بالناس ما فيه، وفيه من الإرهاق والإزعاج للقضاة والمحامين، الملزمين بتتبع مأخذ كل تشريع والبحث عن تفسيره المستقر في (بلد المصدر) حتى يتسق معه تفسيره في مصر، ما لا يعرفه إلا الساهرون الليالي بحثًا عن أصل الكلمة الفرنسية أو الانجليزية أو الايطالية التي ترجمت في قانوننا إلى العربية، وعن كيفية إعمالها قضائيًا في لغتها الأصلية، ومدى مناسبة ذلك لسياق قانوننا، أو اختلافه معه.

والقانون الأوروبي الذي يطبق في مصر فُرِضَ عليها فرضًا بعد الغزوة البريطانية الغادرة في سبتمبر 1882، إذ قدم ناظر الحقانية حسين فخري باشا إلى مجلس نظار الاحتلال الأول في 27 /12/1882 مذكرة يطلب فيها -وهو موقن بالإجابة- عدم عمل القوانين المطابقة للشريعة الغراء، نظرًا للحالة الجارية بين الأهالي. وهذه الحالة لم تكن إلا سعي القوات العسكرية البريطانية إلى تثبيت أركان وجودها الاستعماري في مختلف أنحاء القطر المصري، وفي كل جوانب الحياة فيه.

وما تخوفت منه بعض المحاكم المصرية من فراغ قانوني لا أساس له من الصحة، فنصوص الشريعة الإسلامية القطعية الورود والدلالة (وهي تمثل أسس النظام العام الإسلامي) تعمل من تلقاء نفسها في النظام القانوني ولا تحتاج إلى تدخل تشريعي جديد، وما عدا ذلك تكفَّلت بعلاجه طبيعة النظام القانوني في بعض جوانبه، ونصوص تشريعية كنص المادة الثانية من القانون المدني، ونص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية (وهو نص لم يلغ) في جوانب أخرى.

والقضاة غير غرباء عن الشريعة الإسلامية بمصادرها ومراجعها ومصطلحاتها، فكثير منهم -بل جلهم- جلسوا في محاكم الأحوال الشخصية وهي لا تقضي إلا بالشريعة الإسلامية، فألفوا تلك المصطلحات ومرنوا على التعامل مع المراجع والمصادر الإسلامية، وهم جميعًا قد درسوا في كليات الحقوق قدرًا لا بأس به من المناهج الشرعية التي تجعلهم، بجهد لا يزيد كثيرًا عن جهدهم في التوصل إلى حكم القانون الوضعي، قادرين على التوصل إلى حكم الشريعة في الأقضية التي يتناولها المتقاضون أمامهم، والزعم بأن الشريعة تخيف إخواننا الأقباط زعم باطل مبني على النظرية الاستعمارية: فرق تسد، فقد عشنا معهم وعاشوا معنا ثلاثة عشر قرنا أو تزيد نستظل جميعًا بظل الشريعة السمحة، وقد أعلن كثيرون من أهل الرأي منهم أن في الشريعة الإسلامية من الأحكام ما هو أكثر إنصافًا وأعظم عدلًا لهم من القوانين التي يضعها الناس على هواهم، أو يقلدون فيها غيرهم. وهم قطعًا سيكونون -کما هم الآن- في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية، في وضع قانوني أفضل ألف مرة من وضع المسلمين القانوني في المجتمعات غير الإسلامية، التي تحكمها -بالطبع- القوانين الوضعية.

والشريعة، أخيرًا، أحفظ نظام وأحفله بحماية حقوق الناس والحفاظ على مصالحهم، وإقامة الحكام مسؤولين عن تحقيقها والسعي الدؤوب إلى استقرارها في المجتمع وبين كل شرائحه وطوائفه، حتى قرر الإمام القرطبي أن من أصر على الجور أو ترك الشورى من الحكام فعزله واجب بلا خلاف!!

فأي ضمان للناس أكثر من هذا الضمان، وأي احترام لإرادتهم وحقوقهم أعظم من هذا الاحترام!

أما الحكام، فهم في ظل الشريعة، إن حكموا بالعدل، وأقاموا في الناس ما يقضي به الدين، وحرصوا، جهدهم كله، على تحقيق مصالح المحكومين، وأخذوا بالشورى، ونبذوا الاستبداد، ووالوا أولياء الأمة وعادوا اعداءها، أولى الناس بالطاعة لهم، بل إن مخالفتهم فيما يأمرون به وينهون عنه من المباحات، تعد عندئذ معصية يجتنبها المؤمن طاعة لله لا خوفًا من القانون، ولا فزعًا من الشرطة، ولا رهبة من قوانين الطواري الدائمة أو المؤقتة.

ذلك، كان مجمل حجج المؤيدين لتطبيق الشريعة، وهناك تفاصيل كثيرة، بعضها ذو أهمية تركتها في هذا المقام لأعود إليها في موضع أكثر مناسبة لها إن شاء الله.

ولم يغب عن عمل تلك اللجنة -لجنة التشريع- الرأي الآخر، المعارض علنًا وبقوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، أبداه بعض غير المشتغلين بالقانون من ضيوفها الذين حرصوا على المساهمة الفعالة في عملها.

وكان مجمل حججهم، أن النظم الإسلامية غير معروفة المعالم للكافة، فكيف نطالب بتطبيق شيء غامض؟

وأن الشريعة لم تكن مطبقة في مصر في العصر المملوكي والعصر العثماني، وأن الحاكم -الوالي- كان يجعل تطبيق أحكام القصاص والحدود إلى نفسه لا إلى القاضي، وأن هناك من يتخوفون من تطبيق الشريعة -بل يرتجفون- لأن المثل الموجود أمامهم هو مثل ذلك النفر من الشباب المتعجل، الذين يفصلون فيما يظنونه قضية، دون أن يسمعوا مرافعة ولا دفاعًا، وينفذون الحكم بأيديهم فلا يتيحون فرصة لاستئناف ولا نقض!!

ونالت تلك الحجج عناية كل المتحدثين، فبينوا أن النظم الإسلامية ذات أصول راسخة في القرآن والسنة، وأن ما لا يخالف نصًا قطعيًا فسبيله سبيل الاجتهاد المباح في الشرع، بل الواجب على القادرين عليه. وأن عدم العلم بهذه الأصول، وما بنى عليها من فروع ليس دليلًا على عدم وجودها حتى يطالب دعاة تطبيق الشريعة في كل موقف بتقديم الدليل عليها واثباتها!!

وقيل إن عيوب التطبيق تدل على انحراف في السلوك، لا في القواعد الحاكمة لهذا السلوك، وإن الانحراف أيًا كان سببه أو الدافع إليه لا يسوغ انحرافًا جديدًا، ولا يجعل الاستمرار في الانحراف أمرًا مشروعًا.

وأن الوالي حين كان يجعل التطبيق إليه في القصاص والحدود فإنما ذلك من شدة الاحتياط في أمر العقوبات الماسة بالحياة أو بالشرف والاعتبار، والفقهاء يحفلون غاية الاحتفال بما يمس الدماء والأعراض من العقوبات، ويوجبون الاحتياط في توقيعها، فجعل الوالي ذلك تحت اشرافه المباشر تنفيذًا، لا قضاء، إذ بقى القضاء دائمًا مستقلًا عن الوالي غير خاضع له. تلك هي القراءة الصحيحة للتاريخ، وما عداها -إن وجد- فهو شذوذ يعيب أصحابه ولا يعيب الإسلام ذاته.

وقيل أخيرًا إن ردود الفعل لا عبرة بها، وتصرفات الآحاد لا تلقي بالذنب أو اللوم على الكثرة المخالفة لها، ولا على الفكر الذي ينتسب إليه أصحابها. إنما يلام فهمهم، ويدان سلوكهم الخاطئ، ولا يجوز لعاقل أن يتصور تحول الدولة بنظمها ومؤسساتها إلى مجموعة من المتهورين المتعجلين. وهؤلاء لم يوجدوا إلا نتيجة القهر السياسي، والظلم الاجتماعي، والفساد في التركيبة الاقتصادية، وطغيان أقلية ظالمة على الأغلبية الصامتة المسحوقة، وحين تزول هذه الأسباب، ويسود العدل، وتبسط المساواة رداءها على الناس، فلن نجد لهؤلاء أثرًا، ولن نسمع لهم صوتًا.

وكان من طريف الحجج، وقويها في الوقت نفسه تلك الحجة القائلة: إن كل الأمم تحكم بقوانين تختارها ووفق نظم تقرها، وتتفق مع معتقداتها أو لا تتناقض معها. فما بال أمتنا المصرية والإسلامية بوجه عام يحال بينها وبين هذا الحق الطبيعي للأمم كافة؟ وهي قد أبدت رغبتها في استفتاءين شعبيين، وألحت عليها من خلال ممثليها في مجلس الشعب، واستمسكت بها في كل المناسبات والظروف، أم ترانا سنصنع صنع الذين لا يذكرون الله، فإذا مسهم الضر، ضل من يدعون إلا اياه، فإذا نجاهم إذا هم معرضون؟

لذلك انتهت أعمال المؤتمر وفي الصدارة من توصياته التوصيات الخاصة بإقامة النظام القانوني والقضائي المصري على أساس من الشريعة الإسلامية.

وبقي أن يستجيب لذلك صناع القرار التشريعي والسياسي، رفعًا للحرج عن القضاة واستجابة لحق الأمة في أن تحكم بما تريد، وقبل ذلك طاعة للرب، واستجلابًا لرحمته وهو القائل، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)﴾.


مقال مستل من كتاب: الأزمة السياسية والدستورية في مصر 1987-1990، للدكتور: محمد سليم العوا.

بعدما اتفق شيوخ القبائل في “سوات” على تطبيق الشريعة الإسلامية في مقاطعتهم، فإن أول ما فعلوه أنهم شرعوا في إقامة المحاكم الردع المذنبين وتأديب المتفلتين، و”سوات” هذه مقاطعة في شمال غرب باكستان في المنطقة الحدودية الموازية لأفغانستان، وسكانها من “البشتون” الذين خرجت طالبان الأفغانية من صفوفهم، وهذه الخطوة ليست شاذة في مجتمعات مسلمى أطراف العالم الإسلامي، الذين يعتبرون تطبيق الحدود هو الخطوة الأولى اللازمة لتطبيق الشريعة، وهو ما حدث في نيجيريا والصومال “حركة المحاكم الإسلامية”.

ومن المفارقات أن هذا الذي اعتبروه مدخلًا لتطبيق الشريعة، هو من الناحية الزمنية من آخر مانزل من تعاليم الإسلام، من تلك المفارقات أيضًا أن تلك الدعوات انطلقت في مجتمعات بائسة عانت من الدمار والفقر والتخلف، لكن الذين أطلقوها أداروا ظهورهم لكل عناصر ذلك الواقع المؤلم، ولم ينشغلوا إلا بالتعامل مع المنحرفين في المجتمع، وهو ما يدعونا إلى تأمل المفارقة الثالثة التي تتمثل في تجاهل أشواق الأسوياء الذين يشكلون الأغلبية الساحقة، وتوجيه الاهتمام صوب المنحرفين ومن لف لفهم، من ثم فإن مسلكهم جاء معبرًا عن فهم منقوص للدين ولسنن الإصلاح، وفهم معدوم للدنيا ولفقه عمارة الأرض.

 كون ذلك حاصلًا في مجتمعات الأطراف يفسر لنا لماذا تعاني من الفقر الشديد في المعارف الإسلامية، الأمر الذي تحتل في ظله الأولويات والموازين بحيث تغيب المقاصد عن الإدراك العام، وتحتل بعض الوسائل صدارة الاهتمام، وهو ما يحول الرسالة السماوية في نهاية المطاف إلى قانون للعقوبات، وليس سبيلًا إلى هداية الناس واستقامتهم، ودعوة إلى عمارة الأرض، وإشاعة الخير والنماء في المجتمع.

هؤلاء الذين يريدون اختزال الإسلام في الحدود يهينونه من حيث إنهم يبتذلونه ويقزمونه. كما أنهم يلطخون وجه الحضارة الإسلامية التي أنجزت ما أنجزته، لا لأنها لاحظت العصاة والمنحرفين، ولكن لأنها فجرت طاقات النهوض والإبداع لدى النابهين من أبناء الأمة، فتنافسوا في العطاء ووظفوا إيمانهم لصالح التقدم والبناء.

 في زياراتي لباكستان وأفغانستان صادقت نماذج من هؤلاء، وحين كنت أحدثهم عن أن من يريد أن يطبق الشريعة حقًا يجب أن يدخل إليها من باب تعزيز الحرية والديمقراطية، ولا ينبغي أن يفتح باب الحديث عن الحدود قبل توفير الكفايات للناس حتى يتسنى لهم الحلال الذي يغنيهم عن اللجوء إلى الحرام. وقد علت الدهشة وجوههم، حين قلت إن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف حد السرقة في عام المجاعة، لأن الناس يجب أن يشيعوا ويعيشوا مستورين حتى لا يمد أحدهم يده ليسرق شيئًا من مال غيره، وكانت خلاصة ما خرجت به أن هؤلاء مسلمون مخلصون لكنهم لا يعرفون من أمر دينهم إلا النزر اليسير وهو ما حاولت لفت الانتباه إليه في كتابي عن جماعة طالبان، الذين وصفتهم بأنهم “جند الله في المعركة الغلط”.

هذه العقلية تجلت في سلوك “الخوارج” الذين كانوا أشد فرق المسلمين تدينًا وأكثرهم اندفاعًا وتهورًا. فهم الذين رفعوا شعار “لا حكم إلا لله” وكفروا عليا بن أبي طالب لأنه قبل التحكيم بينه وبين معاوية، حتى لم يترددوا في قتل من لم يؤيدهم في تكفيره، وهؤلاء لم يختلفوا كثيرا عن “اليعقوبيين” في الثورة الفرنسية، الذين باسم الحرية والإخاء والمساواة ارتكبوا الفظائع، فقتلوا المئات، وأسالوا الدماء غزيرة في البلاد.  لقد ندد الشيخ محمد الغزالي في كتاباته كثيرا بالمسلم “الغبي” الذي اعتبره كارثة بكل المعايير ولا أعرف ما الذي كان يمكن أن يقوله إذا ما قرأ خبر الذي جرى في “سوات” لكننى واثق من أنه لن يصنفه بعيدًا عن ذلك “الغبي” الذي استفزه وأثار غضبه ولم يتوقف عن مطاردته في كتبه خلال السنوات الأخيرة في عمره.

____________________________

المصدر: فهمي هويدي، بوابة الإسلام العقابي، جريد الشرق القطرية، 23 مارس 2009، https://2u.pw/w248NHi.

في هذه المقالة يناقش جوزيف لمبارد الأسس المعرفية للبحث الغربي حول الإسلام والقرآن، فيحاول كشف سيطرة البعد الكولونيالي على هذا البحث في أعمق مساحاته، ويعتبر لمبارد أن سيطرة هذا البعد والممكن تسميته «الاستعمار المعرفي» بما يستتبعه من تقسيم خرائطي للمعارف هو الذي يقضي بالتشكيك الدائم في صلاحية المصادر الإسلامية والمناهج المعرفية السائدة في هذا التراث، حيث يتم تقسيم المعارف إلى معارف مقبولة ومعارف غير مقبولة، ويتم وضع المعارف والمناهج الإسلامية خلف خط المعارف المقبولة كنتاج لا يصلح إلا للمعرفة الأدبية ولا يرقى لتكوين معرفة علميّة موثوقة.

وتأتي أهمية ترجمة هذه المقالة للمبارد ضمن ملف الاتجاه التنقيحي من كونها تكشف الأساس المعرفي الأعمق وراء هذه التشكيكات الجذرية في المصادر الإسلامية التي ينادي بها هذا الاتجاه، فضلًا عن قدرتها على كشف اتساع هذا التشكيك؛ حيث يشمل المناهج والأدوات وليس فقط المعارف، وقدرتها كذلك على كشف تجذّر هذا التشكيك أيضًا في أعمق مساحات البناء المعرفي الغربي.

بالإضافة لهذا تأتي أهمية هذه المقالة من كونها -عبر تفكيكها الأساس الثاوي في البناء المعرفي الغربي والقاضي بالتحيّز ضد المعارف والمناهج الإسلامية- تعدّ محاولة لإعادة الاعتبار لهذه المناهج، وهذا من شأنه أن يطور البحث الغربي للقرآن عبر الاستفادة منها.

رابط مباشر لتحميل المقالة

ورقة بحثية قُدمت إلى ندوة “الصكوك الإسلامية: عرض وتقويم” التي عُقدت في جامعة الملك عبد العزيز في جدة خلال الفترة 10-12/6/1431هـ الموافق 24-26/5/2010م بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، وجاء في مقدمة هذه الورقة ما يلي:

تتناول هذه الورقة أهم القضايا الفقهية والاقتصادية التي أثيرت حول الصكوك. فمن الناحية الشرعية، تتفق الورقة مع التكييفات والآراء الفقهية الاجتهادية السائدة في قضية الصكوك، وتختلف عنها بعض الأمور، أهمها تفضيل معيار الغلبة في تداول الصكوك التي تحتوي موجوداتها على ديون أو نقود تجنبًا لوقوع ربا النسيئة، وعدم الموافقة على الإطلاق على تضمين موجودات الصكوك أي ديون ربوية.

وبينما تقبل الورقة القول بجواز تداول صكوك السلم، إلا أنها تحذر من استخدام ذلك التسويغ لتركيب عقود تسمح بوقوع المتاجرات (المضاربات) التي تودي باستقرار الأسواق. وكذلك تقبل الورقة جواز تضمين مدير الصكوك على أساس دارسة الجدوى التي يقدمها، ولكن ببعض الشروط، أهمها: أن ينص العقد بين الطرفين على تحديد مسببات الخسارة التي لا يكون بوقوعها مدير الاستثمار مسؤولاً عن رأس المال؛ وأن يُحتكم إلى محكم خارجي مستقل يتمتع بالخبرة الشرعية والتجارية لتقرير مسؤولية مدير الاستثمار من عدمها؛ وأن يقتصر التضمين إن وقع بشروطه على رأس المال، ولا يتجاوز بذلك إلى الربح. وأن يضمن مدير الصكوك في حال التضمين بشروطه القيمة السوقية لموجودات الصكوك عند وقوع مسبباته، لا أن يضمن رأس المال كاملاً عبر ضمانه للقيمة الاسمية للصكوك. وتحذر الورقة من أن ينطوي التعهد بشراء موجودات الصكوك ببقية أقساط الإجارة المتبقية في صكوك الإجارة المنتهية بالتمليك، على تحقق الضمان الممنوع. كما تحذر بأن تعهد المستأجر في صكوك الإجارة التشغيلية بشراء الأصول عند الإطفاء بقيمتها الاسمية يمكن أن ينطوي على بيع الاستغلال وبيع العينة المنهي عنهما.

وتجيز الورقة التزام مدير الصكوك بتقديم قرض عند نقصان الربح الفعلي عن المتوقع في مقابل تنازل حملة الصكوك عن الربح الزائد عن المتوقع إذا كانت الصكوك صكوك استثمار يقوم على الربح والخسارة، ولا يكتنفها شيء من الضمانات، وتمثل ملكية حقيقية لا شكلية لموجودات الصكوك. وتؤكد الورقة على أن بيع الصكوك بأقل من قيمتها الاسمية لبعض حملة الصكوك، يتنافي مع مبدأ الاشتراك في الربح والخسارة بين حملة الصكوك، ولعدم قيام ما يسوّغ تفاوت حملة الصكوك في نسب الربح في بعض الحالات.

وتقول الورقة بجواز توزيع مدير الصكوك لجوائز على بعض حملة الصكوك إذا كانت قيمة أو مبالغ هذه الجوائز غير مرتفعة وكان ثمنها يدفعه مدير الصكوك من ماله الخاص، وبشرط ألا تزيد حصة الربح المشروطة لمدير الصكوك عن المعتاد، بما يجعلها تعويضًا له عن قيمة هذه الجوائز. وتقول كذلك بجواز اقتطاع نسبة معينة من أرباح الصكوك لتشكيل احتياطي يغطي خسائر مستقبلية محتملة، مع تمكين حامل الصكوك من استرداد ما اقتطع من ربحه عند انسحابه من العملية الاستثمارية.

وتجيز الورقة أن يعمد بائع الأصول إلى استئجار الأصول بعد بيعها إجارة منتهية بالتمليك، مع تحقق شرطين الأول: أن عقد البيع الأول الذي بيعت فيه الموجودات المؤجرة عقد بيع حقيقي بين بائع الموجودات وحملة الصكوك أو من يمثلهم. الثاني: أن حملة الصكوك يتحملون حقيقة تبعات الموجودات المؤجرة طيلة فترة عقد الإجارة، من حيث ضمان خطر الأصل المؤجر، وتحمل نفقات الصيانة الأساسية التي يتحملها المؤجرون عادة ونفقات التأمين والضرائب والغرامات وكل ما يتحمله الملاك عادة.

ومن الناحية الاقتصادية غالبًا ما تبنى العلاقة بين حملة الصكوك والهيئة الخاصة على أساس عقد المضاربة، بحيث لا يتدخل حملة الصكوك في تفاصيل أعمال الهيئة، وإنما عليهم أن ينتظروا النتائج، ونظرًا لأن الهيئة الخاصة ينشئها ويملكها في الغالب المالك الأصلي للموجودات المصككة، فمن المتوقع أن تحدد مهام الهيئة وصلاحياتها عند إنشائها بما يتفق مع مصالحه التي قد تتعارض مع مصالح حملة الصكوك، ولحماية حملة الصكوك من تضارب المصالح، يكون الأفضل أن تبنى العلاقة بين حملة الصكوك والهيئة الخاصة على أساس المشاركة.

وللتأكد من توافق أعمالها مع الشريعة لا بد من وجود هيئة شرعية تشرف عليها. فإذا تعددت العمليات التي تقوم بها الهيئة الخاصة وتنوعت فلا مناص من أن يؤسس جهاز للتدقيق الشرعي يعمل تحت إشراف الهيئة الشرعية.

وتتلخص أهداف السلطات الرقابية فيما يتعلق بالصكوك في: أولاً، الحرص على خاصية التوافق مع الشريعة، لأنه إذا لم تتوافر الشروط الشرعية في الصكوك، فإنها تهدد بسوء السمعة وفقدان الثقة التي قد تتطرق إلى النظام النقدي والمالي بأسره. وثانيًا الحرص على أن حملة الصكوك يمتلكون حصصًا على المشاع في موجودات حقيقة، لأن هذا شرط للتوافق مع الشريعة ولضمان حقوق حملة الصكوك.

وثالثًا، الحرص في كل الأحول على خلو استخدام حصيلة الصكوك من مخاطر النزوع السيئ، بمعنى أن بائع الصكوك سوف يستخدم الحصيلة فيما خصصت له، وهذا يضمن قدرته على خدمة موجودات الصكوك من حيث الصيانة والحفاظ على منافعها، وكذلك دفع أقساط الإيجار وغيرها من مستحقات حملة الصكوك.

ورابعًا، الحرص على أن كافة الاحتياطات قد اتخذت لكي لا يكون لدى حملة الصكوك حاجة إلى التصرف في موجوداتها بتأجيرها إلى جهة أخرى أو ببيعها. لأن حدوث ذلك، سوف ينزع من الصكوك عنصر الاستقرار، ويهدد السوق المالية كلها بالانهيار.

ومن غير الممكن القيام بالرقابة والإشراف على إصدار وتملك وتداول الصكوك بدون توفر بنية أساسية مناسبة تتضمن من ناحية سهولة إصدار صكوك متوافقة مع الشريعة، ومن ناحية أخرى تحقق قدرة السلطات الرقابية على التعامل مع ما قد يتصل بها من انحرافات وقائيًا وعلاجيًا.

وأول عناصر تلك البنية الاعتراف بعقود التمويل الإسلامي في القانون المدني، حتى لا تتعامل المحاكم مع تلك العقود كعقود ربوية، ولكي تقر بملكية حملة الصكوك للموجودات، وثانيها أن يصدر قانون للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية حتى تتمكن السلطات الرقابية من فحص وتدقيق المنتجات المالية بناء على مرجعية إسلامية وليس مرجعية ربوية لا تقبل اختلافات جوهرية بين المنتجات المالية الإسلامية والمنتجات التقليدية، ولا تستحل السلطات الرقابية لنفسها إصدار أوامر وتوجيهات عامة إلى البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية لا تتفق مع شروط ترخيصها بصفتها بنوك تعمل بالتوافق مع الشريعة.

وثالثًا، وضع ضوابط لحوكمة الهيئات الشرعية العاملة لدى البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، تمنع المدعين من الانتساب إليها، ولكي يتوقف سيل المنتجات المالية سيئة السمعة التي ترتكز على الصحة الشكلية دون صحة الغرض دون الانتباه إلى المآلات التي تترتب على تلك المنتجات، وحتى تقتصر عضوية تلك الهيئات على عدد فردي من علماء الشريعة الحاصلين على الدكتوراه في الشريعة من جامعات مرموقة، يساعدهم مستشار حاصل على الدكتوراه في اقتصاديات النقد والمال. كما يجب أن تدخل هيئات التصنيف مؤهلات أعضاء الهيئات الشرعية المشرفة على إصدار الصكوك في تصنيفها.

ورابعًا، لا بد من حوكمة الهيئة ذات الغرض الخاص التي تقوم بشراء الموجودات، وإصدار وتوزيع الصكوك، والتي تمثل في النهاية مصالح حملة الصكوك، بحيث يتملك حملة الصكوك حصصًا على المشاع فيها بنسبة ما يحمله كل منهم من الصكوك، ومن الممكن أن ينضم إليهم منشئ الموجودات كشريك بقيمة ما يحمله من الصكوك.

وفي النهاية تقدم الورقة مقترحين بشأن تفعيل دور الصكوك في مجال السياسات الاقتصادية والتنموية. الأول هو قيام البنك المركزي بإصدار صكوك إقراض مركزية، تستثمر حصيلتها من خلال وضعها كودائع ادخارية واستثمارية لدى البنوك الإسلامية، ويمكن أن يحقق تداولها تكوين سوق نقدية بين البنوك الإسلامية. كما يمكن أن تستخدمها السلطات النقدية كأداة للتحكم في معدل التوسع النقدي، والثاني أن تقوم المؤسسات العامة بإصدار صكوك تستخدم حصيلتها في توسيع نشاطها وتمويل رأسمالها العامل، بجانب تمويل المشروعات الكبرى، وبخاصة مشروعات البنى التحتية.

رابط مباشر لتحميل البحث

أ- سيادة الدستور وضرورة حراسته:

1- منذ ظهرت الجماعات السياسية المنظمة، وانقسم الناس فيها إلى حكام ومحكومين، برزت مشكلة أساسية، صارت ولا تزال محور أبحاث القانون العام وعلمي السياسة والاجتماع، وهي مشكلة العلاقة بين الفرد والدولة، أو بين الحكام والمحكومين .. وقد أسفر التطور الطويل لهذه العلاقة عن ظهور مبدأ قانوني أساسي يهدف إلى حماية الأفراد في مواجهة السلطة العامة، ويكفل تحول السلطات التي تملكها الدولة، ويباشرها “الحكام” من مجرد قوى أو قدرات مادية، إلى اختصاصات تحددها وتضبط اتجاهها مقدما مجموعة من القواعد القانونية العامة.. وهذا المبدأ هو ما يعرف بمبدأ الشرعية Principe de legalie، أو مبدأ سلطان القانون وسيادته The Rule of Law، ومؤداه أن يخضع الحكام جميعًا للقانون، بحيث لا تكون أعمالهم ولا قراراتهم صحيحة قانونًا وملزمة للمخاطبين بها إلا بقدر التزامها لحدود الإطار القانوني الذي تعيش الجماعة في ظله.

 2- وقد دلت تجارب الشعوب على امتداد التاريخ على أن مبدأ الشرعية هذا يظل عديم القيمة من الناحية العملية، ما لم يقترن بجزاء فعال ومنظم يكفل امتثال السلطات العامة لمضمونه وتقيدها بحدوده.. وهو المعنى الجليل الذي استند إليه الصحابي العبقري (عمر بن الخطاب) حين كتب إلى قاضيه قائلًا: “واعلم أنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له”.. وقد استقرت أكثر النظم القانونية على أن الضمان الحقيقي الفعال لمبدأ الشرعية، من بين ضمانات أخرى ذات طابع سياسي، يتمثل في التسليم لسلطة خاصة مستقلة عن السلطة السياسية في الدولة بمهمة التحقق من احترام السلطات العاملة في الدولة لمبدأ الشرعية بعناصره المختلفة، وعلى رأسها احترام النصوص الدستورية التي تمثل قمة الهرم الذي تتكون منه القواعد القانونية في الدولة. وهكذا ظهر مبدأ الرقابة القضائية على تصرفات الحكام وقراراتهم، سواء كانت تلك القرارات صادرة من السلطة التشريعية أو من السلطة التنفيذية.

وفى بيان أهمية الرقابة القضائية على أعمال السلطات العامة قررت محكمة القضاء الإداري في مصر أن تلك الرقابة “هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة، وبها يبقى النظام في حدوده الدستورية المشروعة، وكل نظام أرسى الدستور أساسه ووضع القانون قواعده هو نظام يخضع –مهما يكن نظاما استثنائيا- لمبدأ سيادة القانون، ومن ثم لرقابة القضاء.

ب- الطبيعة الخاصة للقضاء الدستوري “من مجلس الدولة إلى المحكمة الدستورية العليا”:

3- وحين أخذت مصر عام 1946 بنظام القضاء الإداري بصدور القانون 146 لسنة 1946 بإنشاء مجلس الدولة.. كانت أمام الفقه والقضاء في مصر تجربة مكتملة النمو في ممارسة الرقابة القضائية على أعمال الإدارة.. وهي التجربة الفرنسية التي تحددت خلال مراحلها المختلفة طبيعة الرقابة القضائية على قرارات الإدارة وأعمالها المادية.. وظهر تميز قواعد القانون الإداري عن قواعد القانون المدني الذي يحكم علاقات الأفراد، وذلك في مجالات ثلاثة أساسية أولها: مجال العقود، والثاني: مجال المسئولية التقصيرية، والثالث: مجال القرارات الإدارية.. وكان واضحا منذ اليوم الأول لنشأة القضاء الإداري في مصر أنه ليس كالقضاء المدني، قضاء تطبيقيًا تحكمه قاعدة سلطان الإرادة في العقود، والمساواة بين أطراف العلاقة في ميدان المسئولية عن الفعل الضار “المسئولية التقصيرية”، وإنما تتسع وظيفته في هذين المجالين وفى غيرهما، بحيث لا تقف عند حرفية النصوص، تشريعية كانت، أو عقدية تنشئها إرادات الأفراد المتساوية.. وإنما هي وظيفة تنطوي على دور “إنشائي” يقوم به القاضي، وهو يحدد نقطة التوازن بين مصالح الدولة وهيئاتها من ناحية، ومصالح الأفراد من ناحية أخرى .. وهو توازن يحكمه اعتباران أساسيان:

أولهما، ملاحظة أن المصالح التي تتنازع وتتصارع أمام القضاء الإداري ليست متكافئة من حيث الأهمية، فبينما يعبر الفرد الذي يختصم الإدارة عن مصلحة خاصة فردية، فإن الإدارة التي يختصمها تسعى -بحسب الأصل- إلى رعاية مصلحة عامة جديرة بالاعتبار لتعلقها بمجموعة المواطنين، أو فريق كبير منهم.

ومن ناحية أخرى فإن ما تملكه الإدارة من حقوق السلطة العامة وامتيازاتها ومن سلطة التنفيذ المباشر على الأفراد عن طريق استخدام القوة في كثير من الحالات .. يتجاوز كثيرًا حدود ما يملكه الفرد الذي يخاصمها..

ومن ثم كانت مراعاة هذين الأمرين فرضًا على القاضي الإداري، وكان ما يتوصل إليه من حلول، وما يصدره في المنازعات الإدارية من أحكام: معبرًا بالضرورة عن السعي للتوفيق بين هذه الاعتبارات المتعارضة، وتحديد نقطة التوازن بينها.. ولا يحتاج القارئ -بعد مضى أكثر من نصف قرن على نشأة القضاء الإداري- أن نردد أمامه ما قررته عشرات الأحكام من هذه الطبيعة الخاصة التي تميز القضاء الإداري. وإلى أحكام أخرى غير قليلة أوشكت فيها المحكمة أن تعبر الخط الفاصل بين “رقابة المشروعية” التي تملكها بغير منازع والرقابة على سلطة التقدير التي تملكها –بحسب الأصل– جهات الإدارة، وذلك حين بسطت رقابتها على عنصر “التناسب” بين المقدمات التي استندت إليها الإدارة لإصدار قرارها، وبين حدود النتائج التي رتبتها على تلك المقدمات.. مقررة في بعض أحكامها أن القرار يكون جديرًا بالإلغاء إذا شابه خطأ صارخ في التقدير لـ manifeste Dappreciaion Erreur كما في حالة عدم التناسب الصارخ بين المخالفة الوظيفية المنسوبة لأحد العاملين بالدولة وبين الجزاء الذي وقعته جهة الإدارة بسبب تلك المخالفة.. وقد درجت محاكم مجلس الدولة على إطلاق وصف “الغلو” على حالات هذا الخطأ الصارخ في التقدير.

4- وحين اتجهت مصر إلى تنظيم الرقابة على دستورية القوانين بإنشاء المحكمة العليا عام 1969، ثم بالنص على إنشاء محكمة دستورية متخصصة في المادة 174 من دستور مصر الصادر عام 1971، وهو النص الذي وضع موضع التطبيق بإنشاء المحكمة الدستورية العليا بالقانون رقم 48 لسنة 1979، فقد كان التصور السائد أن مهمة هذه المحكمة لا تنطوي على أكثر من المقابلة بين نصوص التشريع المطعون بعدم دستوريته، وبين نصوص الدستور. بحثًا عن المخالفة الدستورية التي ينسبها إليه الطاعن فيها.. وتصور كثيرون أن هذه الرقابة سوف تظل تمارس في أضيق الحدود نزولًا عند عدد من الاعتبارات القانونية والسياسية.. على رأسها اعتباران:

 أولهما: أن الهيئة التشريعية هيئة منتخبة من جماهير الناس، وأنها –لذلك– معبرة عن إرادة الناخبين، وممثلة لتوجهاتهم السياسية والاجتماعية.. وأنها لذلك ينبغي أن تظل صاحبة القول الفصل في ملاءمة ما تصدره من تشريعات.. وأن المحكمة الدستورية -لذلك كله- سوف تحجم عن التدخل في تقدير تلك الملاءمة.. حتى لا تتجاوز حدود وظيفتها القضائية.

الآخر: أن مبدأ الفصل بين السلطات، والذي بمقتضاه عهد الدستور إلى المجالس النيابية المنتخبة وحدها بوظيفة التشريع، لابد أن يحول دون إقحام المحكمة الدستورية العليا نفسها في تلك الوظيفة التشريعية، وهذه المحكمة في مصر -على ما هو مقرر ومعروف- هيئة قضائية خالصة في تشكيلها وإجراءاتها والاختصاصات الممنوحة لها. ولعله في إطار هذين المبدئين، والتزاما بهما قرر الفقه والقضاء وجود ما يسمى “قرينة الدستورية” أي أن الصحة هي الأصل في التشريعات الصادرة من المجلس التشريعي، وأن مقتضى هذه القرينة أن يقع على الطاعن عبء إثبات المخالفة.. ومقتضاها كذلك ألا تقضى المحكمة بعدم دستورية نص تشريعي إذا إلا جرى التيقن من هذه المخالفة، فلا تكفي “شبهة” المخالفة للقضاء بعدم دستورية التشريع. وربما ساعد على انتشار هذا التصور غير الدقيق لمهمة المحكمة الدستورية العليا ما اشترطه قانونها في المادة 30 منه من ضرورة أن يحدد الطاعن في صحيفة طعنه النصوص التشريعية المطعون بعدم دستوريتها وأوجه تلك المخالفة والنصوص الدستورية التي يدعى مخالفة التشريع لها وأوجه تلك المخالفة.

ومع ذلك فقد استوقفنا كثيرا ما ورد في تقرير اللجنة التشريعية بمجلس الشعب عند مناقشتها مشروع القانون رقم 48 لسنة 1979 الخاص بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا، جوابا عن الاعتراض على نظام الرقابة القضائية اللاحقة لدستورية القوانين بأن الهيئة المختصة بالرقابة على دستورية القوانين قد تعتدى على المشرع وتتدخل في أعماله على خلاف ما يقضى به مبدأ الفصل بين السلطات، جوابا عن هذا الاعتراض يقول التقرير: “إن الرقابة على دستورية القوانين وما قد تصل إليه الهيئة المنوط بها الرقابة من إلغاء التشريعات غير الدستورية يمكن اعتباره نوعا من التوزيع الدستوري للوظيفة التشريعية بين البرلمان والهيئة المنوط بها الفصل في دستورية القوانين”.

وهذا القول يتجاوز كل ما قاله المنادون بتوسيع نطاق الرقابة القضائية على القوانين، داخل المحكمة الدستورية العليا في مصر، وخارجها، وهو –في تقديرنا- قائم على تفسير للوظيفة التشريعية، لا نوافق عليه، ذلك أن مجرد القضاء بعدم دستورية نص تشريعي لا ينطوي –بذاته- على اشتراك في الوظيفة التشريعية مع المجلس التشريعي الذي أناط به الدستور وظيفة التشريع، فالمحكمة حين تقضى بعدم دستورية نص تشريعي، فهي –في الحقيقة– تحدد للمجلس التشريعي ما لا يملكه وهو يمارس وظيفته، ولكنها تتوقف -بعد ذلك– عن تحديد كيفية ممارسة ذلك المجلس التشريعي لما يملكه من أمر التشريع. ودورها في ذلك لا يعدو أن يكون إعمالًا صحيحًا لمبدأ الفصل بين السلطات وما يتممه من مبدأ التوازن وتبادل المراقبة Checks and Balances بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وحين يستقيم فهم وظيفة المحكمة الدستورية على هذا النحو فإن كثيرًا من النقد الذي يوجه إليها وإلى بعض أحكامها يغدو نابعًا من فهم غير صحيح لوظيفتها، وفهم آخر غير صحيح لمبدأ الفصل بين السلطات.

طبيعة القضاء الدستوري وحدود سلطة المحكمة:

في السابقة المشهورة التي قررت المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية فيها أن تتصدى للرقابة على دستورية القوانين في غيبة نص دستوري يمنحها هذا الاختصاص، صورت المحكمة دور القضاء في الرقابة تصويرًا شديد التبسيط، وإن بدا مقنعًا ومنطقيًا، فقررت على لسان رئيسها مارشال الذي ارتبط اسمه باسم الرقابة على دستورية القوانين “إن القضاء حتى يفصل في خصومة موضوعية قائمة أمامه لابد أولًا أن يحدد القانون الذي يطبق عليها. فإن حدث وتناول المشكلة القانونية المعروضة نصان متعارضان أحدهما دستوري والآخر عادى فإن على القضاء أن يختار بينهما، ولما كان الدستور هو القانون الأساسي الذي يشغل الدرجة العليا من البناء القانوني فلا شك أن على القضاء أن يطبقه في الخصومة ضاربًا صفحًا عن كل نص تشريعي مخالف..”.

 وهذا الذي يقوله مارشال، والذي ذهب إلى مثله، أقرب إلى الواقع وأكثر اتفاقًا من المنطق القانوني من القول بأن المشرع الدستوري قد اتجه إلى توزيع الوظيفة التشريعية بين المجلس النيابي والقضاء الدستوري، وهو التفسير الذي أورده تقرير اللجنة التشريعية بمجلس الشعب وبغض النظر عن أن المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية كانت بصدد تقرير حقها في الرقابة على دستورية القوانين عن طرق الامتناع عن تطبيق النص التشريعي المخالف للقانون.. فإن جوهر ما نهدف إليه من الإشارة إلى تلك السابقة القضائية هو عرضه هذا التصوير “الشكلي” لمهمة القضاء، وهو يراقب دستورية النص التشريعي. ولما كان من المقرر في الفقه، وفى ضوء الدراسة المستفيضة للعمل القضائي، أن “العبرة في الحكم على مسلك المحكمة، أي محكمة، إنما هي بما يفعله القاضي فعلًا. وليس بما يقول إنه يفعله”..

ويدل استقراء مئات الأحكام القضائية المتصلة بدستورية القوانين، في مصر، وفى فرنسا وفى الولايات المتحدة.. دلالة واضحة على أن القاضي يمارس سلطة تقديرية واسعة حين يستخدم حقه المقرر في الرقابة على دستورية القوانين، ويرجع اتساع هذه السلطة التقديرية إلى أن نصوص الدساتير نصوص لها طبيعة خاصة تميزها عن سائر النصوص القانونية، إذ يقع بعضها على الحدود الفاصلة بين عالم السياسة وعالم القانون.. فالنصوص الدستورية التي تعالج أمر سلطات الحكم ورسم الحدود الفاصلة بينها تحمل بسبب عمومها تفسيرات متعددة، ومثلها في ذلك النصوص التي ترسم الحدود بين سلطات الدولة المختلفة وحقوق الأفراد والجماعات. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النصوص الدستورية العديدة التي تحدد للمشرع ولسائر سلطات الحكم في الدولة، تشتمل على توجهات موضوعية عامة في العديد من الشئون السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأن ذلك التحديد يتم عادة من خلال نصوص عامة… ينفتح معها الباب لدور إنشائي وإبداعي كبير في تفسيرها وإنزال حكمها الملزم لسلطة التشريع.

إذا ذكرنا هذا كله لاتضح لنا على الفور ما تؤدى إليه هذه الطبيعة الخاصة للنصوص الدستورية من منح القاضي الذي يحاكم النصوص التشريعية إلى نصوص الدستور سلطة تقديرية واسعة يكون له في ظلها تأثير على السياسات العامة للمجتمع في الميادين الاجتماعية والسياسية. وهو التأثير الذي أشار إليه تقرير اللجنة التشريعية بمجلس الشعب عند مناقشة مشروع قانون إنشاء المحكمة الدستورية، والذي تحفظنا عليه في مطلع هذا البحث، انتباها إلى أن مشاركة القضاء تظل مشاركة سلبية، تتمثل في تحديد ما لا يملكه المشرع وفقًا لتفسير المحكمة الدستورية لنصوص الدستور.

خلاصة القول أنه قد صار معلومًا لكل مشتغل بالقضاء، ممارسة أو دراسة وتحليلًا.. أن المحكمة الدستورية تمارس دورًا إنشائيًا يتجاوز حدود التطبيق الحرفي لنصوص الدستور، ليصل إلى التأثير العملي على كثير من أمور الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع.. وأن هذا الدور الإنشائي يتحقق عن طريق قيام المحكمة بتفسير نصوص الدستور ونصوص القوانين واللوائح التي يطرح عليها أمر دستوريتها.. وأن هذا التفسير لا يمكن أن ينفصل تمامًا عن الرؤية الخاصة للمحكمة في كثير من القضايا السياسية والاجتماعية التي تتناولها في أحكامها.. وقديمًا عبر عن هذه المشاركة أحد رؤساء المحكمة العليا الأمريكية قائلًا: “نعم.. نحن –أي المحكمة– نعمل في إطار الدستور، ولكن الدستور هو ما نقرر نحن أنه الدستور”.

ولذلك قلنا في مناسبة سابقة: “إن العدالة الدستورية ليست أبدًا عدالة معصوبة العينين. والرقابة على دستورية القوانين ليست عملية حسابية أو آلية توضع بها نص القانون في مواجهة نص الدستور فيظهر على الفور مدى التطابق بينهما، أو مدى مخالفة القانون لنصوص الدستور، إن النصوص الدستورية –على ما ذكرنا– تعالج أمورًا بالغة التعقيد تتصل بمبادئ سياسية واجتماعية يتفاوت النظر في تحديد مدلولها وتحديد نطاقها. والقضاة –في نهاية الأمر– مواطنون مشاركون في حياة مجتمعهم، ولكل منهم –وهم بشر- رأيه الخاص وتوجهاته الخاصة ومنطلقاته الفكرية تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، ومن شأن هذه الآراء والتوجهات أن تجد سبيلها إلى الأحكام القضائية التي يصدرها أولئك القضاة، وهم يفصلون في أمر دستورية نص تشريعي يعالج الشئون السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ولهذا وجدنا الفقه الدستوري في بلد كالولايات المتحدة يعنى عناية خاصة بفهم الرؤى السياسية والقانونية لأعضاء المحكمة الاتحادية العليا، ووجدناهم يؤلفون الكتب وينشرون عشرات المقالات في تحليل تلك الرؤى ورصد انعكاساتها على ما أصدره وما يتوقع أن يصدره أولئك القضاة من أحكام تتعلق بدستورية القوانين”.

منهجان مختلفان في ممارسة الاختصاص بالرقابة على دستورية القوانين:

تعرضت المحاكم التي تمارس الرقابة على دستورية القوانين لحملات تعترض على بعض أحكامها، وترى فيها اقتحامًا -لا يجوز– لسلطة التشريع التي اختص بها الدستور والمجالس النيابية المختلفة.. وقع ذلك الاعتراض في الولايات المتحدة منذ أوائل القرن الماضي، ووقع مثله في مصر حين توالت خلال العشرين سنة الأخيرة أحكام قضت فيها المحكمة الدستورية بعدم دستورية عديد من التشريعات يتصل بعضها بالحقوق والحريات، ويتصل بعضها الآخر بنصوص تشريعية تعالج جوانب مختلفة من حياتنا السياسية والاجتماعية وكان جواب المحاكم الأمريكية ومعها جانب من الفقه.. هو عين جواب المحكمة الدستورية في مصر، ومعهما كذلك جانب كبير من فقهاء القانون الدستوري، ومضمون هذا الجواب أن المحكمة إنما تمارس اختصاصها بالرقابة وفق منهج صارم يتوسط به بين التفريط الذي يؤدى إلى استمرار العمل بنصوص تشريعية مخالفة للدستور.. والإفراط الذي تقتحم به المحكمة مجال التشريع، متجاوزة القاعدة المقررة من أن المحكمة الدستورية تقضى ولا تشرع تمامًا، كما أن القاضي الإداري يقضى ولا يدير… أي أن المحكمة في الحالين لا تتجاوز حدود العمل القاضي ولا تقتحم على أي من السلطتين التشريعية والتنفيذية مجال اختصاصها الذي حجزه لها الدستور.

ويتمثل هذا المنهج “الوسط” في التزام المحكمة عددًا من الضوابط التي يسميها الفقه، كما سمتها المحكمة الدستورية العليا في مصر “ضوابط التقيد الذاتى” Judicial self restraint. في مقدمة هذه الضوابط ما استقر عليه الفقه والقضاء من احترام قرينة “الدستورية” أي قرينة احترام النصوص الدستورية فيما تصدره سلطة التشريع من قوانين وقرارات، ومنها أن المحكمة في ممارستها للرقابة لا تتدخل في البواعث التي دفعت المشرع إلى إصدار التشريع محل الطعن.. كما لا تتداخل في أمر “ضرورته” وتقدير الحاجة إلى إصداره.

ويعرف أهل الاختصاص بالقانون الدستوري، أن اختيار المحاكم الدستورية “للسياسة القضائية” التي ترسم بها لنفسها حدود تدخلها في العمل التشريعي هي أكثر أجزاء عمل المحكمة الدستورية دقة وصعوبة، ولن يدرك عامة المتقاضين ثقل المحكمة [المهمة] الملقاة على المحكمة الدستورية، وهي تتلمس لنفسها –في قضائها- سبيلًا قوامًا بين الإسراف في الحذر والإفراط في الإقدام.

ولقد تعرضت محكمتنا الدستورية العليا لسهام نقد زاد عددها مع زيادة عدد الأحكام التي قضت فيها المحكمة بعدم دستورية عدد كبير من التشريعات، وتساءل كثيرون، من رجال القانون، ومن عامة المثقفين والمهتمين بالشأن العام عن دلالة كثرة الأحكام الصادرة بعدم دستورية العديد من نصوص القوانين.

ومن الضروري أن يلاحظ الجميع أن كثرة هذه الأحكام لا تعبر –بالضرورة- عن إسراف مذموم في تقدير عدم دستورية تلك القوانين بقدر ما تعبر عن ترخص المشرع في بعض ما يصدره من تشريعات، وتساهله في التثبت من التزام تلك التشريعات لحدود الدستور، وهو ترخص لا يكشف بالضرورة –كما يتوهم البعض- عن الاستخفاف بنصوص الدستور أو توهم أن المجلس التشريعي “سيد” فوق القانون وفق الدستور، وإنما قد يرجع ذلك –في بعض حالاته على الأقل– إلى تنوع المجالات التي يتناولها بالتنظيم التشريع الحديث وتعقيد بعضها… وأن انشغال المجلس التشريعي بمواجهة الحاجات الاجتماعية والسياسية بما يناسبها من تنظيمات تحقق الأهداف الكبرى للمجتمع، هذا الانشغال قد يصرف تلك المجالس عن توجيه العناية الكافية إلى بحث مدى اتفاق تلك التشريعات مع نصوص الدستور، ويظهر ذلك بصفة خاصة حين يكون المجال الذي ينظمه التشريع مجالًا مستحدثًا، لا سوابق له يقاس عليها، ولا أحكام قضائية في شأنه تكشف للمشرع –مقدمًا– عن مدى دستوريته.

وهذا الالتفات النسبي عن “المسألة الدستورية” لا ينبغي أن يقلق الرأي العام كثيرًا، مادام النظام الدستوري والقانوني قد تكفل، في مجموعه، بتدارك الأمر، ووكل هذا التدارك إلى صاحب الاختصاص فيه، وهو “المحكمة الدستورية” وذلك حين منحها، وحدها دون غيرها، مهمة الرقابة على دستورية القوانين.

إن التقدم الحقيقي لأي نظام دستوري، أو سياسي، إنما يقاس بمدى قدرة هذا النظام على إصلاح أخطائه وتدارك عثراته من خلال آليات وتركيبات تنظيمية “مؤسسية” تتولى، من داخله إصلاح تلك الأخطاء.. وليس من شك في أن وجود المحكمة الدستورية العليا عندنا يمثل حجر الزاوية، والضمان الأكبر لالتزام المشرع حدود الدستورية، ولتوفير أكثر الضمانات فاعلية في حماية الحقوق والحريات وتأمين العدل وسيادة القانون بأوسع معانيها وأكثرها شمولًا. لهذا نقرر –في غير تردد– أنه لا ينبغي لأحد –حاكمًا كان أو محكومًا- أن يضيق بأحكام المحكمة أو أن يذهل عن دورها الكبير في نظامنا الدستوري، وفى توفير الأمن القانوني للمجتمع كله.. إن هذا الأمن القانوني هو السبيل الوحيد لتوفير الأمن السياسي وحراسة السلام الاجتماعي.. كما لا يجوز –كذلك- لأحد أن يتصور –وهما وخطأ- أن كثرة الأحكام التي تقرر فيها المحكمة الدستورية عدم دستورية بعض النصوص التشريعية دليل على تجاوز المحكمة الدستورية أو اقتحامها مجال التقدير الذي تركه الدستور وعهد به إلى المجالس التشريعية.

ولا يعنى هذا بطبيعة الحال أنه لا رأي لنا -تحفظًا واستدراكًا- على بعض ما انتهت إليه المحكمة في أحكامها التي تمس أمورًا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية تختلف في شأنها الآراء باختلاف الرؤى السياسية والاجتماعية وما تنطوي عليه تلك الرؤى من ترجيح بين المصالح المتعارضة وتحديد لأولويات المبادئ الحاكمة؛ إذ إن هذا التحفظ، وذلك الاستدراك، ملازمان لدور الفقه في مناقشة أحكام القضاء مناقشة شرطها ألا تكون قائمة على مجرد المفاضلة والاستحسان وإنما تقوم على منهج علمي موضوعي صارم في موضوعيته صرامة التزام الأحكام القضائية بأصول العمل القضائي في إجراءاته ومبادئه التي تكفل له أعلى درجات التجرد عن الهوى والتزام بالحياد واتباع أصول الصناعة القضائية التي كان بها دور المحاكم في إقامة العدل “فريضة محكمة وسنة متبعة”.

وليت غير المتخصصين من كتابنا ومثقفينا وشبابنا يقلبون بعض صفحات الأحكام التي أصدرتها محكمتنا الدستورية خلال ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، هي أعوام حياتها بيننا، ولو فعلوا لرأوا رأى العين كيف تعلن هذه المحكمة باسمهم في كل مرة أن هامة الدستور الذي ارتضوه لمجتمعهم أعلى من كل هامة، وأن حرياتهم التي تحرسها المحكمة حرم آمن لا يجوز لسلطة مهما علت مكانتها أن تلتف حوله أو تجور عليه، وإن بين يدى وأنا أكتب هذه السطور المجلدات التسعة التي تضم ما أصدرته المحكمة الدستورية من أحكام منذ إنشائها عام 1979 وحتى شهر يونيه سنة 2001، وبين يدى كذلك مجلدات تضم أهم الأحكام التي أصدرتها المحكمة العليا الأمريكية في الشئون الدستورية، وأشهد –بغير مبالغة يميلها الانحياز أو يدفع إليها الشعور بالاعتزاز- أن محكمتنا الدستورية قد بلغت في بعض أحكامها، ولا أقول فيها جميعًا، مبلغًا من الحرص على سيادة الدستور، ومن التحليل القانوني الدقيق، ومن الصناعة الفقهية والقضائية المتمكنة ما لا يقل بحال عما بلغته المحكمة العليا الأمريكية التي بدأت مسيرتها قبل محكمتنا بنحو قرنين من الزمان. ولا يتسع المقام لتقديم تقييم علمي شامل لمجمل المبادئ التي أرستها محكمتنا الدستورية في المجالين السياسي والاجتماعي للحياة في مصر وإنما سأجتزئ بالإشارة إلى عدد قليل من هذه الأحكام قبل مناقشة أمرين يهمان كل مشتغل بالقانون.

أولهما: مناقشة اقتراح أوشك البعض أن يستحسنه ويميل إليه، تقيدًا لسلطة المحكمة في ممارسة الرقابة على القوانين، ووجدنا من الواجب أن نناقشه في هدوء وأن نكشف عن ضرره الكبير حتى لا تحدث أحدًا نفسه بالعودة إليه أو ما يشابهه.

والآخر: إلقاء نظرة على مستقبل القضاء الدستوري في مصر.. وما قد تقتضيه مراعاة “اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال” كما كان يقول فقهاؤنا الأولون، من إعادة النظر في بعض ما قررته أحكام قديمة للمحكمة، وقعت بعدها تغيرات في بنية المجتمع وأوضاعه على نحو يستوجب العدول عن بعض ما انتهت إليه تلك الأحكام القديمة.

وقبل أن ننتقل إلى مناقشة هذين الأمرين، وهما داخلان كلاهما في نطاق البحث الفني الذي يخاطب المثقفين في النطاق الدستوري والقانوني.. فلا بد أن نشير إلى “بؤرة” اهتمامنا في مناقشتنا لبعض الأحكام التي أصدرتها المحكمة، هي مناقشة ما يمكن أن نسميه “السياسة القضائية” للمحكمة، من حيث اختيارها لموقف الالتزام الصارم بضوابط “التقييد الذاتى”.. الذي تتناءى معه عن الدخول في تقدير ملاءمة التشريع.. أو موقف الإقدام والإيجابية activism الذي تتوسع به المحكمة في بسط رقابتها على القوانين، بحيث تقترب في بعض أحكامها من التخوم الفاصلة بين الشرعية والملاءمة، وهما مدرستان كان لهما ولا يزال أتباعهما بين قضاة المحاكم الدستورية في مصر وفى غيرها.

وقد ظهرت إلى جوارهما مدرسة ثالثة تتبنى سياستين قضائيتين مختلفتين باختلاف ميدان الرقابة، فهي تتبع الساسة الإيجابية النشطة activism في المجال السياسي وما يتصل به من حقوق وحريات شخصية وسياسية… وفى مجال حرية التعبير التي هي –في نهاية المطاف– أقوى الضمانات لقيام ديمقراطية حقيقية مبناها المشاركة الحقيقية الفعالة والاختيار الحر الطليق، بينما تتبع سياسة التقييد الذاتي في المجالين الاجتماعي والاقتصادي إيمانًا بأن الاختيار بين البدائل المتاحة في هذا الميدان هو أخص خصائص الوظيفة التشريعية التي احتجزها الدستور للمجالس التشريعية المنتخبة.

ولعل أكثر الاحكام التي أثارت جدلًا وخلافًا في الرأي العام وبين رجال القانون أنفسهم هي تلك التي تتصل بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، كالأحكام الصادرة في شأن التزام الزوج المطلق بتوفير مسكن للمطلقة الحاضنة.. وتلك الصادرة في ميدان العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين.. وكلها ميادين بالغة الدقة شديدة التعقيد، لا يزال المشرع عاجزًا –إلى يومنا هذا– عن قطع الأمر فيها بكلمة سواء.. وهو ما يفسر التأخر الطويل في إصدار القوانين المنظمة لتلك العلاقات.

وإذا كنا من جانبنا نؤيد –في حماس موضوعي تبرره وتشهد له تجارب عشرات السنين– السياسة القضائية الإيجابية في ميادين الحقوق الشخصية والحريات المدنية والسياسية.. فإننا نفضل -في حماس موضوعي كذلك- أن تتجه المحكمة إلى مزيد من التقييد الذاتي، وإلى إعمال الضوابط التي قررتها هي في العديد من أحكامها لسلطتها في الرقابة على التشريع، وذلك حين يتصل الأمر بترتيب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية… حتى تظل تبعة التوفيق بين المصالح المتعارضة في تلك الميادين واقعة على عاتق الهيئة المسئولة دستوريًا عن تحقيق ذلك التوفيق وهي الهيئة التشريعية المنتخبة الممثلة لاتجاهات الجماهير.

وفى تقديرنا أن زهد المحكمة الدستورية في اقتحام هذا المجال على صاحب الاختصاص الأصيل فيه، من شأنه أن يقوى ساعدها ويثبت مكانتها حين تمارس الإيجابية والإقدام في الميدان الذي لا يقوم غيرها مقامها فيه، وهو ميدان حماية حرية الاعتقاد والتعبير وممارسة الإبداع، وحماية الحقوق الشخصية والمدنية للأفراد والأقليات، وحماية ضمانات المتهمين في التحقيق والمحاكمات.

خاتمة:

وفى الجزء الثانى من هذا البحث سوف نتعرض لمناقشة أربعة أحكام، يقع اثنان منها في ميدان الحقوق الشخصية والحريات العامة، ويقع الاثنان الباقيان في ميدان العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، لنتبين من خلال هذه المناقشة حقيقة الدور الذي تؤديه المحكمة الدستورية العليا في نظامنا السياسي ونظامنا الاجتماعي، ولنتعرف من خلال هذه المناقشة كذلك على المعايير القانونية التي تطبقها المحكمة وهي تمارس رقابتها على التشريع في هذين المجالين. وبعد ذلك ننتقل إلى مناقشة أمرين آخرين يتعلقان بالجانب الفني في ممارسة المحكمة لاختصاصها وبحدود هذا الاختصاص.

 أولهما: مناقشة الأفكار والاقتراحات التي طرحها البعض بقصد تقييد سلطة المحكمة، والانتقاص من قيمة ما تصدره من أحكام.

والآخر: الوسائل الفنية التي تتمكن المحكمة عن طريقها من مراجعة بعض ما انتهت إليه في عدد من أحكامها السابقة.


* نُشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة “الدستورية” ، التي تصدرها المحكمة الدستورية العليا في مصر، والذي صدر في شهر يناير- 2003م.

يكاد ينعقد الآن اتفاق المتشرعين من علماء الغرب ومتابعيهم على أن فكرة القانون الدولى العام فكرة حديثة العهد ابتدعتها أوروبا أخيرًا.

هذا الحكم صحيح في الجملة، ويلوح لنا بمنأي عن الجدال ما دمنا نبعد بموضوعه عن محيط التاريخ الإسلامي، فالنظام الدولي لم يكن معروفًا حقيقة في العصر القديم اليوناني والروماني، ولا في العصور الدينية الأولى في اليهودية والمسيحية.

أما العصور الدينية المذكورة فمن الميسور أن نتبين فيها هذا الفراغ، وأن ندرك أسبابه، ذلك أنه حين تأسيس هاتين الديانتين لم يكن أمامهما علاقات دولية تتطلب هذا التشريع، فكان كل نشاطهما مركزًا في بث الدعوة الدينية في نطاق محلى محدود، نعم إن نشر الدعوة الموسوية في بني إسرائيل لم يلبث أن حمل هذا الشعب على الهجرة، وجعله يتصل بأمة مجاورة، غير أن هذه الصلة الوقتية لم تكن إلا صراعًا خاطفًا انتهي إلى استئصال شأفة تلك الأمة وحلوله محلها، ولم يترك لنا التاريخ القواعد التي بني عليها هذا الصراع والتحول.

وأما العصور اليونانية والرومانية القديمة فإن خلوها من هذا التشريع مرده إلى أسباب تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليست المسألة مسألة انقطاع الصلة بين هاتين الدولتين وبين العالم الخارجي، إذ أن تلك العلاقات الخارجية لم تعوز هاتين الدولتين يومًا ما، ولكن نظرتهما نفسها إلى الحياة لم تكن لتسمح لهما يوضع تشريع كهذا، ذلك أن فكرة القانون الدولى تفترض قبل كل شيء الاعتراف بضرب من المساواة واشتراك المصالح وتبادل الحقوق والواجبات بين مختلف الأمم. وهذا لم يكن ليتفق والنظريات اليونانية والروماينة. فأما قدماء اليونان فإنهم، وإن كانوا يتعاملون فيما بينهم على قدم المساواة أو يكادون -على رغم الصراع الدائم بين مملكتي أسبارطة وأثينا- كانوا ينظرون إلى الشعوب غير اليونانية نظرتهم إلى كائنات جد منحطة، حتى أن أرسطو كان يرى أن البرابرة (ويعنى بهم الأجانب) ما خلقوا إلا ليقرعوا بالعصا، ويسلبوا ويستعبدوا، وكذلك كان الأمر في التشريع الروماني، فإنه لم يكتف بأن وضع نوعين متباينين من القوانين، أحدهما: للمواطنين (القانون المدني) والآخر: لسكان البلاد الممتلكة (قانون الشعوب)، بل إنه لم يكن يعرف في الصلات الخارجية إلا قانون القوة الباطشة، فلم يجعل للأمم الأخرى حقًا في دفاعها عن نفسها، ولا في أمنها ودعتها، وإنما كان دستورها في نظره: “العبودية أو الفناء”، وإذا كان قد اتفق لروما في بعض الأحيان أن وضعت معاهدات سلمية على وجه دون وجه، فلم يكن ذلك راجعًا إلى أن هناك قانونًا يقضى بهذا الشرط المعين أو ذاك، بل كان مصدره محض التفضل أو السعى وراء الأغراض والمنافع.

ولو أننا بحثنا فكرة القانون الدولى في أوروبا في العصور الحديثة ما وجدنا كبير فرق بينها وبين تلك العصور الأولى، على رغم التقدم الفعلى في تدوين قواعد هذا التشريع العام، ذلك أن فكرة تساوى الناس أمام القانون -تلك الفكرة التي طالما طالبت بها الشعوب وتشدقت بها الحكومات- لم تتخذ بعد في نظر الغربيين صبغة القانون العام الشامل، ألم يقل “استيوارت مل” باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية؟ أو لم يحدد “لوريمير” على وجه الأرض مناطق ثلاثًا تخضع كل منها لقانون مختلف؟ فالعالم المتمدين يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسية كاملة، والعالم نصف المتمدين يكفي أن يتمتع بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المتحضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلزامًا قانونيًا. وجاء ميثاق “عصبة الأمم” بعد الحرب العالمية الأولى فأقر هذا التقسيم الثلاثى وأكسبه سلطة القانون، بل لقد فرق في قلب المدنيات الأوربية نفسها بين الحقوق السياسية للدول الكبرى والدول الصغرى، وأيًا كان فإن منظمة السلام هذه لم تحظر غزو منشوريا، ولا فتح بلاد الحبشة. وأخيرًا شكلت “جمعية الأمم المتحدة” بعد الحرب العالمية الثانية، فماذا رأينا؟ أليس روح التفريق وعدم المساواة لا يزال مسيطرًا فيها على عقول السادة الذين يتحكمون في مصير الإنسانية؟ أنه لا حاجة بنا إلى محاولة إقامة البرهان على ذلك، فهذه الحوادث التي تجرى تحت سمعنا وبصرنا، وهذه الحلول العرجاء التي تطبق عليها في أحضان هذه الجمعية الحديثة تنطق -بأفصح بيان- بأن الضعفاء والمظلومين الذين كانوا يبنون آمالهم على مثل هذه المؤسسات لم ينلهم حتى الآن إلا حسرات تتلوها حسرات!

* * *

إذا أردنا أن نظفر بتشريع دولى عام يصطبغ بالصبغة العالمية الحقيقية، فعلينا أن نصعد بذاكرتنا إلى عصر رسول الإسلام.

كلنا نعرف أن محمدًا، عليه الصلاة والسلام، لبث في الدعوة زهاء عشر سنين في اتصال دائم بأمم وديانات معادية طورًا ومسالمة طورًا، وطبيعي أن هذه الظروف الخاصة التي جعلت للإسلام سلطانًا زمنيًا وحكمًا عالميًا -إلى جانب كونه عقيدة روحية، ومبدأ أخلاقيًا- كانت تتقاضاه أن يضع تشريعًا لقانون السلم والحرب بين الأمم، فماذا فعل؟ وهل كانت إجابته لهذه الحاجة الملحة شافية لغلة المتشرعين، مرضية للضمائر السليمة لدى الحكماء وذوي الخلق الكريم..؟

لا شك أن دراسة مستوعبة لهذه الناحية من التشريع الإسلامي تتطلب بحثًا عميقًا، لا للعهود والأقضية النبوية وحدها، بل للمعاهدات التي وضعها الخلفاء والملوك الإسلاميون أيضًا في غضون التاريخ، ولكنه ليس من غرضنا في هذا البحث أن نجعل مجال بحثنا بهذه المثابة من السعة والاستقصاء، وكل ما يعنينا الآن هو أن نستخلص ما في القرآن والسنة النبوية من المبادئ الأساسية والخطوط الأساسية الرئيسية في هذا الشأن.

1)     تصحيح خطأ مشهور:

وقبل كل شيء يجب أن نصحح خطأ ذائعًا في الأوساط الأوربية، وهو الزعم بأن الشعوب الإسلامية يباح لها -بل يجب عليها امتثالًا لدستورها الديني- أن تحمل السلاح لإكراه الناس على الإسلام، وسحق الشعوب الأخرى التي لا تعتنق هذا الدين.

لئن كان هذا الرأي حقًا وجب أن تمحى كلمة “القانون الدولى” من التشريع الإسلامي إذ لا يبقي لها فيه مدلول تشير إليه، ولا يبقي لغير المسلمين أمامه حق يطالبون فيه بحرياتهم ولا بحياتهم.

ولكن الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم يكشف لنا عن الحقيقة التي تخالف هذا الزعم على خط مستقيم، فالقرآن لا يكتفي بأن يحظر -حظرًا أدبيًا- كل محاولة لإكراه الناس على الإيمان [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ] [البقرة: 257]، بل يقرر أنه من المستحيل وقوعيًا أن يسيطر على العالم دين واحد [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ([هود: 118]، [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103]. ألا تكون محاولة فرض عقيدة واحدة على الناس -والحالة هذه- ضربًا من التناقض والإحالة الظاهرة؟ إن القرآن لم يفته أن يبرز ما في هذه الغاية الطموحة من غرور خداع، وذلك حيث يقول: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] [يونس: 99].

ومن هنا نرى كتاب الإسلام المطهر يحدد رسالة نبيه بأدق ما يكون من العبارات الحاصرة، مبينًا أن مهمته إنما هي الموعظة والتذكير [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ] [الغاشية: 21، 22] بل إن هذه الدعوة السلمية نفسها لم يتركها القرآن حتى رسم حدودها وطريقتها، وأوجب أن تؤدي بأكرم أسلوب، ومن ألطف طريق: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: 108]، [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ] [العنكبوت: 46].

ورب قائل يقول لنا: سلمنا أن كل إكراه ديني يجب أن يستبعد من أهداف الإسلام، فما الذي يمنع أن يكون من بين هذه الأهداف فكرة الفتح والتوسع التي يكون المسلمون قد دفعوا إليها بسبب من الأسباب الأخرى كداعية الثروة الاقتصادية أو الاستعلاء السياسي، أو غير ذلك؟ فلندع القرآن يقدم لنا الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول: [تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83].

هكذا يقضى القرآن في حزم على تلك الروح الاستعمارية الجبارة، وبوجه عام على تلك النزعة المادية المتطرفة التي انتشرت انتشارًا وبائيًا في عصرنا هذا، والتي هي المنبع الأول لكل ما نشكو منه الآن.

ولكن هل نأخذ من كل ما تقدم أن الحروب ليس لها وجود قانوني في نظر الإسلام؟

هيهات! فها هي ذي نصوص القرآن، لا تجعل الجهاد عملًا فاضلًا فحسب، بل تعده غالبًا من الواجبات الأولية.

فالسؤال الذي يجب وضعه الآن هو هذا: ما الأحوال والشروط التي يبرر بها الإسلام اتخاذ تلك المواقف الحربية، ويجعلها حقًا مشروعًا؟

2) تعريف الحرب المشروعة:

ليس من غرضنا قط أن نعمل الفكر والقياس الدقيق للتوفيق بين هاتين المجموعتين من النصوص القرآنية المتعارضة في الظاهر. فالنص القرآني نفسه يعفينا من هذه المهمة بما يقدمه لنا من الصيغ المحددة للمقصود: تمييزًا بين الحرب المشروعة، وغير المشروعة، وإليك طائفة من هذه النصوص:

  • [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] [البقرة: 190].
  • [فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] [البقرة: 192، 193].
  • [فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا] [ [النساء: 90].
  • [لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ] [الممتحنة: 8].

واقرأ على الخصوص آية براءة التالية، فإن تحديدها لأهداف الإسلام في هذا الشأن أوضح وأصرح: [أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ] [التوبة: 13].

ومن هذه النصوص التي سردناها، ومن نصوص كثيرة أخرى، يخلص لنا تعريف “الحرب المشروعة” في الإسلام، وأنها هي “الحرب الدفاعية”.

ويجعل بنا أن نشير إلى أن كلمة الدفاع، ينطوي تحتها نوعان قد أشار القرآن إلى كليهما:

1)     الدفاع عن النفس:

وفيه يقول الكتاب المجيد: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ] ( [الحج: 39، 40].

2)     الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه:

وهذا هو ما حث عليه القرآن في قوله: [وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ] [النساء: 75].

وغني عن البيان أن المفروض في كلتا الحالتين أن يكون العدو قد اتخذ بالفعل موقفًا عدائيًا، وأن يكون في حالة هجوم أو تأهب للهجوم. فالمظاهر غير الودية والإساءات الأدبية، والمقاومات العنيدة لأمانينا المشروعة، كل ذلك لا يسوغ لنا أن نتخذه ذريعة لإعلان الحرب. وإنه لمن أكبر مفاخر الإسلام أن يكون القرآن نفسه هو الذي وضع هذا التحديد في صراحة حيث يقول: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] [المائدة: 2].

3)     الصلح المجحف خير من الانتصار الدامي:

من هنا نرى أن الحرب في نظر الإسلام شر لا يلجأ إليه إلا المضطر. فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح.

وإن لنا في موقف الرسول في غزوة الحُديبية لنموذجًا حسنًا لهذا الروح العالى في التسامح والصفح، حرصًا على السلام من جانب الطرف الأقوى، فهو لم يكتف بالرجوع مع جيشه من حيث أتوا، وبتأجيل ما كانوا أجمعوا على أدائه في ذلك العام من المناسك “زيارة الأماكن المقدسة”.. لم يكتف بأن رضي بتجريد اسمه في نصوص الهدنة من كل لقب تشريفي هو أهله، ولكنه فوق ذلك كله، قبل مختارًا مقترحات الهدنة التي لا يعامل فيها الطرفان على قدم المساواة، بل تخول للأعداء حقوقًا لا تخولها للمسلمين، ناهيك بالشرط الذي يلزم المسلمين بإعادة من يلجأ إليهم فرارًا من معسكر قريش، بينما يجعل للهاربين من معسكر المسلمين حق البقاء في معسكر قريش دون إزعاج ولا رد! ونحن نعرف كم كان هذا الموقف البالغ الحدة في المسألة مثيرًا لاستفسارات الصحابة واعتراضاتهم، ولكن كل هذه المآخذ لم تكن لترجح كفة الحرب في نظر قائدهم الأعلى، ولم تكن لتعدل به عن طريق السلام الذي يحفظ به دماء الناس وأرواحهم، ولنستمع له حين يقول مصممًا في جواب السائلين له عن السر في هذا العدول عن دخول مكة: “والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها”.

4)     قواعد الحرب:

هكذا يوصينا الإسلام بالمصابرة ما بقي في قوس الصبر منزع، ويخولنا حق الالتجاء إلى القتال، إلا حيث يفرضه علينا العدو فرضًا، وحيث يكون القعود معناه الإلقاء باليد إلى التهلكة.

لكنه -حتى في هذه الحال المشروعة- لا يبيح لأحد أن يخوض غمار الحرب منقادًا بسورة الغضب، أسيرًا لغريزة الانتقام، دون تعقل ولا عاطفة إنسانية، بل يوجب أن يسير فيها الجيشان، وفق قانون معين يضبط هذه الانفعالات وينظمها.

فلنعرض الآن بعض تلك التعاليم التي أراد الإسلام –لا أقول أن يمحو بها إلى الأبد تلك الكارثة العالمية،  فذلك ما لا يمكن تحقيقه ما بقي على الأرض شريرون لا يقمع نشاطهم الإجرامي إلا بالقوة- ولكن أراد الإسلام بها تضييق مجال الحروب، وتخفيف عواقبها الوخيمة:

‌أ. الأهداف الحربية:

رأينا كيف أن القرآن حين أباح الحرب الدفاعية المشروعة قد ميز تمييزًا واضحًا بين المحاربين وغير المحاربين، فأمر بألا يقاتل إلا المقاتل. ولابد أن نفهم كلمة المقاتلين: أنهم الذين يحضرون ميدان القتال بالفعل، ويستخدمون فيه قوتهم العدوانية.

لقد استرشد التشريع الإسلامي بتعاليم النبوة في هذا الشأن، فحدد هذه الشرط على وجه يزيل كل لبس، ويكفل إبعاد شرور الحروب عن الضعفاء، ويجنب المدنيين كل ويلاتها، فالأطفال والشيوخ والنساء والمرضي والمعتوهين، بل حتى الفلاحون في حرثهم والرهبان في معابدهم(1) كل أولئك معصومون بحصانة القانون من أخطار الحروب.

والذي يلفت نظرنا بوجه خاص في هذا المقام هو حرص الإسلام، لا على حماية هؤلاء الضعفاء من الأضرار المادية فحسب، بل على حمايتهم أيضًا من التعرض لكل ألم نفسي. يبدو لنا ذلك جليًا بتأمل المثال التالي الذي ترويه لنا الآثار عن واقعة خيبر، ذلك أنه حين انتهى حصار هذه المدينة بنصر المسلمين، وقعت امرأتان يهوديتان في أسر بلال فمضى بهما بلال إلى مركز القيادة، مارًا بميدان المعركة حيث سقطت جثث القتلي من اليهود، وكان لهذا المشهد أثره العميق في نفس إحدى الأسيرتين، فصاحت وأجهشت بالبكاء، وما أن علم النبي بسلوك بلال هذا، حتى استنكر فعلته، ووجه إليه اللوم العنيف قائلًا له: “هل نزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلي رجالهم؟”.

وينساق بنا الحديث في هذا المعنى إلى التنويه بالقاعدة الإسلامية المتعلقة بأسرى الحرب والتي تحرم الفصل بين المرأة الأسيرة وأبنائها، وتوجب الجمع بينهم في مكان واحد، فيا لها من عناية رحيمة حتى في معمعة البأس!

‌ب. النهي عن حبس الطعام عن المدن:

ويظهر أن الإسلام لا يستحسن -بل لا يبيح-  فرض حصار يرمي إلى حبس الطعام عن مدن الأعداء، أو أن هذا على الأقل، هو ما تدل عليه حادثة ثمامة (أحد أشراف بني حنيفة)، فقد صمم هذا الرجل وهو في حداثة إسلامه، وأقسم مندفعًا بحرارة إيمانه الغض على منع تموين مكة بالحبوب التي كانت تنتجها بلاده (اليمامة) ما لم ينهه النبي عن ذلك نهيًا صريحًا، فلما عاني أهل مكة ما عانوا من بأس هذا الحصار وجهوا إلى النبي رسالة موجزة يقولون فيها: “إنك تأمر بصلة الرحم، ولكنك قطعت أرحامنا فقتلت الآباء وجوعت الأبناء”، فبعث النبي على الفور إلى ثمامة يأمره برفع هذا الحظر، وبأن يدع أهل مكة يتمتعون بمواردهم العادية.

ج.     تقييد مرمى الأسلحة:

ومن ثمرات القاعدة التي توجب حصر العمليات الحربية في الأهداف العسكرية: النهي عن استعمال الأسلحة البعيدة المدي، خاصة كل وسيلة عامة للتدمير كالتفريق والتحريق.

د.   حظر وسائل الانتقام الوحشية:

يستنكر القرآن في أكثر من موضع تلك العادة الهمجية التي يشيع استعمالها في أثناء الحروب، ألا وهي تعذيب الأعداء ومعاملتهم بالقسوة والخشونة. وأنه ليصل في استنكار هذه الفعلة إلى حد أن يعد تعذيب العدو أشد جرمًا من القتل: [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ] [البقرة: 191]، [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ] [البقرة: 217].

ثم إننا نجد تعاليم الرسول التي كان يوجهها إلى قواد حملاته الحربية زاخرة بنصائحه لهم على النظام وحسن السلوك في قتالهم. و من بين هذه النصائح: تحذيره المتكرر لهم من السلب والنهب والقتل غدرًا، التمثيل بجثث القتلى. نعم إنه ذات مرة اشتد غضبه من أهل مكة  لتمثيلهم بجثة عمه حمزة الذي استشهد في غزوة أحد، وحمله ذلك الغضب على التفكير في مضاعفة الانتقام منهم في واقعة مقبلة، ولكن القرآن لم يلبث أن نفره من هذه المحاولة، محذرًا إياه من مجاوزة الحد في الانتقام، مرغبًا له في الصبر والصفح [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ] [النحل: 126، 127]، فلم يسع النبي عليه الصلاة والسلام إلا العدول عن هذه الفكرة، واختار ما هو أليق بخلقه الكريم، فشمل مجرمي الحرب هؤلاء بكرمه وصفحه.

ولقد بلغت به دقة تطبيقه لحكم القرآن الذي يأمر بالعفو عن الأعداء متي انتهوا عن عدوانهم أن نهي عن تعقب من يفر منهم من الحرب، فما بالك بمن يلقي سلاحه ويتقدم إلينا في صراحة بعبارات السلام والاستسلام؟ إن القرآن ليحرم علينا إيذاءه تحريمًا قاطعًا حتى لو كان ذلك بحجة الشك في صدق إيمانه] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ([النساء: 94].

تلك كلها أدلة ملموسة على أن الإسلام لا يرمي قط إلى القضاء على أعدائه، ولا إلى الاستيلاء عليهم بالقهر، ولكن إلى تجنب خطرهم، فمتي تحقق هذا الغرض لم يبق للصراع في نظره مبرر.

هـ الهدنة الإجبارية في الأشهر الحرام:

وهذا أسلوب آخر من أساليب تخفيف ويلات الحروب… فنحن نعرف مدى ما تستنفذه الحروب الطويلة الأمد، من جهود الشعوب وقواها، وكيف أنها تصيب نشاطها التعميرى بالجمود والشلل. وعلاجًا لهذه الحال سن القرآن، أو بالأحرى أحيا تلك السُنَّة القديمة التي توجب عدم استمرار الحروب حولًا بأكمله، فتقرر في أثنائه هدنة جبرية تعود فيها العلاقات السلمية، وتأخذ الحياة مجراها الطبيعى بين الأمم في مدة أقلها أربعة أشهر، هذا الوضع الذي تكف به أعمال الحرب جبرًا خلال ثلث العام لا تنحصر مزيته في إشعار المتحاربين بلذة السلم في هذه المدة فحسب، بل إنه بما يتركه من الأثر في نفوس الجماهير يثبطهم عن الشر، ويغريهم بإطالة أمد الصلح، وتحويله من هدنة مؤقتة إلى هدنة حقيقية، أو إلى سلم دائم.

و التسامح:

من أنواع العلاج الواقي الذي يوصي به ساسة الغرب في العصور الحديثة منعًا لنشوب الصراع بين الدول: مشروع منع التسلح أو تقييده، غير أن هذا العلاج لم يتخذ قط حتى الآن صفة القانون الدولى ولم تطبق مبادئه تطبيقًا عادلًا على الجميع، وإنما كان يفرض على المغلوب وحده، بل يمكن القول بأن تطبيق هذا المبدأ الذي يتعارض وغريزة البقاء سيظل دائمًا حلمًا مستحيل التحقق.

أما القرآن فإن نظرته الواقعية النفاذة جعلته على العكس من ذلك، يحضنا على أن نعد للطاغين كل ما استطعنا من قوة، على أن تلك النظرة الواقعية إلى الوسائل التي يجب اتخاذها لم تكن لتحول دون نظرته التالية إلى الغايات العليا التي يهدف إليها من وراء الاستعداد الحربي، وهي غاية تختلف كل الاختلاف عن الغايات التي يسعى إليها الغزاة الطامحون. فالمسألة في نظر القرآن ليست مسألة للهجوم على الأعداء، بل التحصن من شرهم، وإنذارهم بالقوة الباطشة التي تنتظرهم إذا لم يقفوا عند حدهم [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ][الأنفال: 60].

5) العلاقات السياسية:

ههنا يكمن أنجع علاج في نظرنا لآلام الإنسانية الحاضرة، فليس الشأن في أن نقلل من مقادير عتادنا الحربي، أو نغير من طبيعته، وإنما الأمر في أن نعدل أسلوبنا الفكري من أساسه.. علينا أن ننظر إلى الحياة نظرة جديدة تخضع فيها المادة للروح، وتسمو فيها المعنويات على الجثمانيات، وكل حل ينقصه هذا العنصر، إنما هو حل سطحى واه لا بقاء له.

رأينا في الأسطر القليلة السابقة كيف نظم الإسلام حالة الحرب. فلننظر الآن كيف نظم علائق السلم: وأول ما يعنينا من ذلك طريقة معاملته لمبعوثي أعدائه، وحاملي رسائلهم، وممثليهم السياسيين، وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها إنها سديدة مستقيمة. فالإسلام فوق ما يكفله لهم من صيانة وأمن على الأرواح[1] يمنحهم نوعًا من الحصانة الاجتماعية التي تخولهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا، ولا يدع سبيلًا إلى حجزهم في بلادنا بحجة أنهم قوم، عدو لنا.

يلي ذلك طريقته في الاستماع لهؤلاء المفاوضين وحسن استعداده للتفاهم والتعاقد معهم. فالقرآن يحض الرسول على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلًا إليه[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] [الأنفال: 61].

أما شرائط الصلح وطرائقه، فقد رأينا بصدد هدنة الحديبية، كيف أن روح المسالمة التي تعمر قلب رسول الإسلام، قد جعلته يضحي بكثير من التفاصيل المتعلقة بألقابه الأدبية، وبالسمعة الحربية لجيشه، وببعض الحقوق الفردية لأتباعه، على أنه ليس معنى ذلك أنه يوجب قبول كل اقتراح من جانب الأعداء، مهما كان شاذًا، أو ضارًا بحقوق الأمة والأجيال المقبلة، فقد رأينا هذا الرسول الرحيم نفسه حين عرض عليه مسيلمة الكذاب تقسيم “الأرض” بينه وبينه يرفض [إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ] [الأعراف: 128].

فإذا نحن درسنا الوثائق التي تركتها لنا السير عن العلاقات السياسية النبوية استطعنا أن نتبين فيها أنواعًا مختلفة من المواثيق!

أ. إعلان الأمن والحماية:

لعل أبسط العقود السياسية هو التصريح الذي يصدر من جانب واحد، ولا يلزم إلا الطرف الذي أصدره، كإعلان دولة ما: أنها تلتزم الأمن والحماية لدولة أخرى.. وأننا لنجد من هذا النوع مثالًا واضحًا في ذلك العهد الذي أعطاه النبي لأهل سوريا ومن معهم في أثناء غزوة تبوك، وضمن لهم فيه حرية انتقالهم، وأمن قوافلهم البرية والبحرية، وحرية استعمالهم للطرق ومجاري المياه على شريطة واحدة، وهي ألا يثيروا على المسلمين شغبًا.

ب. ميثاق عدم الاعتداء من الجانبين:

لكن المعاهدة بالمعنى الصحيح تتطلب اتفاقًا وتبادلًا للمنافع يقبله طرفا العقد جميعًا، وأن أقل ما يتحقق فيه هذا النوع من العهود، هو التعاقد الذي لا يتضمن إلا التزامات سلبية تنحصر في امتناع كلا الطرفين عن كل فعل ضار بالآخر. وقد نقل لنا المؤرخون أمثلة لمواثيق من هذا النوع عقدها النبي والتزم فيها الطرفان -إما المدة غير محصورة، وإما إلى أجل معلوم- ألا يهاجم أحدهما الآخر، ولا يحالف عدوًا له، ولا يساعد معتديًا عليه. فمن هذا القبيل ميثاقه إلى أجل غير مسمى مع بني ضمرة في السنة الثانية من الهجرة، ومنه أيضًا ميثاق الهدنة التي عقدها مع قريش في السنة السادسة من الهجرة لمدة عشرة أعوام.

ج.      المحالفة:

على أن الحقوق والواجبات المتبادلة إنما تبرز في أكمل مظاهرها في عهود الحلف، ومن أمثلة هذه العهود في حياة الرسول: هاتان المحالفتان اللتان مهد لهما صلح الحديبية، حيث خول كلًا من الفريقين أن يختار حليفًا له من بين القبائل العربية، فاختارت “خزاعة” أن تحالف محمدًا، واختارت “بنو بكر” أن تحالف قريشًا، ولقد كان من نتائج تطبيق هاتين المحالفتين أن نهض المسلمون في السنة الثامنة لنجدة خزاعة حين نقضت قريش عهدها بإزائها، وينبغى أن يلاحظ أن هذا النقض لم يكن بقتال مباشر موجه علانية لخزاعة، وإنما كان معاونة سرية بالمال والسلاح لبني بكر عليها، ومن هنا تعرف وجهة نظر الإسلام في هذه النقطة القانونية.

‌د.        الإعارة والتأخير:

وهذا مثال طريف لنوع من المواثيق لا نجده بعد إلا في العصر الحديث: ذلك هو العهد الذي أعطاه النبي لنصارى نجران باليمن، وهو وإن كان عهدًا مليًا أكثر منه عهدًا دوليًا، إلا أن فيه شرطًا يذكرنا بميثاق الإعارة والتأجير الذي عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا لتموين الجيوش الإنجليزية في الحرب العالمية الثانية.

6) الوفاء بالعهود:

فهذا العهد النبوي إذا نظرنا إليه من وجهتيه الاجتماعية والدينية، نراه يلتزم للنجرانيين بحرية عقيدتهم وعبادتهم، وسلامة معابدهم، وعدم المساس بمساكن كهنتهم ما داموا لا يحدثون اضطرابًا، ولكن الناحية الاقتصادية لهذا العهد أكثر طرافة، فإنه ينص على ضرورة تقديم مساعدة مادية معينة منهم للمسلمين في حالة حدوث نزاع بين المسلمين، وبين طرف ثالث في اليمن، ومن بين هذه المساعدات: إعارة جيش المسلمين ثلاثين وحدة من كل صنف من أصناف السلاح، على أن يقوم المسلمون برد هذه الأسلحة إلى حلفائهم النجرانيين بمجرد انتهاء الحرب.

وبعد: فإن من المقرر المعترف به عند الجميع أنه يجب على طرفي العقد -مهما كان نوع المعاهدة التي بينهما- أن يحافظا بدقة وأمانة على تنفيذ كل شروط الميثاق بنصها وروحها.

غير أن هذا الالتزام يأخذ في نصوص القرآن طابعًا خاصًا من التشديد ومن القدسية يجعله فرضًا دينيًا بالمعنى الحقيقي. فالميثاق الذي يعقده المسلم لا يرتبط به أمام الناس فحسب، بل إنه يعقده في الوقت نفسه بينه وبين الله تعالى، إذ يجعل المسلم ربه شهيدًا وكفيلًا على عقوده والتزاماته، ومن هنا يصبح احترام هذه الالتزامات أمرًا متغلغلًا في النفوس، متصلًا أوثق اتصال بعقد الإيمان، بحيث لا يبقى لقوة في الأرض أن تحلله منه، سواء في ذلك دوافع المنفعة أوطلب النفوذ، أو زيادة الرخاء، أو المجال الحيوى، أو التوسع الاقتصادى، أو التوازن السياسي، أو غير ذلك.

وإلى هذا كله يشير القرآن حيث يقول: [وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ] [النحل: 91، 92].

فإذا نحن رجعنا إلى السنة النبوية وجدناها قد بلغت من الدقة في تطبيقها لهذه التعليمات القرآنية مبلغًا يكفي في وصفه أن نورد بعض الأمثلة منه:

كان أبو جندل من المسلمين المحصورين في مكة، فبينما كانت تكتب شروط صلح الحديبية أقبل يرسف في قيوده ليقيم مع المسلمين، وإذ كانت هذه المعاهدة لم توقع بعد، كان من الممكن ألا يطبق عليه شرط رد اللاجئين، ولكن ممثل قريش عارض في ذلك بحجة أن الاتفاق الشفوي قد تم آنفًا قبل قدوم هذا اللاجيء، فصدقه النبي، صلى الله عليه وسلم، وتركه يأخذ بتلابيب المهاجر ليرده إلى مكة، ولم يكن صياح أبي جندل وشكواه وإعلان خوفه من أن يفتنه المشركون عن دينه إذا رجع إليهم، ولا الألم النفسي الذي أصاب المسلمين بسبب هذا التنازل -لم يكن كل ذلك- ليغير من موقف النبي، وما زاد على أن قال: “يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، ولكننا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدًا، وإننا لا نغدر بهم -أو-  وأنه لا يصلح في ديننا الغدر”، ولقد تكرر مثل هذا الحادث بعد في شأن أسير آخر وهو أبو بصير، وكان الحل هو الحل.

وإليك مثال من نوع آخر كان القادم فيه من المشركين لا من المسلمين، وجاء مبعوثًا لا هاربًا، ذلك هو أبو رافع الذي قدم برسالة من قريش إلى النبي، فما هو إلا أن رأي النبي حتى وقع في قلبه الإسلام وأراد ألا يرجع إلى قومه، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: “أنا لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد.”

بل هناك ما هو أعظم من ذلك دلالة على قدسية العهود والمواثيق في نظر رسول الإسلام، وأنه لم يكن حرصه على الوفاء بعهوده أشد منه على وفاء أتباعه بعهودهم الشخصية، مهما شقت على ضمير المؤمنين، ومن أطرف الأمثلة في ذلك وأشدها غرابة حادثة حذيفة وأبيه، فقد كانا قطعا على نفسيهما لبعض الأعداء عهدًا -بدون استئذان الرسول- ألا يقاتلاهم، فلما جاء وقت القتال استفتيا في ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما كان جوابه إلا أن قال: “انصرفا ففيا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم.”

  • قطع العلائق السياسية:

هناك شرطان فقط لابد منهما في نظر القرآن لإباحة نقض حلف سابق:

  1. هذا النقض لا يصح أن يحدث اعتباطًا وابتكارًا من قبلنا تحت تأثير الأغراض والمنافع، أو بباعث الهوى والعاطفة، بل لابد أن يكون مسبوقًا باستفزاز من قبل الخصم، وبأمارات تدل على أنه ينوي خيانة العهد.
  2. ولا يصح أن يكون قطع العلائق عمليًا فقط، وبدون سابق إنذار، وإلا كان غسلًا للخيانة بالخيانة، بل لابد أن يكون نبذًا للمعاهدة صريحًا واضحًا، وأن يصل إلى علم الخصم في الوقت المناسب ليكون على بينة من نيتنا نحوه حتى نكون وإياه سواء في ذلك، هذا هو صريح نص القرآن [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ] [الأنفال: 58].

 خاتمة:

هكذا نرى أن التشريع الدولى الإسلامي يستوحي في كل خطوة من خطواته روح العدالة والمساواة بين الناس أمام القانون. بل يستمد من ينابيع أشد عمقًا من ذلك كله: يستمد من منابع الإيمان الصحيح، والخلق الكامل. ونستطيع أن نقول -ووثائق التاريخ بين أيدينا-: إن هذا التشريع الدولى العام بمعناه الصحيح لم يكن له وجود قبل الإسلام ولم يصل إليه تشريع آخر بعد الإسلام إلى يومنا هذا.


[1] هذا هو أحد الأدلة الساطعة على أن هدف الحرب الإسلامية ليس هو محو الديانات الأخرى، فها نحن أولاء نراه على العكس من ذلك يحرص على تحصين أبناء تلك الديانات وحماية رؤسائها -الذين هم أبرز من يمثلها- من كل عدوان ما داموا بعيدين عن إشعال نار الحروب.

 

[2] انظر قول الرسول لمبعوثي مسيلمة الكذاب: “والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما.”

 


* نُشر هذا البحث في مجلة “دراسات عربية وإسلامية” والتي تصدر عن مركز اللغات الأجنبية والترجمة التخصصية بجامعة القاهرة في العدد رقم (54) سنة 2015.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

باسم الشعب

مجلس الدولة

المحكمة الإدارية العليا

الدائرة الأولى – موضوع

**********

بالجلسة المنعقدة علنًا بمبنى مجلس الدولة في يوم السبت الموافق 26/4/2014

برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ فريد نزيه حكيم تناغو

رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة

وعضوية السادة الأساتذة المستشارين / د. عبد الفتاح صبري أبو الليل وأحمد وجدى عبد الفتاح وفوزي عبد الراضي سليمان أحمد ومحمد ياسين لطيف شاهين.

نواب رئيس مجلس الدولة

وحضور السيد الأستاذ المستشار / أحمد أمين المهدى

نائب رئيس مجلس الدولة ومفوض الدولة

وحضور السيد / كمال نجيب مرسيس              سكرتير المحكمة

*********

أصدرت الحكم الآتي

في الطعن رقم ٣٦۸۲۱ لسنة ٥٦ القضائية عليا

المقام من

رئيس هيئة مفوضي الدولة

طعنًا في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية (الدائرة الثانية – بحيرة) بجلسة 26/5/2010 في الطعن رقم ١٩٠٩ لسنة ٣٨ ق . س

المقام من

  1. وزير العدل.
  2. مساعد وزير العدل لشئون المحاكم والمأذونين والموثقين.
  3. كاتب أول محكمة دمنهور الابتدائية للأحوال الشخصية.

ضد

السعيد صبحي السعيد عطية قمح

والمتدخل فيه إنضماميًا إلى جانب الجهة الإدارية/ سمير عبد المجيد عبد الحميد عبيد

“الإجراءات”

****

بتاريخ 24/7/2010 أودع رئيس هيئة مفوضي الدولة -بصفته- قلم كتاب هذه المحكمة تقريرًا بالطعن قيد بجدولها بالرقم المبين بعالية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية “الدائرة الثانية – بحيرة” في الطعن رقم ۱۹۰۹ لسنة ٣٨ ق. س بجلسة ٢٦/5/2010 والقاضي بقبول الطعن شكلًا، وبإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء مجددًا برفض الدعوى وإلزام المطعون ضده المصروفات.

وطلب الطاعن -للأسباب الواردة في تقرير الطعن- الحكم بقبول الطعن شكلًا وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء مجددًا بقبول الدعوى شكلا وفي الموضوع بإلغاء القرار المطعون فيه فيما تضمنه من عدم التصديق على قرار دائرة الأحوال الشخصية بمحكمة دمنهور الابتدائية بجلسة 27/5/٢٠٠٢ بتعيين المطعون ضده مأذونًا لناحية معنيا بمركز إيتاي البارود وما يترتب على ذلك من آثار.

وجرى إعلان الطعن على النحو المبين بالأوراق.

وأودعت هيئة مفوضي الدولة تقريرًا بالرأي القانوني في الطعن ارتأت فيه الحكم بقبول الطعن شكلًا ورفضه موضوعًا مع إلزام المطعون ضده المصروفات.

وتحدد لنظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون بهذه المحكمة جلسة 18/3/۲۰۱۳ على النحو الثابت بمحاضر الجلسات، وبجلسة 17/6/۲۰۱۳ قدم المطعون ضده مذكرة دفاع وحافظة مستندات، وبجلسة 17/6/٢٠١٣ قررت المحكمة إحالة الطعن إلى دائرة الموضوع وحددت لنظره جلسة 1/8/۲۰۱۳، وقد نظرته المحكمة بتلك الجلسة وما تلاها من جلسات على النحو الثابت بمحاضر جلساتها، وبجلسة 18/1/۲۰۱٤ طلب السيد/ سمير عبد المجيد عبد الحميد عبيد عن طريق وكيله التدخل انضماميًا إلى جانب الجهة الإدارية، وبجلسة 22/2/٢٠١٤ قدم طالب التدخل صحيفة معلنة بهيئة قضايا الدولة بتدخله في الطعن ومذكرة دفاع طلب فيها الحكم أصليًا: بعدم قبول الطعن، واحتياطيًا: برفضه وتأييد الحكم المطعون فيه، وبذات الجلسة قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم، وفيها صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به.

المحكمة

***

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات، وبعد المداولة.

وحيث إن الطعن أقيم خلال الميعاد المقرر قانونًا، واستوفى سائر أوضاعه الشكلية الأخرى، فمن تم يكون مقبول شكلًا.

وحيث إن وقائع النزاع تخلص – حسبما يبين من الأوراق – في أنه بتاريخ 21/10/۲۰۰۳ أقام السيد/ السعيد صبحى السعيد عطية قمح الدعوى رقم ٤٤٧ لسنة ٥١ ق أمام المحكمة الإدارية بالإسكندرية بطلب الحكم بوقف تنفيذ ثم إلغاء قرار مساعد وزير العدل لشئون المحاكم فيما تضمنه من عدم التصديق على قرار دائرة الأحوال الشخصية بمحكمة دمنهور الابتدائية الصادر بجلسة 27/5/٢٠٠٢ بتعيينه مأذونًا لناحية معنيا مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة وبإعادة إجراء القرعة بين المرشحين لشغل المأذونية المذكورة، وما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الجهة الإدارية المصروفات.

وقال المدعى شرحًا لدعواه أنه تقدم ومعه ستة آخرين لشغل مأذونية قرية معنيا مرکز إيتاي البارود – بحيرة – وقد استبعدت دائرة الأحوال الشخصية اثنين منهم لحصول أحدهما على مؤهل متوسط وعدم حصول الثاني على أي مؤهل، وبتاريخ 27/5/٢٠٠٢ تم إجراء القرعة بين باقي المرشحين الحاصلين على مؤهل عال وتم فوزه بها، ومن ثم قررت محكمة دمنهور الابتدائية للأحوال الشخصية تعيينه مأذونًا لناحية معنيا وأرسلت الأوراق إلى إدارة المحاكم بوزارة العدل للتصديق على قرار تعيينه، إلا أن الأخيرة رفضت وقررت استبعاد أحد المرشحين لكونه شافعي المذهب وأن اشتراكه في القرعة يبطلها وانتهت إلى إعادة إجراء القرعة بعد استبعاد المرشح المذكور، ونعى المدعى على هذا القرار مخالفته للقانون لأن اشتراك صاحب المذهب الشافعي في القرعة لم يكن له تأثير لعدم فوزه بها، الأمر الذي حدا به إلى إقامة دعواه.

وبجلسة 26/4/۲۰۰٦ أصدرت المحكمة الإدارية بالإسكندرية حكمها بقبول الدعوى شكلًا وبإلغاء القرار المطعون فيه وما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الإدارة المصروفات، وشيدت المحكمة قضاءها على أسباب حاصلها أن لائحة المأذونين نصت على تفضيل المرشح صاحب المذهب الحنفي على المرشح صاحب أي مذهب آخر – ومنها المذهب الشافعي – ولم تنص اللائحة على استبعاد هذا الأخير، ومن ناحية أخرى فإن الثابت من الأوراق أنه على الرغم من مشاركة المرشح صاحب المذهب الشافعي بالقرعة المشار إليها فإن الفائز بها حنفي المذهب، ولم يكن لاشتراك المرشح صاحب المذهب الشافعي ثمة تأثير على هذه القرعة، ومن ثم يكون السبب الذى قام عليه القرار المطعون فيه مخالفًا للقانون، مما يتعين معه القضاء بإلغاء هذا القرار مع ما يترتب على ذلك من آثار.

وإذ لم ترتض الجهة الإدارية هذا الحكم فقد طعنت عليه أمام محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية بالطعن الاستئنافي رقم ۱۹۰۹ لسنة ۳۸ ق. س بتاريخ 19/6/٢٠٠٦ طالبة الحكم بقبول الطعن شكلًا، وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء مجددًا برفض الدعوى وإلزام المطعون ضده المصروفات عن درجتي التقاضي، وذلك على سند من مخالفة الحكم المطعون فيه للقانون والخطأ في تطبيقه وتأويله لأن القرار المطعون فيه صدر سليمًا باعتبار أن القرعة التي أجريت وترتب عليها فوز المطعون ضده تمت بالمخالفة لأحكام القانون لاشتراك صاحب المذهب الشافعي مما يستوجب إعادة القرعة من جديد.

وتداول نظر الطعن أمام المحكمة على النحو الثابت بمحاضر الجلسات، وخلالها قدمت صحيفة معلنة بتدخل السيد/ سمير عبد المجيد عبد الحميد عبيد – أحد المرشحين لشغل الوظيفة والفائز بالقرعة بعد إعادتها – منضمًا إلى جانب الجهة الإدارية الطاعنة، وبجلسة 26/5/٢٠١٠ قضت المحكمة بقبول الطعن شكلًا، وبإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء مجددًا برفض الدعوى، وإلزام المطعون ضده المصروفات.

وأقامت المحكمة حكمها على أساس أن القرار المطعون فيه الصادر برفض اعتماد نتيجة القرعة وإعادتها بعد استبعاد أحد المشتركين لكونه شافعي المذهب صدر موافقًا لصحيح حكم القانون، فاشتراك المرشح شافعي المذهب في القرعة حال عدم أحقيته في ذلك يشوب الإجراءات بعدم الصحة التي تطول نتيجة القرعة وتصمها بالبطلان، إذ إن اشتراكه يؤثر بلا ريب على فرص كل مرشح بالفوز وبالتالي على مبدأ تكافؤ الفرص، وأنه ليس صحيحًا ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من أنه لا يوجد نص يقضى باستبعاده فهو قول يهدر المادة (۱۲) من لائحة المأذونين، فخروج المرشح الشافعي المذهب من الأفضلية بين المرشحين وقصرها على أصحاب المذهب الحنفي يقتضي بالضرورة استبعاده من الاشتراك في القرعة إذ ينتفى أي مبرر لاشتراكه، ومن ثم فإن اشتراك المرشح شعبان حسن قمح حال كونه شافعي المذهب يبطل القرعة المشار إليها، وإذ صدر القرار المطعون فيه برفض التصديق عليها واعتماد نتيجتها وإعادتها بعد استبعاد أحد المشتركين لكونه شافعي المذهب، فإنه يكون موافقًا لأحكام القانون بمنأى عن الإلغاء.

ومن حيث إن مبنى الطعن الماثل أن الحكم المطعون فيه خالف معيار الأفضلية المنصوص عليه في المادة (۱۲) من لائحة المأذونين وما استقر عليه قضاء المحكمة الإدارية العليا، لأن مشاركة صاحب المذهب الشافعي بالقرعة لا يبطلها لأن الفائز بالقرعة (المطعون ضده) حنفي المذهب، ولم يكن لاشتراك المرشح صاحب المذهب الشافعي ثمة تأثير على القرعة.

وحيث إنه عن طلب تدخل السيد/ سمير عبد المجيد عبد الحميد خصمًا منضمًا إلى جانب الجهة الإدارية، فالثابت أن المتدخل أحد المرشحين لشغل وظيفة مأذون محل النزاع الماثل، ولم تتضمن صحيفة تدخله على طلب الحكم لنفسه بشيء، وقد تم التدخل وفقًا للإجراءات المقررة قانونًا، ومن ثم تقضى المحكمة بقبول تدخله سيما وأنه سبق أن تدخل أمام المحكمة المطعون على الحكم الصادر منها، وقبلت تلك المحكمة تدخله.

وحيث إن مقطع النزاع في الطعن الماثل يتمثل فيما إذا كان اشتراك صاحب المذهب غير الحنفي خريج إحدى كليات جامعة الأزهر مع غيره من خريجي كليات الحقوق في إجراء القرعة اللازمة للتعيين في وظيفة مأذون – يبطل هذه القرعة من عدمه.

ومن حيث إن المادة (۳) من لائحة المأذونين الصادرة بقرار وزير العدل في 10/1/١٩٥٥ والمعدلة بالقرار رقم ٦٣٥ لسنة ۱۹۷۲ تنص على أنه “يشترط فيمن يعين في وظيفة المأذون: أ- …….. ب- ……. ج- أن يكون حائزًا لشهادة التخصص أو شهادة العالمية أو شهادة الدراسة العالية من إحدى كليات الجامع الأزهر أو أي شهادة من كلية جامعية أخرى تدرس فيها الشريعة الإسلامية كمادة أساسية. د- …… ه – ………”.

وتنص المادة (۱2) من ذات اللائحة على إنه “بعد استيفاء جميع الإجراءات تصدر الدائرة قرارًا بتعيين من تتوافر فيه الشروط من المرشحين ولا يكون قرارها نافذًا إلا بعد تصديق الوزير عليه. وفي حالة تعدد من تتوافر فيهم شروط التعيين يفضل من يحمل مؤهلًا أعلى ثم الحائز لدرجات أكثر في الامتحان المنصوص عليه في المادة التاسعة ثم الحائز لدرجات أكثر في أحكام الزواج والطلاق وعند التساوي يقدم حنفي المذهب ثم يكون التفضيل بطريق القرعة”.

وحيث إن مؤدى هذين النصين، وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة في الطعن رقم ١٥٥٠٦ لسنة ٥٦ ق. عليا بجلسة 26/3/۲۰۱۱، أن المشرع فيما يتعلق بالشهادات الواجب توافر الحصول على إحداها فيمن يعين في وظيفة المأذون قد ساوى بين تلك التي يتم الحصول عليها من إحدى كليات جامعة الأزهر الشريف أو التي يتم الحصول عليها من إحدى الكليات بالجامعات الأخرى التي تدرس فيها الشريعة الإسلامية كمادة أساسية، الأمر الذي يغدو واضحًا منه أن عنصر التساوي فيما بين جميع هذه الشهادات يتمثل في انطواء الدراسة في الكليات التي تمنحها على دراسة الشريعة الإسلامية كمادة أساسية بغض الطرف على قيام دراستها على أساس من المذاهب الفقهية تخصصًا من عدمه، ومن ثم تتساوى الشهادات التي تمنحها إحدى الكليات غير التابعة لجامعة الأزهر مع تلك التي تمنحها إحدى كليات هذه الجامعة متى كانت تقوم بتدريس الشريعة فيها كمادة أساسية، وعلى ذلك إذا توافر للمتقدم للترشيح معيار التفضيل المتمثل في أن يكون حنفي المذهب كان واجبًا تقديمه على غيره، وإذا لم يتوافر في أي من المتقدمين هذا السبب للتفضيل وجب إجراء القرعة فيما بينهم جميعًا بحسبان تساويهم في شرط الحصول على المؤهل الذي سبق منحه ودراسة الشريعة الإسلامية كمادة أساسية، يستوى في ذلك من كان منتميًا لمذهب فقهى غير المذهب الحنفي أو من لم يكن منتميًا إلى أي من المذاهب الفقهية، لاسيما وأن الجميع يتعين عليه تطبيق أحكام قانون الأحوال الشخصية عملًا والذى يتخذ من المذهب الحنفي عمدة لنصوصه ومرجحًا عند الاختلاف في الحكم الراجح في هذا المذهب.

وحيث إنه من المقرر أن خريج كليات الحقوق ليس بالضرورة أن يكون حنفي المذهب لمجرد دراسته لأحكام قوانين الأحوال الشخصية وفقًا لهذا المذهب، لأن دراسة الشريعة الإسلامية في الكليات المشار إليها فضلًا عن أنها تتم دون التقيد بمذهب معين، فإنه حتى مع التسليم بأن قوانين الأحوال الشخصية التي تدرس في هذه الكليات مصدرها الرئيسي أو الذي يرجع إليه لاستجلاء بعض النصوص هو المذهب الحنفي، إلا أنها لا تلزم الدارس بإتباع هذا المذهب دون سواه، كما لا تتضمن الشهادات الدراسية الصادرة عنها أي بيان يتعلق بالمذهب الذى ينتمى إليه الدارس.

“يراجع حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم ١٣١٥٤ لسنة ٤٩ ق. عليا بجلسة 6/5/٢٠٠٦”.

ومن حيث إنه ترتيبًا على ما تقدم ولما كان الثابت من الأوراق أن قرار الجهة الإدارية المطعون عليه قد صدر برفض التصديق على نتيجة القرعة التي أجرتها دائرة الأحوال الشخصية بمحكمة دمنهور الابتدائية بتاريخ 27/5/٢٠٠٢ بتعيين المرشح/ السعيد صبحى السعيد عطية قمح في وظيفة مأذون لناحية معنيا مركز إيتاي البارود – بحيرة – مع إعادة إجراء القرعة بين أربعة مرشحين من بينهم المذكور بدعوى أنهم حنفي المذهب لحصولهم على ليسانس الحقوق وبعد استبعاد مرشح ثبت أنه شافعي المذهب، وإذ جاءت الأوراق خالية مما يثبت أن أيًا من المرشحين الأربعة المذكورين حنفي المذهب، ولا يجوز اعتبارهم كذلك لمجرد حصولهم على شهادة ليسانس الحقوق حسبما سلف بيانه، ومن ثم فلا يجوز أن يكون لهم ثمة أفضلية على المرشح الذي تقرر استبعاده بالقرار المطعون عليه والحاصل على شهادة من تلك المنصوص عليها في البند (ج) من المادة “3” من لائحة المأذونين من إحدى كليات جامعة الأزهر بسبب ما ثبت من أنه شافعي المذهب، وبالتالي فإن اشتراكه في القرعة يتفق وصحيح حكم القانون، ويضحى القرار المطعون عليه برفض التصديق على نتيجة القرعة في غير محله متعينًا القضاء بإلغائه.

ومن حيث إن الحكم المطعون فيه قد انتهى إلى غير هذه النتيجة فإنه يكون قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه وتأويله، وأضحى متعينًا القضاء بإلغائه بتأييد حكم المحكمة الإدارية بالإسكندرية “الدائرة الثانية – بحيرة” فيما انتهى إليه من إلغاء القرار المطعون فيه وما يترتب على ذلك من آثار.

ومن حيث إن من خسر الطعن يلزم مصروفاته عملًا بحكم المادة (١٨٤) مرافعات.

“فلهذه الأسباب”

حكمت المحكمة بقبول تدخل الخصم المنضم للجهة الإدارية، وبقبول الطعن شكلًا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبتأييد حكم المحكمة الإدارية بالإسكندرية فيما انتهى إليه من إلغاء القرار المطعون فيه وما يترتب على ذلك من آثار، وألزمت الجهة الإدارية المصروفات.

سكرتير المحكمة                                                  رئيس المحكمة

يُعد البروفيسور المصري الأمريكي أحمد عاطف (أحد أكبر المتخصصين في الدراسات الإسلامية والقانونية، في الأكاديميا الغربية)، من أهمّ مَنْ درَس فكرة “فتور الشريعة” في العصرِ الحديث، تلك الفكرة التي أفاض فيها إمام الحرمين الجوينيّ (419ه- 478ه) في الغياثي، وألمح إليها مرارًا في البرهان والتلخيص، وغيرهما، وكانت في حاجةٍ ماسّة إلى من يفردها بالتصنيف، تحقيقًا، وتدقيقًا.
مرحلة فتور الشريعة
كَتَبَ عاطف كتابه المهمّ: “فتور الشريعة” وطُبع مترجما في الشبكة العربية، ببيروت سنة 2017م.
وقد أفردَ فيه فصلا بعنوان: “علمٌ مهجورٌ”، تحدث فيه عن نظريّةِ موتِ الشريعة، ويقول إنه كان في بدايات أمره من المؤمنين بالنظريّة: “فتلك الشريعة المدوّنة كانت أجلَّ من أن تُطبَّق على الناس من حولي..، ومن أجل ذلك فقد قررت مستجمعا فتوة شبابي أن الشريعة باتت شبه ميتة، لكونها أجلَّ من أن تطبّق على الناس من حولي، وسلَّمتُ بأنّها قد ماتت، أو بتعبير آخر: اغتيلت على يد من يدّعون الإسلام، وليس على يد جيوش الاستعمار”. لكن عاطف تراجع عن تلك النظرية فيما بعد.
ظهر كتاب “فتور الشريعة” سنة 2012م، وهي نفس السنة تقريبا الذي خرج فيه كتاب الدولة المستحيلة لحلاق، وكلاهما يبحثان عن موقع وموضع الشريعة في عالم الحداثة.


ويقول عاطف في أحد حواراته عن الفارق الجوهريّ بين الكتابين: “قضيّتنا واحدة بلا شك، لكن الفرق بيننا في النتائج. فقبل كتابه هذا، كانت له مقالة قصيرة ومهمة جدًا، على الرغم من اختلافي معها، بعنوان “هل يمكن إحياء الشريعة؟” وفيها يقول أنها ماتت، ويعطي انطباعًا في هذه المقالة وفي “الدولة المستحيلة” بأنه يتحسّر على ذلك. ورأيي ربما مختلف، إذ أقول إن الشريعة لها أن تعيش طالما يقول المسلمون بأنها يجب أن تعيش، ولن يستطيع فرد مهما كان أن يقول بأنها ماتت، وحياتها المستمرة هذه لا تعني عدم حصول تغييرات عليها. ثم إنني أجد حلاق رومانسيًا ونوستالجيًا بعض الشيء، فهو يميل بشكل من الأشكال للشريعة في صورها التاريخية الأولى، فيما أرى أن الحفاظ على الشيء يكون بتغييره، لا بالإبقاء عليه في صوره الأولى. الشريعة عمرها طويل، ولا يمكننا الدفاع عن شيء عاش أكثر من ألف سنة، وفي أراضٍ مترامية من أوزبكستان والهند إلى الشام والمغرب. هناك أشياء هي جزء من تاريخنا وثقافتنا لكنها ليست بالضرورة شريعةً، وفي كل الأحوال لا يمكننا تمجيد شيء قام به البشر”. ((حوار مع العربي الجديد بتاريخ 02 سبتمبر 2017م)).

يلتفت عاطف في كلامه هذا إلى أمرٍ في غايةِ الأهميّة طالما ردده حلاق دون تأنٍ وبصيرة، وهو الفارق بين الشريعة وحمَلة الشريعة، بين الفقه والمتفقهة، بين الدين والقراءة الدينية، وربما كان الفقهاء والفلاسفة الإيرانيون أكثر إبداعا وتنظيرًا في هذه المسألة.

وهذا يحيلنا إلى أُسّ من أسس المسألة لم يلحظها حلاق رغم متانته الأصولية، وهي مسألة التصويب في الأصول والفروع، وبناء على قول الجمهور فيها نعرف أنّ مقولات الفقهاء ليست عين مراد الله في نفس الأمر، بل هي اجتهادات تصيب وتخطئ. أما التعامل معها على أنها مراد الله في نفس الأمر، والتعامل مع سياسات الأمويين والعباسيين على أنها السياسة الشرعية المأمولة كما أرادها الشارعُ في نفس الأمر كما هو مقتضى كلام حلاق، فهو تغافل عن التراث السياسي التاريخي والعمليّ للمسلمين حينئذ، فقد نشبت حروبٌ سياسية وطائفية، وفتن، وثورات بسبب جور الحكّام وظلمهم واستبدادهم، ومن ثمّ فإنّ محاولة تكريس هذا الواقع باعتباره هو الشريعة والشريعة هو، إنما يخدم فكرة الاستبداد والجبر التي تحدث عنها عابد الجابري باستفاضة.

وهي أيضا فكرة وإن زعمت التمسك بمقولات الفقهاء والحنين إليهم في العصور الوسطى، والقرون الأولى فهي في الحقيقة مُهينة للفقهاء، والمتكلمين، لأنها تنصر السياسيّ عليهم/ أي على الديني، فتساند الاستبداد الأموي والعباسي، والمملوكي والعثماني ضد المؤسسة الدينية الأهلية، والفقهاء المستقلين، فهي أقرب للقراءة الرسمية لو رجعنا إلى الماضي، وافترضنا أنها قيلت في تلك الأزمنة، وكأنها الخطاب الرسمي للدولة!.

لكن هنا لمحةٌ مهمة، وهي أنّ مقولة “موت الشريعة” ليست من اختراعات المشتغلين بالإسلامِ المعاصر، ولا حتى من التنظيرات الافتراضية لبعض الأصوليين كالجوينيّ، بل إنني وجدتُ تلك المقولة حتى في عهد الخلفاء الراشدين أنفسهم.

فيتكلّم الإمام عليّ في نهج البلاغة عن غياب الشريعة، فيقول في خطبة له: “أَلاَ وقد قطعتم قَيْد الإسلامِ، وعَطّلتم حدودَه، وأَمتُّمْ أحكامَه..”. وفي رسالة لأحد عمّاله قال له: “فإنّك ممن أستظهرُ به على جهادِ العدوّ، وإقامةِ عمود الدين”.

أيضا نجد مسألة اندثار الشريعةِ عند زيد بن عليّ (ت: 122ه) فهو يدعو في ثورته على الأمويين، عندما بايعه الناس، حسب الطبريّ (ت: 310ه) في تاريخه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين: “إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين..”.

فنحن أمام نصّ صريح يطالب بالرجوع إلى الكتابِ والسنّة، وهو يُشبه ما جاء عند الذهبيّ في السير أنّ يزيد بن الوليد: “خطب عند قتل الوليد، فقال: إني -والله- ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكن خرجت غضبا لله ولدينه، وداعيا إلى كتاب الله وسنة نبيه حين درست معالم الهدى، وطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار المستحل للحرمة، والراكب البدعة..”.

فمعالم الهدى دُرست، وطُفيْ نور أهل التقوى، واستُحلّت الحرمات..!. إذن في كلّ عصر وُجد من يحلم بنموذجٍ مثالي لتطبيق الشريعة، عندما يرى خفوتها في المجتمع، والمفارقة أنّ هؤلاء (كزيد بن عليّ، والنفس الزكية، وجدّهما، وغيرهم) طلبوا إعادة تفعيل وإحياء الشريعة في العصر المبكر للإسلام، في حين إن وائل حلاق يرى ذلك العصر هو العصر المثالي للشريعة على يد الأمويين والعباسيين!.  

مأزق حلاق: المقدمات غير المسلّمة

ينتقد عاطفُ حلاّق نقدا صريحا، ومن أسباب عدم الالتقاء بينهما في نظري أنّ المنطلقات مختلفة، والوعاءات متباينة، فعاطف رجل قانون، مهمومٌ بالقانون وقريب من الممارسة، فهو يشبه طارق البشري في الحالة المصرية، ولذا فإنه لم يكن مثاليًا أو خياليا طوباويًا، ولم ينشد إصلاحا مأمولا بعيدًا عن الواقع، بل يقدم علاجا لواقع مأزوم، يجب أن نتعامل معه شئنا أم أبينا.

في حين إن حلاق يقول (كما في دراسته: هل يمكن إحياء الشريعة؟) إنّ الشريعة ماتت، عندما تبنت الدول الإسلامية الدولةَ القومية الحديثة!.

ثم يضع تصورًا ينبئ عن سبب تلك القراءة التي لا نتفق معها، فيقول: “فبينما كان الحاكمُ التقليدي يرى نفسه خاضعًا للشريعةِ، تاركا السلطة والوظائف القضائية والتشريعية لطائفة العلماء، فإنّ الدولة الحديثة قلبت هذا المبدأ رأسا على عقب، فادّعت لنفسها السلطة المنوط بها تحديد ما يُعدّ قانونًا وما ليس كذلك”.  

وهذا الكلام التعميمي يُردده حلاق في جلّ مصنفاته، وهو بمثابة المقدمات التي يبني عليها نتائج خطيرة، في حين إننا لا نتفق أصلا مع تلك المقدمات التي تحتاج إلى دراسات تاريخية وفقهية كي نقرّ بها.

نرى أنّ حلاق وقع هنا في خطأين منهجيين:

الأول: أنّ الحاكم التقليدي لم يكن أبدًا خاضعًا للشريعة ولا تاركًا الوظائف القضائية للعلماء، فهذه نوادر وشذوذات تاريخية، فالأصل أنه كان يعيّن القضاة (لا المفتين)، ويعزلهم، دون أيّ رقابة على سلطاته التشريعية ومداخله المالية، بل حاول السياسيُّ/ الحاكمُ تدجين العلماء، في كثير من الأوقات، وهذه الاستراتيجية طبيعة السياسيّ في كلّ عصر عندما يتعاطى مع الدينيّ، سيّما إذا كان الدينيّ أداة شرعية سياسية!.

فتغيير الواقع التاريخي، أو قراءته المبتسرة والمنقوصة تؤدي إلى نتائج مثالية أقرب إلى التحليل الرغبوي.

الثاني: نرى أنّ الدولة الحديثة لم تقلب هذا المبدأ بل هناك مؤسسات تشرف على تلك الوظائف وليس الحاكم الفرد، اللهم إلا إذا قصد دول الاستبداد المشرقيّ، وهي دول ليست بقومية وليست بحديثة أصلا.

خاتمة،

نجد أن عاطف أقرب إلى الفيلسوف الذي يشتبك مع قضايا مجتمعه، في حين إنّ حلاق أشبه بفيلسوف يحلق في عالم الفكر، فينتقد ويتمنى ويرغب، دون أيّ احتكاك بالواقع. ولو افترضنا صحة مقولته بأنّ المشكلة كلها تكمن في الدولة الحديثة دون غيرها، فما الحل؟! هل هناك سبيل للرجعة إلى الدولة ما قبل الحديثة للمسلمين؟! أم أن الحل هو ترشيد الموجود بقدر الإمكان، وتهذيبه بما يتوافق مع ضروريات الشريعة. ولذا تعامل عاطف مع الدولة باعتبارها مكونة من أفراد ومؤسسات يمكن تشكيلها وتنميطها حسب إرادة الشعوب، وإرادة النخب والفاعلين ممن يتولون زمامها، في حين تعامل حلاق مع الدولةِ الحديثة، كصنمٍ أو ككتلةٍ واحدة لا يمكن إصلاحها ولا التعديل عليها، فهو يتعاطى بنظرية “الكتلوية” التي انتقدها جورج مقدسي في مواضع متفرقة من كتبه، ذلك التعاطي الذي لا يجدي نفعا مع الظواهر الإنسانية والفلسفية.

وأخيرًا، فإذا كان الجوينيّ تكلم عن موت الشريعة إلا أنه لم ينزع شرعية الدولة عند موتها، بل نصح المسلمين بحفظ الضروريات والمتواترات التي لا يمكن أن تندثر أو تختفي، في حين أن حلاق بعد أكثر من ألف سنة من وفاة الجوينيّ يطرح سؤالات موت الشريعة، ويطلب من المسلمين التوقف: اللاعمل، واللاشيء، أو كما قال رضوان السيد لي في يوم من الأيام، كأنه يقول للمسلمين: “روحوا موتوا”!.


المصدر: موقع الجزيرة. نت، على هذا الرابط: https://l8.nu/si-C.

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت ٣ يولية سنة ۱۹۹۹م الموافق ۱۹ ربيع الأول سنة ١٤٢٠هـ.

برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدین جلال………………………… رئيس المحكمة

وعضوية السادة المستشارين: ماهر البحيري، ومحمد على سيف الدين، وعدلي محمود منصور، ومحمد عبد القادر عبد الله، وعلى عوض محمد صالح، وأنور العاصي. وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق……………… رئيس هيئة المفوضين وحضور السيد/ حمدي أنور صابر………………………………………… أمين السر

أصدرت الحكم الآتي:

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم ١٦٤ لسنة ١٩ قضائية «دستورية».

المقامة من:

  1. السيد/ رئيس الجمهورية.
  2. السيد/ رئيس مجلس الوزراء.
  3. السيد/ رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب.
  4. السيد/ وزير العدل.
  5. السيدة/ فتحية إبراهيم محمد.
  6. السيدة/ ابتسام زكى السيد أحمد.
  7. السيدة/ إيمان زكى السيد أحمد.
  8. السيدة/ هنادي زكى السيد أحمد.
  9. السيد/ بكر حسن أحمد حسانين.

الإجراءات

بتاريخ التاسع عشر من أغسطس سنة ۱۹۹۷، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طلبًا للحكم بعدم دستورية نص الفقرتين الأولى والخامسة من المادة (٢٠) من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ۱۹۲۹ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت في ختامها الحكم بعدم قبول الطعن بالنسبة إلى الفقرة الأولى من المادة (۲۰) المشار إليها وبرفض الدعوى فيما عدا ذلك.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعى عليها الخامسة كانت قد أقامت ضد كل من المدعى والمدعى عليه التاسع الدعوى رقم ١٨٧٤ لسنة ١٩٩٦ أحوال شخصية «نفس» شبرا، ابتغاء القضاء بإلزامهما بتسليمها ابن ابنتها الصغير المشمول بحضانتهما باعتباره ابن أخيهما المتوفى.

وأثناء نظر تلك الدعوى دفع المدعى بعدم دستورية نص المادة (۲۰) من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع؛ وأذنت للمدعى بإقامة الدعوى الدستورية، فقد أقام الدعوى الماثلة.

وحيت إن هذه المحكمة سبق أن باشرت رقابتها القضائية على دستورية الفقرة الأولى من المادة (۲۰) من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ۱۹۲۹ – المشار إليها – فأصدرت بجلستها المعقودة في الخامس عشر من مايو سنة ۱۹۹۳ حكمها في القضية رقم 7 لسنة ٨ قضائية دستورية برفض الدعوى بالنسبة إلى الطعن بعدم دستورية هذا النص. وقد نشر ذلك الحكم بالجريدة الرسمية بتاريخ 5/6/1993. إذ كان ذلك، وكانت أحكام المحكمة الدستورية العليا قولا فصلا لا يقبل تأويلا ولا تعقيبا من أي جهة كانت، فإن الخصومة الدستورية بالنسبة لذلك النص – وهى عينية بطبيعتها – تكون قد انحسمت وتغدو الدعوى – في هذا الشق منها – غير مقبولة.

وحيث إن نطاق الدعوى – بهذه المثابة – أصبح منحصرًا في الفقرة الخامسة من المادة (۲۰) التي تنص على أن:

«.. يثبت الحق في الحضانة للأم، ثم للمحارم من النساء؛ مقدمًا فيه من يدلي بالأم على من يدلي بالأب، ومعتبرًا فيه الأقرب من الجهتين على الترتيب التالي:

الأم، فأم الأم وإن علت، فأم الأب وإن علت …. فعمات الأب بالترتيب المذكور».

وحيث إن المدعى ينعى على هذا النص، مخالفته لمبادئ الشريعة الإسلامية؛ التي تعتبر الحضانة حقًا للمحضون لا للحاضنة؛ وأنه ينبغى في كل حال الاعتداد بمصلحته دون توقف عند ترتيب مجرد للحاضنات أو الحاضنين: وإنما بمراعاة أمانتهم وكفاءتهم؛ حتى لا تؤول الحضانة إلى مضيعة للصغير.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة، قد اطرد على أن حكم المادة الثانية من الدستور – بعد تعديلها في ٢٢ مايو سنة ۱۹۸۰ – يقيد السلطة التشريعية اعتبارًا من تاريخ العمل بهذا التعديل؛ وأن مؤداه ألا تناقض تشريعاتها – ومن بينها القانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ – مبادئ الشريعة الإسلامية التي لا يجوز الاجتهاد فيها؛ والتي تمثل ثوابتها – مصدرًا وتأويلًا – إذ هي عصبة على التأويل فلا يجوز تحريفها، بل يتعين رد النصوص القانونية إليها للفصل في تقرير اتفاقها أو مخالفتها للدستور. ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها ، أو بهما معًا؛ إذ هي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيمًا لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًا؛ ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة، ومن ثم تنحصر دائرة الاجتهاد فيها على أن يكون هذا الاجتهاد واقعًا دومًا في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزمًا ضوابطها الثابتة، متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلًا صون المقاصد الكلية للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

وحيث إن البيِّن من المذكرة الإيضاحية للقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ المشار إليه أن وجود الولد ذكرًا كان أم أنثى في يد الحاضنة – سواء قبل بلوغهما سن العاشرة أو الثانية عشرة أو بعدها – لا يغل يد والدهما عنهما ولا يحد من ولايته الشرعية عليهما؛ فإن عليه مراعاة أحوالهما، وتدبير أمورهما، وولايته عليهما كاملة؛ وإنما يد الحاضنة للحفظ والتربية ولها القيام بالضروريات التي لا تحتمل التأخير كالعلاج والإلحاق بالمدارس بمراعاة إمكانات الأب. وأن ترتيب الحاضنات والحاضنين من العصبة وذوى الأرحام مأخوذ من فقه المذهب الحنفي، بما مؤداه أن أحكام الأهلية للحضانة – بوجه عام – يرجع في شأنها إلى الأرجح من فقه ذلك المذهب.

وحيث إن الصغير تثبت عليه منذ مولده ثلاث ولايات: أولاها: ولاية التربية؛ ثانيتها: الولاية على النفس؛ وثالثتها: الولاية على ماله. وتثبت الولايتان الأخيرتان – كأصل عام – للعصبة من الرجال. أما ولاية التربية، وهي الحضانة، فغايتها – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- الاهتمام بالصغير وضمان رعايته والقيام على شئونه في الفترة الأولى من حياته التي لا يستغنى فيها عن النساء ممن لهن الحق في تربيته شرعًا. والأصل فيها هو مصلحة الصغير؛ وهى تتحقق بأن تضمه الحاضنة إلى جناحها باعتبارها أحفظ عليه وأحرص على توجيهه، وأقدر على صيانته؛ ولأن انتزاعه منها – وهى أشفق عليه وأوفر صبرًا – مضرة به إبان هذه الفترة الدقيقة التي لا يستقل فيها بأموره. وقد وردت الآثار الصحاح بأن النساء أحق بالحضانة في هذا الدور من حياة الصغير؛ فقد روى أن امرأة احتكمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن حضانة صغيرها وقد أراد أبوه – مطلقها – أن ينزعه منها فقال لها الرسول الكريم: «أنت أحق به»؛ فلزم من ذلك أن تكون الحضانة للمحارم من النساء أولا؛ وأن تقدم قرابة الأم منهن على قرابة الأب؛ وهو ما توخاه النص المطعون فيه.

وحيث إنه ليس ثمة نص قطعي يقرر حكمًا فاصلًا في شأن ترتيب الحاضنات- بعد الأم – فيما بينهن؛ ومن ثم يكون باب الاجتهاد في هذا النطاق – عن طريق الأدلة الشرعية النقلية والعقلية – مفتوحًا، فلا يصد اجتهادُ اجتهادًا أو يكتسب عصمة من دونه؛ ولا يقابل اجتهاد على صعيد المسائل التي تنظم الأسرة بغيره إلا على ضوء أوضاعها وأعرافها، بما لا يناقض شريعة الله ومنهاجه. وقد جاء بالأثر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وجدة ابنه «عاصم» – أم أمه – تنازعًا بين يدى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه على حضانته فأعطاه إياها، وقال للفاروق: «ريحها ومسها ومسحها وريقها خير له من الشهد عندك». ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك. أما الفقهاء أصحاب المذاهب فقد اتفقوا على أن أم الأم -التي تدلى إليها مباشرة – تلي الأم في ترتيب الحاضنات. فقد قال الحنابلة بثبوت الحضانة للأم ثم أمها ثم أم أمها وهكذا ثم الأب ثم أمهاته. والشافعية على أنه إذا اجتمع الذكور مع الإناث فتقدم الأم على الأب ثم أم الأم وإن علت بشرط أن تكون وارثة ثم بعدهن الأب ثم أمه ثم أم أمه وإن علت إذا كانت وارثة. ويرى الحنفية – ومعهم المالكية – أن أحق الناس بحضانة الصغير بعد أمه أمها وإن علت. وإذ كان هذا هو ما نحاه النص الطعين؛ بما ارتآه محققًا مصلحة الصغير – وعليها مدار الحضانة – مستلهمًا بذلك مقاصد الشريعة الكلية، دائرًا في فلك الأصول العامة لها؛ فإن النعي عليه بمخالفته للمادة الثانية من الدستور يكون حريًا بالرفض .

فلهذه الأسباب:

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر                                                                   رئيس المحكمة