موقع حوارات

موقع حوارات

القانون الدولي الإنساني

تشرين1/أكتوير 24, 2023

يرجع ابتكار مُصطلح "القانون الدولي الإنساني" (International Humanitarian Law)[1] إلى الفقيه القانوني والقاضي والدبلوماسي المعروف ماكس هوبر (Max Huber)، والذي شغل كذلك منصب رئاسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر لعدة سنوات. ولم يلبث هذا المُصطلح أن ظهر حتى تم تبنيه من قبل العديد من الفُقهاء، ويكاد يكون اليوم مُصطلحًا رسميًا على الصعيد الدولي[2].

وقبل الاستقرار على مصطلح "القانون الدولي الإنساني"، فقد مر بالعديد من المسميات مثل "قانون الحرب"، "القانون الإنساني"، القواعد القانونية المُطبقة أثناء النزاع المُسلح"، "قانون النزاعات المُسلَّحة"[3]، قانون حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة أو قانون سير العمليات القتالية[4]، ولكن اسم " القانون الدولي الإنساني" هو الأكثر ذيوعًا وشهرةً الآن[5].

ونرى أن تسمية هذا القانون بالقانون الدولي الإنساني تُظهر الغاية الرئيسية أو الطابع الإنساني لهذا القانون، وهي التخفيف من المعاناة الإنسانية الناجمة عن ويلات الحروب[6]، كما أن هذه التسمية هي المعتمدة لدى المنظمات الدولية المعنية بتطبيقه، ومنها -في المقام الأول- اللجنة الدولية للصليب الأحمر[7]. ويذهب البعض إلى تفضيل استخدام تعبير القانون الإنساني الدولي، بدلاً من القانون الدولي الإنساني[8]، وذلك لقناعته بأن إنسانية الإنسان سابقة على دوليته، ويُدلل على ذلك بأن الترجمة العربية للمُصطلح الإنجليزي (International Humanitarian Law)، تعني القانون الإنساني الدولي[9].

ولقد اختلف الفقه في تحديد المقصود بمصطلح القانون الدولي الإنساني[10]، فلا يوجد حتى الآن تعريف واحد لهذا المصطلح، نظرًا للتطورات السريعة التي يمر بها، فأصبح هناك حالة من الغموض، أدت إلى حدوث خلط بين بعض التعريفات أو المفاهيم[11].

ولكن على أية حال فقد عرفه البعض بأنه: "مجموعة المبادئ والقواعد المُتَّفق عليها دوليًا، والتي تهدف إلى الحد من استخدام العنف في وقت النزاعات المُسلَّحة عن طريق حماية الأفراد المُشتركين في العمليات الحربية، أو الذين توقفوا عن المُشاركة فيها، والجرحى والأسرى والمدنيين، وكذلك عن طريق جعل العنف في المعارك العسكرية مُقتصرًا على تلك الأعمال الضرورية لتحقيق الهدف العسكري"[12].

وقد عرفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر اصطلاح القانون الدولي الإنساني بأنه: "مجموعة القواعد الدولية المستمدة من الاتفاقيات أو الأعرف الرامية على وجه التحديد إلى حل المشكلات الإنسانية الناشئة بصورة مباشرة من المنازعات المسلحة الدولية وغير الدولية، والتي تقيد لأسباب إنسانية، حق أطراف النزاع في استخدام طرق وأساليب الحرب التي تروق لها أو تحمي الأعيان والأشخاص الذين تضرروا أو قد يتضررون بسبب المنازعات المسلحة"[13].

ويمكن تعريف القانون الدولي الإنساني بأنه: "ذلك الفرع من فروع القانون الدولي العام الذي يشتمل على مجموعة القواعد القانونية الدولية اتفاقية أو عرفية التي تنظم العلاقة بين أطراف النزاع المسلح الدولي وغير ذات الطابع الدولي أو بينها وبين الأطراف المحايدة، بهدف تقييد حق أطراف النزاع في اختيار أساليب، ووسائل القتال، وكذلك حماية الأشخاص، والأموال حال تلك المنازعات المسلحة، للمحافظة على حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية وكرامته الإنسانية"[14].

ونرى أن هذا التعريف هو التعريف الأمثل للقانون الدولي الإنساني؛ لأنه يحتوي إلى حد ما على العناصر الأساسية المحددة للنطاق الزمني والشخصي والمادي للقانون الدولي الإنساني؛ فمن حيث النطاق الزمني نجد أنه يطبق على النزاعات المسلحة الدولية أو غير ذات الطابع الدولي؛ ومن حيث النطاق الشخصي فهو قانون ذو طابع إنساني يهدف إلى مراعاة الاعتبارات الإنسانية وتغليبها على الضرورات العسكرية، ومن حيث النطاق المادي أو الموضوعي للقانون الدولي الإنساني، فإن جوهر هذا القانون وغايته هو توفير الحماية القانونية للفئات غير المشاركة بصورة مباشرة في العمل العسكري[15].

وعرف الفقهاء المعاصرين القانون الدولي الإنساني في الإسلام بأنه: "مجموعة القواعد الشرعية الهادفة إلى حماية الإنسان والحفاظ على حقوقه وقت النزاع المسلح"[16].

ومن التعريف السابق للقانون الدولي الإنساني في الإسلام يمكن استخلاص أمرين بارزين في هذا القانون، هما أن الحرب يجب أن تقتصر على الضرورة فقط كمًا وكيفًا، وأن ما يقع فيها يجب أن يكون إنسانيًا؛ أي محترمًا لإنسانية أطرافها، وهاتان قاعدتان إسلاميتان؛ أما الأولى فقاعدة الضرورة، وإن من المقرر في الشريعة أن الضرورة تقدر بقدرها، وما دامت الحرب ضرورة فإنه لا يجوز بحال تجاوز هذه الضرورة، وأي تجاوز هو تعدِ واعتداء على الطرف الآخر[17].

وأما القاعدة الإنسانية فإن الأصل تكريم الإنسان قال تعالى ]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[[18]، وحرم ظلمه ]وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا[[19]، وهذا وعيد لكل ظالم، فيشمل ظلم الإنسان للإنسان أثناء القتال، وتبعًا لهذه القاعدة دعا الإسلام إلى خوض المعارك بروح إنسانية[20]، فلا يقدم المسلم على القتل إلا لسبب شرعي ] وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[[21]، وإذا تحقق السبب الشرعي وجب أن يتم القتل ضمن أفضل الطرق إنسانية[22].

وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول بأن الإسلام عرف معظم القواعد والمبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني[23]، ومن أمثلة هذه المبادئ مبدأ التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين، وأوجب حماية غير المقاتلين، كما عرف التفرقة بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية وأوجب حماية الأهداف المدنية، ويظهر ذلك جليًا من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جيش أرسله، حيث يقول لجنوده "انطلقوا بسم الله، وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا"[24]، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "انطلق إلى خالد، فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك ألا تقتل ذرية ولا عسيفًا[25]، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في معركة بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغذاء رغم حاجتهم إلى الطعام، حتى نزل قول الله تعالى[26]: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾[27]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا "غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك"[28]، كما أوصى صلى الله عليه وسلم بعدم قتل الرهبان، وعدم هدم المنازل[29]، وقد سار الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذات الاتجاه الإنساني[30]؛ إذ أوصى قائد الجيش يزيد بن أبي سفيان قائلاً: " إني موصيك بعشر فاحفظهن، إنك ستلقى أقوامًا زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله في الصوامع فذرهم وما فرغوا له، وقال: وستلقى أقوامًا قد حلقوا أوساط رؤوسهم فأفلقوها بالسيف[31]، قال ولا تقتلن مولودًا[32]، قال ولا امرأة ، قال ولا شيخًا كبيرًا، قال ولا تعقرن شجرًا بدا ثمره ولا تحرقن نخلاً ولا تقطعن كرمًا، قال ولا تذبحن بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكل"[33].

وكان عمر بن الخطاب يقول لجنده: "بسم الله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله، ولكم النصر بلزوم الحرب والصبر، قاتلوا ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجنبوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الفرسان، وعند زحمة النبضات، وفي شن الغارات، وتزهوا الجهاد عن عرض الدنيا"[34].


[1] للمزيد من التفاصيل حول مصطلح القانون الدولي الإنساني انظر: د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مركز الدراسات العربية، القاهرة، 2022م، ص77-96.

[2] د. زيدان مريبوط، مدخل إلى القانون الدولي الإنساني، المُجلَّد الثاني لحقوق الإنسان، دار العلم للملايين، بيروت، 1988م، ص100.

[3] د. أحمد أبو الوفا، النظرية العامة للقانون الدولي الإنساني في القانون الدولي وفى الشريعة الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2006م، ط1، ص3.

[4] د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص77.

[5] د. أحمد أبو الوفا، النظرية العامة للقانون الدولي الإنساني في القانون الدولي وفى الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص3.

[6] انظر: د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، حماية اللاجئين في فترات النزاعات المسلحة "دراسة نظرية تطبيقية"، مركز الدراسات العربية، القاهرة، 2022م، ص122.

[7] انظر: د. مفتاح عمر درباش، تطور مركز الفرد في القانون الدولي الإنساني، بدون ناشر، 2014م، ص33.

[8] د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص78.

[9] هشام محمد بشير محمد الصادق، حماية البيئة في ضوء أحكام القانون الدولي الإنساني "دراسة نظرية مع التطبيق على حالتي العراق ولبنان"، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2010م، ص56.

[10] للمزيد من التفصيل حول تعريف القانون الدولي الإنساني انظر: د. محمود شريف بسيوني، القانون الدولي الإنساني "مؤلف جماعي"، تقديم: د. أحمد فتحي سرور، دار المستقبل العربي، القاهرة، 2003م، ص83؛ هشام محمد بشير محمد الصادق، حماية البيئة في ضوء أحكام القانون الدولي الإنساني "دراسة نظرية مع التطبيق على حالتي العراق ولبنان"، مرجع سابق، ص56-61؛ د. أحمد أبو الوفا، النظرية العامة للقانون الدولي الإنساني في القانون الدولي وفي الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص3؛ د. فيصل شطناوي، حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، دار الحامد، عمان، 2001م، ص190؛ د. جميل محمد حسين، المقدمة في القانون الإنساني الدولي، كلية الحقوق، جامعة بنها، 2010م، ص3 وما بعدها؛ د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص77-96.

وباللغة الإنجليزية راجع:

  • Jean Pictet, The Principles of International Humanitarian Law, International Committee of Red Cross, Geneva, 1975, P2.
  • Vincent Chetail, The Contribution of The International Court of Justice To International Humanitarian Law, International Review of The Red Cross, Vol. 85, 2003.

[11] انظر: د. محمد سعد صالح، دروس في القانون الدولي الإنساني، بدون ناشر، 2013م، ص10.

[12] د. محمد نور فرحات، القانون الدولي الإنساني لحقوق الإنسان "جوانب الوحدة والتمييز"، بحث مُقدَم إلى المؤتمر الإقليمي العربي بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لاتفاقيات جنيف للقانون الدولي الإنساني 1949-1999م، القاهرة في الفترة ما بين 14-16 نوفمبر 1999م، ص1؛ نزار أيوب، القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، سلسلة دراسات قانونية، رام الله، فلسطين، 2006م، ص6.

[13] ورد هذا التعريف في: د. عبد الغني محمود، القانون الدولي الإنساني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1991م، ط1، ص9؛ المجلة الدولية للصليب الأحمر، مقال بعنوان: "إجراءات اللجنة الدولية للصليب الأحمر في حالات انتهاك القانون الدولي الإنساني"، ع: 728، أبريل 1981م، ص79.

[14] د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص84.

[15] للمزيد من التفصيل عن العناصر التي يحتوي عليه مفهوم القانون الدولي الإنساني انظر: د. مفتاح عمر درباش، تطور مركز الفرد في القانون الدولي الإنساني، مرجع سابق، ص37-38؛ د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص84.

[16] انظر: د. زيد بن عبد الكريم الزيد، مقدمة في القانون الدولي الإنساني في الإسلام،  اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 1425ه، ص25.

[17] المرجع السابق، ص25-26.

[18] سورة الإسراء، الآية رقم ۷۰.

[19] سورة الفرقان الآية رقم ۱۹.

[20] انظر: إحسان الهندي، الإسلام والقانون الدولي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، سوريا، ۱۹۸۹م، ط1، ص۱۳۷.

[21] سورة الأنعام، الآية رقم ١٥١.

[22] د. زيد بن عبد الكريم الزيد، مقدمة في القانون الدولي الإنساني في الإسلام، مرجع سابق، ص26.

[23] المرجع السابق، ص104-106.

[24] عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، المصنف, كتاب الجهاد، ج: 7، دار الفكر، 1414هـ/ 1994م، ص654.

[25] أحمد بن علي محمد الكناني العسقلاني، التلخيص الحبير، ج: 4، كتاب السير "باب كيفية الجهاد"، مؤسسة قرطبة، 1416هـ/ 1995م، ط1، ص193.

[26] د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص104-105.

[27] الآية 8-9 من سورة الإنسان.

[28] انظر: محمد بن مصلح الدين مصطفى القوجوي الحنفي المتوفي سنة 951هـ، حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي المتوفي سنة 685هـ، ج8، ضبطه وصححه وخرج آياته: محمد عبد القادر شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1419هـ/ 1999م، ط1، ص436؛ العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري 467-538هـ، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج6، تحقيق وتعليق ودراسة: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض ود. فتحي عبد الرحمن أحمد حجازي، مكتبة العبيكان، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ط1، ص277.

[29] N. M. Wasfi, The Great Battales of Islam, AL- Azhar Magazine,Vol. 69, Part. II, Safar 1417 H/ June-July 1996, P.297.

[30] جمعة شحود شباط، حماية المدنيين والأعيان المدنية وقت الحرب، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، القاهرة، 1424هـ/ 2003م ، ص83-84.

[31] المراد الشمامسة، فمنهم أئمة الكفر إذ يحثون الناس على القتال.

[32] المراد هو الصبي، لأن ما من أحد إلا وهو مولود.

[33] انظر: محمد بن أحمد السرخسي، شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، ج1، معهد المخطوطات، جامعة الدول العربية، 1971م، ص40-44.

[34] انظر: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت276هـ/889م، عيون الأخبار، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1418هـ، ط1، ص185؛ أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن أبي زمنين ت399هـ/ 1008م، قدوة الغازي، دراسة: عائشة السليماني, دار الغرب الإسلامي, بيروت, لبنان، 1989م، ص166.

مشار إليه في: د. إبراهيم عبد ربه إبراهيم، القانون الدولي للاجئين وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني "دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص105-106.

 لقد شهدت البشرية –ولا تزال- العديد من الجرائم الدولية التي يرتكبها البشر، سواء أكان ذلك في وقت السلم أم في وقت النزاعات المسلحة، وتأتي "جرائم إبادة الجنس البشري" على قمة الجرائم من حيث الخطورة والنتائج الوخيمة[1].

ويطلق على جرائم إبادة الجنس البشري اسم "جرائم الإبادة الجماعية"، وفي الحقيقة ما هي إلا تسميات مختلفة لمسمى واحد[2]، ويُذكر أن مصطلح "إبادة الأجناس" (Genocide)[3] مشتق من الكلمة اللاتينية (Genus)، وتعني الجماعة، ومن الكلمة اللاتينية (Cide)، ومعناها يقتل، ونتاجًا لذلك يعني المصطلح قتل أو تدمير الجماعة[4]، ويرجع الفضل في تسميتها بهذا الاسم إلى محامي يهودي بولندي "رفائيل ليمكين" الذي عمل مستشارًا للولايات المتحدة الأمريكية لشؤون الحرب في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد أبيدت أسرته التي وقعت في الأسر من قبل النازيين[5].

وأكدت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في قرارها رقم 96 في 11 ديسمبر 1946م، على أن جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة دولية، يستهجنها المجتمع المتحضر، ويجب معاقبة مرتكبيها سواء كانوا فاعلين أصليين أم شركاء وبصرف النظر عن صفتهم حكامًا أم أفرادًا عاديين، وسواء قاموا بارتكابها على أسس تتعلق بالدين أم بالسياسة أم بالجنس[6].

وتوصف جريمة الإبادة الجماعية Genocide Crime بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها جريمة الجرائم[7]، فهي تمس أغلى ما يمتلكه الإنسان وهو الحق في الحياة، ولذا فقد صدرت العديد من القرارات الدولية التي تجرم أفعال الإبادة الجماعية منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة[8]، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى حقيقة مهمة مفادها أن الصراعات الدولية والإقليمية لم تخلو من تجاوزات تضمنت أمثلة صارخة على اقتراف هذه الجريمة، ومن أمثلة هذه النزاعات المسلحة تلك التي حدثت في أمريكا إبادة الهنود الحمر، وفي البلقان في البوسنة وكوسوفو تحددًا، وفي رواندا[9].

وتعرف الإبادة الجماعية بأنها "التدمير المتعمد سواء الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عنصرية أو عرقية أو دينية"[10]، وعرفتها المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية "بأنها أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه؛ إهلاكًا كليًا أو جزئيًا[11]:

  • قتل أفراد الجماعة.
  • إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
  • إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا.
  • فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
  • نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخري[12].

ويظهر من خلال استعراض هذا الّنص، وفي ضوء الخلفية التاريخية لهذه الجريمة، لا سيما الجرائم المرتكبة في "البوسنة" و "الهرسك" ضد المسلمين[13]، أن هذه الجريمة يمكن أن ترتكب في وقت الحرب والسلم، وبذلك عدّ النظام الأساسي للمحكمة الأعمال التي ترمي إلى إبادة الجنس البشري، جريمة دولية توجب معاقبة مرتكبيها بغض النظر عن زمن ارتكابها[14].

ووفق نظام المحكمة الجنائية تتميز هذه الجريمة بأنها ذات طبيعة دولية؛ والطبيعة الدولية لهذه الجريمة لا تعنى بالضرورة ارتكابها من مواطني دولة ضد دولة أخرى، ولكن قد تقع داخل الدولة الواحدة شرط أن تتحقق في أفعالها طبيعة الركن المادي لأفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية ونظام المحكمة الجنائية الدولية[15]، كما أن المسئولية المترتبة عليها هي مسئولية مزدوجة تقع تبعتها على الدولة من جهة، وعلى الأشخاص الطبيعيين مرتكبي الجريمة من جهة أخرى[16].

وعن موقف الشريعة الإسلامية نجد أنها حرمت أي فعل من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ولعل ذلك واضحًا في التصوير القرآني لجريمة الإبادة الجماعية؛ حيث قدم مثالًا واضحًا عن هذه الجريمة، وهي جريمة أصحاب الأخدود، والتي تم ذكرها في سورة البروج؛ حيث توعد الله سبحانه وتعالى القائمين على هذه الجريمة، بقوله جل وعلا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج: الآية 10] [17].

ويشير القرآن الكريم أيضًا إلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمة، وهي أن قتل أي إنسان، إن لم يكن قصاصًا لقتل إنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه، كما أن إنقاذ إنسان من الموت يعد بمثابة إنقاذ للإنسانية كلها من الفناء، ووردت الكثير من الأحاديث النبوية التي تحرم القتل، وإبادة الجنس البشري، وكذلك أجمع فقهاء المسلمين على حرمة إهلاك النسل والحرث[18].

فقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية ترفض رفضًا قاطعًا قتل أي إنسان دون وجه حق، ومن ثم فهي لا تقر بجريمة إبادة الجنس البشري، وتنظر إلى المدنيين أي غير المقاتلين بعين الرأفة والرحمة.


 [1] انظر: أيمن عبد العزيز محمد سلامة، المسئولية الدولية عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 1426هــ/ 2005م، ص1.

[2] انظر: نوزاد أحمد ياسين الشواني، الاختصاص القضائي في جريمة الإبادة الجماعية، المؤسسة الحديثة للكتاب، بيروت، 2012م، ط1، ص34؛ نبيل أحمد حلمي، جريمة إبادة الجنس البشري في القانون الدولي العام، منشأة المعارف، الإسكندرية، بدون سنة نشر، ط1، ص17.

[3] Webster Comprehensive Dictionary, International Edition, 1977, P.527.

[4] أيمن عبد العزيز محمد سلامة، المسئولية الدولية عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، مرجع سابق، ص21..

[5] انظر: ناظر أحمد منديل، جريمة إبادة الجنس البشري، رسالة ماجستير، كلية القانون، جامعة بغداد، 2000م، ص3.

[6] انظر: محمد منصور الصاوي، أحكام القانون الدولي المتعلقة بمكافحة الجرائم ذات الطبيعة الدولية، دار المطبوعات الجامعية، مصر، 1984م، ص235.

[7] نسرين عبد الحميد نبيه، الجرائم الدولية والانتربول، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2011م، ص64.

[8] انظر: إبراهيم عبد ربه إبراهيم علي، مدى فعالية دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة جرائم الإرهاب الدولي، مجلة الدراسات الفقهية والقانونية، المعهد العالي للقضاء، سلطنة عُمان، ع: 1، يناير 2019م، ص97.

[9] انظر: د. عبد الفتاح بيومي حجازي، المحكمة الجنائية الدولية "دراسة متخصصة في القانون الجنائي الدولي"، دار الفكر الجامعي، جمهورية مصر العربية، 2004م، ص313-314.

[10] راجع نص المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.

[11] نص المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

[12] إبراهيم عبدربه إبراهيم علي، مدى فعالية دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة جرائم الإرهاب الدولي، مرجع سابق، ص98.

[13] للمزيد من التفاصيل حول الجرائم المرتكبة في البوسنة والهرسك ومتابعة المسئولين عنها راجع: حسام على عبد الخالق الشيخة "المسئولية والعقاب على جرائم الحرب"، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2004م، ص489 وما بعدها.

[14] علي يوسف الشكري، القضاء الجنائي الدولي في عالم متغير، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2011م، ص138.

[15] عبد الفتاح بيومي حجازي، قواعد أساسية في نظام محكمة الجزاء الدولية، دار الكتب القانونية، 2008، ص31.

[16] عبد الواحد الفار، أسرى الحرب، عالم الكتب، القاهرة، 1975م، ص208؛ إبراهيم عبدربه إبراهيم علي، مدى فعالية دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة جرائم الإرهاب الدولي، مرجع سابق، ص98.

[17] انظر: عبد المهدي جاسم محمد الخفاجي، الانحراف عن أحكام وقواعد الحرب في الشريعة الإسلامية "الإبادة الجماعية أنموذجًا"، رسالة ماجستير، كلية العلوم الإسلامية، جامعة كربلاء، العراق، 1437هــ/ 2016م،  ص128-133.

[18] المرجع السابق، ص132.

 

أجري الدكتور “عبد الرزاق بلعقروز” رئيس تحرير مجلة “نماء” حوارًا مع الأستاذ الدكتور وائل حلاق… حول منهجه في النظر الفكري ومنظومة مفاهيمه، وأبعاد مشروعه الأبستمولوجية والأخلاقية، وذلك ضمن أعمال “دورية نماء” بالعددين 6 و7، ربيع وصيف 2018م.

ودار الحوار حول نقاط أساسية، منها:

  • تعدد المفهومية والشخصيات والمناهج في نصوص “وائل حلاق” عبر كتبه.
  • بناء التراث الإسلامي من خلال منهج وطريقة جديدة له، وفهم مقولة الشريعة.
  • القيم الأخلاقية في الفكر العربي وتقييم “وائل حلاق” للجهود التي تسائل الأخلاق.

وكان من أهم الأسئلة التي طرحها المحاور على د. وائل حلاق:

  • طبيعة التكوين المعرفي الذي ميز د. وائل حلاق بالتعددية سواء كانت مفهومية أم شخصية أم منهجية، وحقيقة التشابكات المعرفية (مفهومية ومنهجية) التي تطبع نصوصه ومؤلفاته؟
  • مدي صدقية أن الغرض من نصوصه هو إعادة بناء منهج جديد في التراث الإسلامي، من خلال إعادة بناء وفهم مقولة الشريعة، وما هي الدعامات المنهجية التي يمكن الارتكاز عليها لأجل فهم التراث في سياق منهجيات سائدة تسلك المسلك الاستشراقي في هذا الأمر؟
  • مدي مناسبة القول بأن مقالاته التي تنحو المنحى الأخلاقي، أو تراهن على مركزية “النطاق المركزي الأخلاقي” لصلاح حال الإنسان، هي انعكاس لعودة السؤال الأخلاقي في الفكر الإنساني المعاصر؟  

وننشر نص الحوار كاملًا على الوجه الآتي:

نماء: الناظر في نصوص وائل حلاق عبر كتبه، يرى بأن ثمة تعددية مفهومية مثل: النموذج والنّطاق المركزي والنظام المعرفي وأيضًا تعددية منهجية مثل: الفيلولوجيا والجينيالوجيا… فضلًا عن تعددية الشخصيات المفهومية: كارل شميث، وجورجيو أغامبين وطه عبد الرحمن، ما هي طبيعة التكوين المعرفي الذي ميزكم بهذه التعددية وحقيقة التشابكات المعرفية (مفهومية ومنهجية) التي تطبع نصوصكم؟

وائل حلاق: بشكل عام، أجد أنه من الصعب جدًا الإجابة على هذا النوع من الأسئلة. هذا لأن التكوين الفكري لا يكون أبدًا شيئًا متعمدًا أو مقصودًا. ولا يسبق مستويات وعي المرء بقيمته الذاتية. فالباحثون والمثقفون يختارون المنهجيات والنظريات التي تناسب أفكارهم أثناء تطويرها. ولذا فإن توصيف التكوين الفكري للفرد هو بالضرورة مسألة تتعلق بما بعد الحدث (بُعد ميتافيزيقي)، وتحليلٌ بعد الفعل. وبالتالي فإن النظر إلى عمل المرء نفسه، بمعنى ما، يبدو مثل النظر إلى عمل الآخرين. وعلى هذا النحو، فربما يمكن الإجابة على هذا السؤال من قبل الآخرين بقدر ما يمكنني الإجابة عليه، إن لم يكن أفضل. لكنك سألتني، وسأحاول الإجابة عليه.

 أرى أن اختيار المرء اتباع مسار منهجي أو نظري معين ليس اختيارًا حرًا تمامًا. إنه اختيار يقوم به المرء لكن ضمن قيود معينة. لكن ما هي هذه القيود؟ أعتقد أن القيد الرئيسي الأول هو الموقف الذي يتخذه المرء. أنا لا أدعي أن لدي تفسير لماذا يتخذ أحد المثقفين موقفًا معينًا بينما يتخذ الآخر موقفًا مغايرًا. ولا أعتقد أن أحدًا لديه إجابة على هذا السؤال فضلًا. عن إجابة شاملة بأي حال لماذا دافع ماركس عن نظرياته؟ لماذا دافع فوكو عن النظريات التي ناصرها؟ في بعض الأحيان نعزو هذه الاتجاهات والنزوعات الفكرية إلى التربية وخبرات الطفولة، والخبرات الحياتية، ولكن لا شيء يمكن أن يفسر بشكل مقنع لماذا يصبح الناس مفكرين وباحثين بالطريقة التي هم عليها. لذلك لن أستفيض في الحديث عن هذه المشكلة، لكنني سأفترض أننا نتخذ المواقف لسبب أو لآخر، أو على الأرجح، لمجموعة معينة من الأسباب أو غيرها.

بالنسبة لي، بدأت الأمور معي عندما تخصصت في الشريعة، وقضيت عدة سنوات في دراستها. أول شيء لاحظته هو أنني عندما قرأت مصادر الفقه وأصول الفقه وجدت فجوة بين الدروس التي استخلصتها من هذه المصادر وما قاله الاستشراق عنها. لقد بدأت من الموقف الأصلي القائل بأنه يلزم إجراء تصحيح. لكن بعد بضع سنوات، أدركت أن سوء الفهم وسوء التأويل ليسا من قبيل الصدفة أو الاستثناء؛ بل إنهما يمثلان مشكلة أعمق في الطريقة التي يرى بها باحثو أوروبا وأمريكا العالم ويفسرونه. بمعنى آخر لم تكن الشريعة هي المشكلة بل الطريقة التي قرأها بها قراؤها الغربيون. كحقل دراسي، فإن الشريعة، بالنسبة لي، أبرزت هذه المشكلة. لقد كانت سياقًا غنيًا ظهر فيه التحيزات الغربية بوضوح شديد. لكن في وقت لاحق من مسيرتي المهنية، بدأت أدرك أن مشكلة القراءة الخاطئة للشريعة هي أعمق من ذلك بكثير، فهي تعود إلى البنية الأساسية للمشروع الحديث. 

وهنا، في هذه المرحلة، بدأت أبحث عن أطروحات نقدية مختلفة للحداثة يمكن المشكلة هو أن تساعدني في فهم ما يحدث. ولكن بعد أن أمضيت سنوات عديدة في قراءة هذه الأطروحات النقدية، فإن ما وجدته مذهلًا حقًا هو أن شكوكي وظنوني الأولية حول مشكلات الحداثة وأنماطها المعرفية لم يتم تأكيدها فحسب: لقد توصلت إلى خلاصة مفادها أن دراسة الشريعة يمكن أن تساعد في الواقع على فهم المشكلات التي اجتاحت المشروع الحديث. بعبارة أخرى، لم تكن دراسات الشريعة التي أجريتها دراسات تاريخية فحسب بل صارت الشريعة نفسها -باعتبارها نسقًا فعالًا بمنطقها الداخلي ومجتمعها الخاص- مصدرًا لنقدي للحداثة. وبما أن مجال الشريعة هو في الواقع مجال واسع يتسع لأن تصبح الشريعة مجالًا للثقافة كان هناك العديد من الجوانب التي يتعين دراستها. يمكن للمرء التركيز على أنماط العقلانية مقارنة بالحداثة، وهنا يصبح عمل مدرسة فرانكفورت، وكانط، ومنتقديه وطه عبد الرحمن، وغيرهم مفيدًا للغاية. يمكن التركيز كذلك على أبعادها السياسية واستخدام ذلك من أجل نقد مثمر للفكر السياسي الحديث والسياسة، بما في ذلك الدولة. هنا بالطبع أثبتت أعمال شميت وأغامبين وآخرين أنها مثمرة للغاية. ثمة مثال آخر هو نقد الحداثة ودراسة الشريعة من منظور الدستورانية (Constitutionalism)، وهو موضوع الكتاب الذي أعمل عليه الآن. الجدير بالملاحظة هنا هو أن القرآن والشريعة في مشروعي هما مصدران للنقد كما هو الحال مع النقد الغربي للدستورانية الغربية. إن دراسة هذه المجالات الإسلامية لا يقتصر على كشف تاریخها فحسب، بل أيضًا على شحذ نظام نقدي من خلال دراسة منطقها. ولكن يمكن للمرء أن يفعل أكثر من ذلك مع مثل هذه الدراسات. يمكن لدراسة الإسلام بشكل عام، ودراسة القرآن والشريعة على وجه الخصوص، إثراء وتعديل وصقل نظريات العديد من الفلسفات النقدية المنتجة في الغرب. فعلى سبيل المثال، يمكن للمرء استخدام فوكو بطرائق مفيدة جدًا في تطوير ملكة التفكير النقدي، ولكن يمكن للمرء أيضًا أن يُخضع عمل فوكو للنقد كجزء من الحداثة، وعلى أساس معرفة الشخص بالشريعة، وما إلى ذلك. هذا ما فعلته على سبيل المثال، في كتابي الذي نشر مؤخرا، بعنوان «قصور الاستشراق (Restate Orientalism) (من المتوقع صدور الترجمة العربية في هذا العام). في هذا العمل، وجدت أنه من الضروري تعديل وتعميم مفهوم «حالة الاستثناء» عند أغامبين، الذي هو بالفعل تعديل لمفهوم شميت.

نماء: الناظر في نصُوصكم يجد أن الغرض الرئيس هو إعادة بناء منهج جديد في قراءة التراث الإسلامي من خلال إعادة بناء وفهم مقولة الشريعة، فإلى أي مدى يمكن الإقرار بهذه الحقيقة؟ وما هي الدعامات المنهجية التي يمكن الارتكاز عليها لأجل فهم التراث في سياق منهجيات سائدة تسلك المسلك الاستشراقي في هذا الأمر؟

وائل حلاق: أعتقد أنه من الواضح الآن أن مشروعي يبدأ بالشريعة، وكما قلت، ويستخدمها كأساس لنقد الحداثة. أرى أنك محق في وصف المشروع بأنه محاولة لإعادة بناء التراث عن طريق تقديم قراءة جديدة له. ولكن قبل أن أشرح كيف أريد المضي قدمًا في هذا المشروع، يجب أن أوضح نقطة مركزية هنا: ألا وهي أن مفهوم الشريعة الذي أطرحه يجب أن يفهم على أنه يتضمن العديد من الأشياء بخلاف مفهوم القانون. كما أوضحت في كتابي “الشريعة: النظرية، والممارسة والتحولات” (۲۰۰۹)، فمن الإشكالي جدًا رؤية الشريعة كقانون بأي معنى حديث للمصطلح. الشريعة هي بالتأكيد “قانونية” مثل أي نظام حديث، ولكنها أكثر من ذلك بكثير، سواء في مضمونها ومنهجيتها، من جهة، وفي تصوراتها للواقع، من جهة أخرى، لكن عبارة “أكثر من ذلك بكثير”، لا تعني أن الشريعة تتشارك مع الأنظمة الحديثة في بعض السمات وبالتالي يمكن مقارنتها بها بسبب هذا التشابه، وبمعزل عن الاختلافات. هذا خطأ. إن اهتمام الشريعة الواسع بالذات كذات بشرية يمنحها سمات إضافية وهو ما يجعلها مختلفة تمامًا عن القانون الحديث. وأعتقد أنها أفضل من القانون الحديث. وبالتالي، فإن هذه الإضافة، هذا البعد الإضافي، ليست إضافة كمية يمكن أخذها بعين الاعتبار أو صرفها متى شئنا، بل إنها بالأحرى إضافة نوعية تغير حتى ما يعنيه “القانون” في الإسلام.

في حين أن القانون الحديث هو انضباط تقني أو عملي يتناول الإنسان من الخارج (لأنه من اختلاق الدولة)، فإن الشريعة هي انضباط خارجي وداخلي في آن واحد. أود القول بأن الشريعة هي أولًا نظام داخلي واستدخالي، وثانيًا نظام خارجي من الإلزام والانضباط. ثمة طريقتان على الأقل يمكن من خلالهما تكوين الذات: الأولى هي الطريقة القديمة التي تحدث عنها أرسطو والغزالي وفوكو، وهي التقنيات الأخلاقية للذات، وهناك طريقة جديدة وصفها ألثوسير على نحو نموذجي. الاختلافات بين التقنيتين كثيرة، لكن ثمة اختلافان جديران بالملاحظة. الاختلاف الأول هو أن جهاز الدولة الأيديولوجي الذي وصفه ألثوسير يرتكز على أنماط الإنتاج الرأسمالية وعلى مفهوم الإدارة السياسية المتمركز حول الدولة. هذا التكوين، كما جادلت في كتاب “الدولة المستحيلة”، يصر على الفصل بين الأخلاقي والقانوني والأخلاقي والسياسي والأخلاقي والاقتصادي، والأخلاقي والعلمي بعبارة أخرى، لا يهتم هذا النمط من تكوين الذاتية بالأخلاق باعتبارها الشاغل المركزي له. أما الاختلاف الثاني فهو أن مفهوم أرسطو والغزالي وفوكو يحول دون تدخل کیان خارجي تملي شروط تكوين الذاتية بوعي وعن عمد وعلى نحو سياسي وأيديولوجي، بل إنه يستند إلى أفراد بذوات غير مسبوقة، أي إن نطاقه وعمقه يختلفان من شخص إلى آخر. إن الفرد هو الحَكَم الوحيد والأخير فيما إذا كان يجب أن يشارك في سيرورة التكوين الذاتي أم لا، وتحديد إلى أي درجة يتم إجراء هذه المشاركة. وإنه لأمر جوهري أن تكون هذه التقنية سيرورة يعمل فيها المرء على ذاته، فهي تخلق ساحة مستقلة ونسبية للمنافسة.

أعتقد أن هذين الاختلافين بميزان الشريعة عن المفاهيم الحديثة للقانون بطرائق عميقة ومهمة. ولكن هناك في الشريعة ما هو أكثر من هذه الاختلافات الشريعة، كما أعرفها، هي تصوف أيضًا، أي إنه عندما أستخدم مصطلح “الشريعة” (كمصطلح عام وبدون مرجعية محددة)، فما أعنيه ليس فقط أصول الفقه، والفقه والشروح والحواشي، والمدرسة، والوقف والممارسات الاجتماعية-الاقتصادية، وما شابه ذلك، ولكن أيضا الطرق الصوفية لرؤية ومكابدة العالم. الشريعة معنية كذلك بالأدب والفلك والرياضيات وغير ذلك الكثير. إن ارتباطها بالصوفية يجعلها مشروعًا نفسيًا-صوفيًا، وارتباطها بالفلك والرياضيات يجعلها علمية وارتباطها بالأدب يجعلها إنسانية، وهكذا. كل هذا متضمن في الشريعة عندما أستخدم المصطلح بطريقة غير محدّدة، مثلما أتحدث عنها الآن أثناء الإجابة على سؤالك المهم.

إذا أدركنا أن الشريعة كانت مهتمة بنوع من الذات استعصى فهمها على القانون الحديث ولا الدولة الحديثة حتى الآن، فإن لدينا هنا مجال استثنائي من المعرفة يمكن أن يساعدنا في تطوير نقد للحداثة من خارج الحداثة نفسها. الشريعة لديها الكثير لتقدمه كنظرية ومنهج، لكن اسمحوا لي أن أؤكد سريعًا لمصلحة إخواننا وأخواتنا الليبراليين والمتلبرلين الذين لا يستطيعون رؤية أي شيء في عالمنا الكبير هذا غير الغرب وليبراليته: أن الشريعة ليست مجرد مجموعة من القواعد التي يرى العديد من “الليبراليين التقدميين” أنها غير متوافقة مع الحساسيات «الحديثة» و«المتطورة» التفكير في الشريعة من هذه الناحية هو مثل رمي كتاب نفيس في سلة المهملات لأن غلافه قديم ومهترئ. هذا تفكير ضحل في رأيي. إن الشريعة -كما عرفتها- تتناول الكائن البشري من منظور ينشغل بإنسانيته/ إنسانيتها، كعضو في مجتمع ما لديه احتياجاته الخاصة، أو من حيث كونه ضعيفًا وغير معصوم، أو ككائن اجتماعي يكون موقعه الاجتماعي المشترك أكثر أهمية من أي اعتبار آخر. بعبارة أخرى، تعمل الشريعة لصالح المجتمع ومن خلال المجتمع. وعلى النقيض من ذلك، لا تحافظ الدولة الحديثة على التماسك الاجتماعي رغم أنها تدعي ذلك ولا تهتم بالحفاظ على استقامة المجتمع الأخلاقي، بل على الضد تمامًا، فهي تواصل إعادة تشكيل المجتمع والأسرة. وإعادة هندستهم بصورة مستمرة. لقد وصلنا الآن إلى مرحلة أن الأسرة تعاني من أزمات شديدة. ففي الغرب، تتلاشى الأسرة ببطء ولكن بثبات، وهذا سيؤثر حتمًا في العديد من المجتمعات الأخرى، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية.

ولكن اسمحوا لي أن أوضح مسألة أخرى ذات صلة هنا. إن توظيف الشريعة في مشروعي لا يفترض إعادة بنائها كفاية أو مرحلة أولى. فإعادة بناء نظام يتبنى مبادئ الشريعة يأتي في المرحلة الثانية في ترتيب أولوياتي، فهو شاغل ثانوي أهتم به لاحقًا. ما هو مهم كخطوة أولى، هو توظيف الشريعة كأداة نقدية، وكنظرية نقدية. ولأن الشريعة تقدم مجموعة من القيم التي تظل مهمة، حتى فيما نسميه العصر ما بعد الحديث، ولأنه يجري تهميشها؛ فهي حقل رئيسي يمكن من خلاله استخلاص نظرية عمل تستطيع أن تقدم نقدًا للممارسات الحديثة. وهنا اسمحوا لي أن أؤكد على القاعدة الأولى بشأن النقد: أن النقد الأصيل والحقيقي يجب أن يأتي مــن خـــارج النظام أو الظاهرة التي يجري نقدها. ولا يمكن أن ينبع من داخل النظام، ولا من منطقه، أو من تصوره، لأن أي حل يأتي من نفس النظام الإبيستمولوجي الذي أنتج المشكلة سيفشل ببساطة، وسيؤدي بالتأكيد إلى مشكلة أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية. ويمكن للشريعة أن توفر هذه النزعة الخارجانية (Externality)، هذه الموضوعية؛ لأنها صارت دخيلًا خارجًا، ولكنها دخيل لديه كلمة الفصل في طرائق تفكيرنا ومعيشتنا. وبمجرد طرح هذا النقد، وبمجرد أن تبدأ طرائقنا في التغيير، ربما ترغب في التفكير في كيفية إعادة بناء شكل من أشكال الشريعة يتناسب مع الحقائق والوقائع التي نواجهها. في الوقت الحالي، الشريعة ليست مجرد «نظام قانوني»، ولا مجرد وسيلة للمسلم لكي يخوض بها غمار الحياة. إن الشريعة، في الواقع، هي تجسيد للنقد.

نماء: هل يمكن القول بأن مقالتكم التي تنحو المنحى الأخلاقي، أو تراهن على مركزية «النّطاق المركزي الأخلاقي» لصلاح حال الإنسان هي انعكاس لعودة السؤال الأخلاقي في الفكر الإنساني المعاصر؟ حيث أن الاتجاه إلى تخليق العالم بات همًا إنسانيًا مشتركًا؟

وائل حلاق: الإجابة المختصرة على سؤالك هي «نعم». أعتقد أنه لا مناص من حتمية الأخلاق والطرائق الأخلاقية للتفكير في العالم. اسمحوا لي أن ألخص المسألة وأُبسط المشكلة التي نواجهها: لطالما كان تاريخ البشرية معقدًا وعنيفًا ومليئًا بالبؤس والشقاء. لا أعتقد أن أي شخص يمكن أن يُشكك في ذلك. لكن الحداثة جاءت لتكثيف كل هذا. فإذا فكر المرء بوضوح وبفكر متفتح حول “مرحلتنا” في التاريخ، نجد أن الحداثة لـم تقدم لنا سوى فائدة واحدة، وإنجاز رئيسي واحد، ألا وهو الوفرة المادية والثروات الدنيوية، وأشكال فوقانية من المعيشة المادية. يمكننا اليوم الوصول إلى المزيد من الأشياء المادية ووسائل الراحة الناتجة عنها أكثر من أي فترة أخرى في تاريخ البشرية. لكنني لا أستطيع التفكير في أي جانب آخر للحداثة يمكن أن يكون إيجابيًا بشكل واضح. لقد دمرت الحداثة البيئة الطبيعية والنسيج الاجتماعي للمجتمع والأسرة، وسلبت الذات قوتها. بوسعنا الآن أن نتحدث عن إجماع علمي بشأن قضايا المناخ والأزمات البيئية. يتجلى ذلك في الخراب الإيكولوجي الهائل، وارتكاب فظائع استعمارية وإمبريالية ساحقة، وتجريد الآخر من الإنسانية (حيونة الإنسان)، وأشكال غير مسبوقة من العنف السياسي والاجتماعي، وإبادة جماعية من كل الأنواع، وبناء هويات سياسية قاتلة ومشوهة، وتسمم الطعام والماء. وإبادة أعداد ضخمة من الكائنات الحية، والتهديدات الصحية المقلقة بشكل متزايد، والتفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء، والانحلال الاجتماعي والمجتمعي، وصعود الفردانية النرجسية السيادية، والزيادة الدراماتيكية في الأمراض الاجتماعية الفردية والجماعية والانتشار الخطير لاضطرابات الصحة النفسية والعقلية، وانتشار وباء الانتحار، وغير ذلك الكثير. لقد أثبتت الحداثة أنها عنيفة تجاه كل شيء تلمسه. وكما يعلم الجميع، فإن القرن العشرين وحده قد تسبب في موت ودمار أكثر مما حدث خلال الألفي سنة التي تسبقه

لذا فالحداثة هي استثناء للقاعدة العامة للتاريخ البشري. إنها قطيعة مع كل ما سبقها. وإذا كنت تتساءل ما هو مصدر أو سبب هذا الانحراف أو التشظي الجذري، فإن المرء يجد صعوبة في العثور على أي شيء آخر سوى ظاهرة واحدة: فصل أوروبا بين الحقيقة والقيمة، “بين ما هو كائن” (ls) و«ما ينبغي أن يكون» (Ought). وقد شرحت ذلك في كتابّي (الدولة المستحيلة، وقصور الاستشراق) ولن أكرر هذا الشرح هنا. لكن من المهم أن ندرك أن هذا الفصل يتعلق بالأخلاق. نحن بحاجة إلى استعادة هذا الارتباط، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لنا لاستعادة إنسانيتنا ومكاننا الصحيح في العالم. نحن في ظل الحداثة، دمرنا كل شيء من حولنا، لأننا لم نعد نحترم أي شيء آخر غير القوة والثروة. إن ارتباطنا بالطبيعة، واهتمامنا بها، هو ارتباط مرضي، ونحن بحاجة إلى علاج هذه المشكلة بسرعة. إذ ليس من المنطقي أن نتمكن من تدمير حوالي ١٥٠ نوعًا من الكائنات الحية كل يوم. هذه الحقيقة وحدها يجب أن تجعلنا نتوقف ونفكر. إنه أمـر صــادم، على أقل تقدير. ثمة شيء خطأ فينا بالأساس. نحن بحاجة إلى تغيير، نحن بحاجة إلى إظهار الاحترام للحيوات الأخرى على كوكب الأرض، ولبعضنا البعض. لا أستطيع التفكير في أي شيء آخر غير الأخلاق التي يمكن أن تتدخل وتصحح هذا الوضع. لقد أكد طه عبد الرحمن أن الأخلاق هي ماهية الإنسانية. وأنا أقول، نحن لا شيء بدون أخلاق. بدون الأخلاق، تكون الحيوانات أفضل منا (وأنا لا أقصد هنـا الحـط مـن قيمة الحيوانات، فهي في الواقع لم تفعل شيئًا خاطئًا).

نماء: تتبنى مجلة نماء منظور التكاملية المعرفية والتركيبية المنهجية بين علوم الوحي والعلوم الإنسانية، وإذا كانت المقالة الأخلاقية في نصوصكم هي جوهرة التاج أو الملمح الجوهري في المشروع؟ فكيف ترى المقالة الأخلاقية التي يتبناها وائل حلاق قضية العلاقة بين علوم الوحي والعلوم الإنسانية؟

وائل حلاق: هذا سؤال في غاية الأهمية، والإجابة المختصرة عليه هي: أن الإنسانوية نوعان على الأقل، نوع علماني وآخر ديني من الخطأ الاعتقاد بأن الإنسانوية هي نطاق العالم العلماني وحده. لكن ثمة فارق كبير بين الإنسانوية الدينية والإنسانوية العلمانية. فالإنسانوية العلمانية تجعل من الإنسان القيمة الوحيدة في العالم وتنزل كل شيء آخر إلى مرتبة أداة أو شيء ما. وحتى إنسانية البشر قد تم حوسلتها (الحوسلة Instrumentaltzation» هي تحويل الشيء إلى وسيلة)، كما يتضح من الطريقة التي عامل بها العلمانيون غيرهم. من أشكال العبودية الساحقة إلى الإبادة الجماعية. لكن حوسلة الإنسان تحدث أيضًا بشكل يومي، كما نرى في الانتهاكات وعبودية العمال التي تبنتها الشركات متعددة الجنسيات التي تحكم العالم الآن بجانب الدول القومية. هذا لأن الإنسانوية العلمانية ترى العالم كمادة أو كشيء يجب استغلاله واستخدامه. لقد صارت الطبيعة شيئًا جامدًا، لكي يُشكلها البشر كما يريدون. لكن هناك رابط هنا يفتقده الكثيرون وهو أن الإنسان جزء من الطبيعة أيضًا. فعندما تخضع الطبيعة لسطوتنا وهيمنتنا، فإننا نخضع ذواتنا لنفس هذا الشكل من السطوة والهيمنة. بدأت هذه السيرورة بشكل جدي مع استعباد الأفارقة وإقصاء الهنود الأمريكيين كجزء من طبيعة يمكن السيطرة عليها وتغييرها. وتعمل الإبادات الجماعية بنفس المنطق فالإبادة الجماعية تهدف إلى تغيير مشهد الإنسانية (أو الطبيعة) تمامًا مثلما تنتزع الأعشاب الضارة من حديقتك (هناك كتاب ممتاز عن هذه المسألة بعنوان “الحداثة والهولوكوست” لزيجمونت باومان). من الخطأ، إذن، الاعتقاد بأن الإنسانوية العلمانية تدور حول قدسية الإنسان، بل إنها معنية بشريحة من البشر تستعبد الآخرين. دعونا لا ننسى أن أوروبا استعمرت العالم باسم الإنسانوية العلمانية على وجه التحديد. علاوة على ذلك، بسبب الانفصال بين هذا النوع من الإنسانوية والطبيعة كعمل لخلق بديع وجليل، لا يمكن للإنسانوية العلمانية أن تظهر أي إحساس بالتواضع أو الامتنان (كما بينت بالتفصيل في كتاب «قصور الاستشراق»).

لكن من المهم أن نفهم أن هروب أوروبا إلى الإنسانوية العلمانية ليس خطوة نحو التقدم أو تحسينًا متعمدًا للوضع/الشرط البشري. لقد لجأت أوروبا إلى هذا النوع الجديد من الإنسانوية لأنه وقع استبدادها من قبل الملوك، والأكثر من ذلك، من قبل الكنيسة المسيحية. وهو ما يعني أن أوروبا عانت من صدمة سببها كيان ادعى التحدث باسم الله. هذا هو السبب في أن كانط يُعرّف “التنوير” على أنه هروب من السلطة الفكرية للآخر؛ لأن فلسفته عبرت عن سخط الأوروبيين من الكنيسة المستبدة. وهكذا عندما حشدت أوروبا كل طاقتها من أجل غزو العالم والسيطرة عليه، فرضت شروطها، وما كانت أوروبا تكرهه صار مفروضًا على الجميع. إذا كانت أوروبا لديها مشكلة مع الدين، فإن الدين سيئ للجميع. هذا ما كان يقصده الأوروبيون عندما قالوا إن كل الناس سواسية: إنهم سواسية في الطريقة التي من المفترض أن يتبنوا من خلالها القيم الأوروبية. خلاف ذلك، لا أرى أي مكان على مدار الأربعمائة سنة الماضية حيث كان الأوروبيون يعاملون الآخرين على أنهم سواسية معهم حقًا، ويستحقون كل الخير الذي يشعرون (أي الأوروبيون) أنهم يستحقونه.

أجد صعوبة في قبول أي حجة ناجمة عن تجربة مؤلمة وصدمة شديدة، وذلك ببساطة لأن أي حجة من هذا القبيل هي رد فعل مَرَضي على الصدمة. ما قامت بـه أوروبا كان الجمع بين تجربتها الصادمة وبين القوة المادية والعسكرية الهائلة، الأمر الذي جعل حجتها الناجمة عن الصدمة تبدو ذات مصداقية. لذا أعتقد أن المسلمين عامة، من بين آخرين، يخلطون بين القوة العسكرية والمادية وجدلية القيمة والحقيقة.

من جهة أخرى، لا تواجه الإنسانوية الدينية المشكلات التي أظهرتها الإنسانوية العلمانية، كما يتضح من التجربة الإنسانية الطويلة عبر التاريخ. لقد كان للإسلام علمانويته الدينية لقرون عدة، حتى لأكثر من ألف سنة، وبالطبع كانت له مشكلاته الخاصة، لكن لا شيء كما رأينا يحصل في القرن العشرين باسم العقل والإنسانوية والأخوة. لكن الأهم من ذلك هو أن الإنسانوية الدينية يمكن أن تطور -بل إنها طورت بالفعل- علاقة أكثر إنسانية وأكثر تعاطفًا وحميمية مع الطبيعة، بما في ذلك الطبيعة البشرية. إن الإنسانوية الدينية مؤهلة تمامًا لإظهار شعور عميق بالتواضع والامتنان وهما من المتطلبات الأساسية للعيش في العالم بأكبر قدر ممكن من السلام. هذه محاججة طويلة، وأنا أحث الأشخاص المهتمين بهذه المسألة على قراءة كتابي “قصور الاستشراق”(Restating Orientalis) (2018) و”إعادة تشكيل الحداثة” (Reforming Modernity) (2019) هذا الكتاب الأخير يتناول طه عبد الرحمن الذي تعتبر أعماله أيضًا شرطًا أساسيًا لفهم العديد من القضايا التي يواجهها المسلمون. 

نماء: ثمة اهتمامات بالقيم الأخلاقية في الفكر العربي، منها نص محمد عابد الجابري العقل الأخلاقي العربي ومشروع طه عبد الرحمن الذي انخرط في السؤال الأخلاقي بصورة منهجية واضحة، ما هو تقييمكم لهذه الجهود التي تُسائل الأخلاق؟

وائل حلاق: في الكتاب الذي يتناول أعمال طه عبد الرحمن الذي ذكرته آنفًا، أقدم تقييمًا مفصلًا لعمل محمد عابد الجابري، وأبين كيف أنه عمل غير متسق بل ومتناقض، وأناقش أيضًا تناول طه لعمل الجابري، الذي يُعد تناولًا نقديًا بنفس القدر. أعتقد أن مكانة الأخلاق في الإسلام ملتبسة في ذهن الجابري، ومفهوم «العقل» عنده إشكالي جدًا لأنه مبني على استعارات مربكة من المشهد الفكري الأوروبي، أود القول أيضًا إنه لم يفهم كيف أن الإسلام صقل شكلًا معينا من الأخلاق ينطوي على مكون قوي هو «العمل». برأيي إن عمل طه أكثر رصانة واهتمامًا بخصوصيات الإسلام كنظام للأخلاق، على الرغم من بعض المشكلات التي نأمل أن يحلها في الوقت المناسب. في النهاية أحيل القارئ إلى كتاب “إعادة تشكيل الحداثة” (Reforming Modernity) من أجل مناقشة مفصلة. وآمل أن تظهر الترجمة العربية لهذا الكتاب في عام (2019)، بعد فترة ليست طويلة من نشره باللغة الإنجليزية.

 

للاطلاع علي مادة حوار نماء مع د. وائل حلاق

       يُعد هذا اللقاء الثاني ضمن حلقات الموسم الأول من الملتقى العلمي (ملتقى التحولات والقضايا العالمية)، [والذي ينظمه مركز الحضارة للدراسات والبحوث]، وقد ناقش فيه د. مصطفى كمال باشا (أستاذ كرسي السياسة الدولية بقسم السياسات الدولية – جامعة أبيريستويث) موضوعًا مهمًّا، عنوانه “التحولات العالمية الراهنة.. وموقع العالم العربي والإسلامي منها“.

       واعتبر باشا هذا اللقاء إضافة للقاء الذي سبقه وقدَّمه كلٌّ من: د. نادية مصطفى، د. مدحت ماهر. وأمَّل أن يكون هذا اللقاء فاتحة لما بعده من لقاءات.

بداية استخلص باشا مجموعة من العناصر والأفكار والمفاهيم الأساسية تعتبر مفاتيح أساسية لفهم هذا المنتدى عن التحولات والقضايا العالمية من منظور حضاري:

       العنصر الأول: مرتبط بتجديد الفكر؛ بإدراك أن هناك تراثًا إسلاميًّا، وأن هذا التراث الإسلامي يحتاج لإعادة استدعاء، وربما نتيجة التطوُّرات في الداخل والخارج انزوى الاهتمام به، ولكنه من الثراء الذي يحتاج لإعادة الاستدعاء والتجديد، وأنَّنا لا نتحدَّث فحسْب عن رؤية إسلامية أو رؤية لعلوم اجتماعية، وإنما عن قراءة إسلامية بالمعنى الحضاري للعلوم الاجتماعية، وهذا من المهم التركيز عليه في الرؤية الحضارية. كما رصد أن من العناصر الأساسية التي تنبني عليها هذه الفكرة هي فكرة أهمية استعادة الغرب لحضاريَّته؛ بأن يصبح الغرب حضارة ضمن حضارات أخرى تعيش وتتواجد، وأن لا يصبح هو الوحيد الذي ينتج المعرفة، وأن يدرك أن هناك حاجة لمراكز حضارية بديلة تنتج معرفة أخرى.

       نقطة أخرى وهي العلم الذي لا ينفصل عن القيم ولا الأخلاق ولا الدين، ومن ثم هناك رفض لفكرة أن العلم يمكن أن يكون خاليًا من القيم، وهناك قناعة بأنه لا بدَّ أن يكون هناك أساسٌ أخلاقيٌّ للعلم الذي نسْعى لتأسيسه.

       النقطة الخامسة: إدراك الحدود والقدرات، وحدود العلوم، حتى لا نتوهَّم الكمالَ ولا القداسة، وأن المطروح في هذه الفكرة الحضارية أنها رؤية لا تدَّعي القداسة، فهي تدرك حدودَها وحدودَ إمكانيَّاتها البشرية.

       النقطة السادسة: تخصُّ مسألةَ تطبيق الرؤية الحضارية، وكيف يمكن تفعيل هذه الرؤية الحضارية، وما هي الأدوات والمناهج اللازمة لهذا الأمر، ويرى د. باشا أن المدرسة المصرية لمنظور حضاري إسلامي قطعت شوطًا هامًّا في التطبيق والتفعيل لهذه الرؤية        الحضارية.

       النقطة السابعة: لا وجود لنظرية تنفصل عن السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي، ويرى باشا أن مشكلة نظرية العلاقات الدولية تتمحور حول هذه المسألة؛ وهي أنها لا تُحَدِّثُ العالمَ ولا تُحَدِّثَ الجنوبَ العالمي، ولا تُحَدِّثُ العالمَ الإسلامي، ولكنها تتحدَّث مع ذاتها، وتتحدَّث عمَّا تراه هي، وما تعبر عنه، كما لو كان هو العلاقات الدولية، بينما هو ليس كذلك.

       النقطة الثامنة: ترتبط بهذه المسألة وهي: كيف يجب أن نفهم ما هي المشكلات الدولية التي تحيط بنا، وما هي الحلول التي يمكن تقديمها في هذا الصدد.

       النقطة التاسعة: كل حضارة لها عناصر أساسية ولها خصوصية، والخصوصية الإسلامية ترتبط بمعنى خاص بالقيم والأخلاق والثقافة، وهذه الخصوصية الإسلامية موجودة رغم التنوُّع الكبير عبر الأقاليم الإسلامية، نفس الحال ينطبق على الحضارة الغربية، فهي أيضًا لها خصوصية رغم اختلاف الدول والمناطق.

       النقطة الأخيرة: وهو التحدِّي الأكبر الذي أشارتْ إليه المحاضرة السابقة، ويخصُّ التفاعل بين الأمة والدولة وبين الحالة العالمية، حيث لا ينفصل حال الأمة وتطوير حالها أو تغييره عن فهمنا ومعرفتنا بالعالم من حولنا.

وأشار إلى أن المحاضرة تقوم على أربعة أفكار أساسية:

       “Common Sense” وهو طرح قدمه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي، حول المسلَّمات التي لا نتجادل معها، أو المنطق الذي نتعامل معه كونه مسلَّمات.

       التحولات العالمية، ماذا يحدث حولنا من تحولات؟ ليس فقط العولمة، ولكن تحولات عميقة يرصدها د. باشا في نسيج وبنية العالم من حولنا

ما التحديات التي تواجه الرؤية الحضارية؟

إعادة تخيل مفهوم العصبية كما طرحه ابن خلدون.

الفكرة الأولى: حول الأفكار السائدة عن العالم الإسلامي

وكيف يتم التعامل مع هذه الأفكار السائدة على أنها طبيعية وصحيحة، وعلى أنها حقائق (أن هذا العالم الإسلامي به عنف، وعدم مساواة، …).

       بداية فهذه الصور الذهنية شديدة السلبية عن العالم الإسلامي يتمُّ التعامل معها في الغرب كما لو أنها واقعًا مسلَّمًا به، وليس مجرَّد صور ذهنية متحيِّزة ضدَّ هذا الإسلام، ومشكلتها الأساسية أنها تأخذ الصبغة العالمية، وتصبح مهيمنةً لدرجةٍ لا يمكن التشكيك في صحتها.

       وهذا الفكر له تداعيات في الواقع كثيرة، وله مؤسِّسين ومنظِّرين أمثال برنارد لويس، ممَّن دفعوا بأن هناك خللًا جسيمًا في الحضارة الإسلامية، لا يمكن معه لهذه الحضارة أن تتطوَّر.

       أما من وجهة نظر العالم الإسلامي فهناك شعور بالدونية، وهناك تشكيك في الذات والقدرات الذاتية، منبعه -في تقدير د. باشا- الاستعمار من ناحية، ثم هذا الفهم الغربي للعالم الإسلامي من ناحية أخرى، ثم لنرى كيف يتجلَّى هذا الشعور بالدونية في مساحات تفكير العالم الإسلامي في حلول لمشاكله السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو مشاكل الحكم أو غيرها.

       ويرى د. باشا أن من أهمِّ إسهامات المدرسة الحضارية المصرية في هذا الصدد، أنها ترفض هذه الثنائية؛ ترفض التعامل مع هذه الصفات للعالم الإسلامي على أنها مسلَّمات، كما أنها ترفض هذا الشعور بالدونية، وترى أن هناك مصادر إسلامية كثيرة يمكن إعادة البناء عليها وتحقيق تغيير، ويرى أن من أهمِّ ما يميِّز المدرسة أنها تتحدَّث من منطلق الندِّية والتكافؤ وليس من موقع الشعور بالأفضلية على الآخرين.

       يؤكِّد د. باشا أن هناك دائمًا خياريْن أمام كلِّ حضارة، إمَّا أنها ترفض الحداثة، أو تزدريها لعدم قدرتها على اللحاق بها. إلا أن المدرسة المصرية قدمت حلا ثالثا؛ وهو الإيمان بالعلم واحترام العلم ولكن أيضًا مع ربط هذا العلم بالقيم، والتأكيد على أن الحداثة التي تقدِّمها هي حداثة بفهمها الخاص، لا ترفض العلم ولا تنكره، ولكن تضيف له بصمات خاصة.

الفكرة الثانية: التحديات والتحولات العالمية

التحديات الجديدة في مواجهة التحديات القديمة

       يرى د. باشا أن هناك تحديات قديمة ترتبط بالاستعمار الأوروبي، منذ وصول نابليون لهذه المنطقة، وتأثيره طويل المدى، وهو يمتدُّ ولا ينتهي، ويفت في عضد الجسد الاجتماعي للعالم الإسلامي.

       ولكن هناك بالإضافة لذلك تحديات جديدة من بينها صعود الدولة القومية الحديثة، وهي وعاء جغرافي جديد، وتطور مؤسَّسي شهدْناه في القرون الماضية منذ ما بعد وستفاليا، ولكنها تعتبر المنافس الأساسي للحضارة، فالناس يعيشون داخل حضارة، ولكن هذا يتمُّ تحدِّيه بخلْق دولة مدنيَّة حديثة أصبحت واقعًا وتشكِّل تحدِّيًا للتفكير الحضاري.

       هذا التناقض بين الحضارة والدولة، يحدِّد ملامح العديد من المشكلات التي نرصدها في واقعنا الإسلامي المعاصر، ولكن محاولة التفكير كما لو أن الدولة القومية غير موجودة هو جهدٌ لا طائلَ من ورائه، فالأهم هو كيف نفكر في الحضارة في ضوء هذه المعطيات الجديدة؟ وهذا ما فعلتْه المدرسة الحضارية، حيث كانت الموازنة بين الاثنين حاضرة، على سبيل المثال في فكر ابن خلدون: كان واعيا بهذه المواجهة بين الإسلام كحضارة وبين الدولة.

       إن أزمة الحضارة الإسلامية أنها فقدت القوة السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا جعلها الطرف الأضعف في مواجهة الدولة، ولكنه يرى أن هذا أيضا يتغيَّر، وأن هذا الفقدان للقوة يرتبط بهيمنة قوة أو اثنتين على العالم، ولكن مع التعدُّدية أصبحت هناك فرصة لرؤية جديدة أن تظهر.

       ومن ثم أهمية أن لا نقلِّل من القوة الحضارية، فالحضارة مكوِّن للقوَّة وليس مجرَّد إطارٍ للتفكير، وهذه القوة الحضارية التي ترتبط بإدراكنا لذاتنا وإدراكنا للوجود، لا يلتفت لها الكثيرون من النخبة في العالم الإسلامي، لا إلى أهمية الثقافة ولا إلى أهمية التعليم كقوة، وهذه القوة الثقافية ليست القوة الناعمة وإنما القدرة على تطوير إجابات أو حلول لمشاكلنا من منطلقات ذاتية.

بالإضافة إلى ذلك هناك مجموعة من التحديات المهمة في خلفية واقعنا المعاصر:

       التحدي الأول هو الحداثة الغربية: وكيف أنه يتم التعامل معها على أنها مرجعية عالمية، تُقَيَّمُ على أساسها الحضارات والمجتمعات والمناطق الحضارية المختلفة، ويرى د. باشا أن هذه المسألة يتمُّ التشكيك في صحتها تدريجيًّا، وأصبح هناك إدراك متنامٍ بأن هناك سبلًا متعدِّدة للتحديث وليس مجرد سبيل واحد.

       التحدِّي الثاني: يخصُّ تلك العلاقة بين الحداثة والعلمانية، وكيف أن الحداثة تقوم على صلةٍ وطيدةٍ بالعلمانية، ومن ثم كان هناك تصوُّر أن الدين هو عائق أمام الحداثة والتطوُّر، وهي فكرةٌ يرى أيضًا أنه يتمُّ تحدِّيها والخروج عليها تدريجيًّا.

       والتحدِّي الثالث: الفصل بين الأخلاق والسياسة، وهي فكرة يتمُّ غرسُها وتغذيتُها في مجتمعاتنا، حتى أضْحى كثيرون يتصوَّرون أن السياسة يمكن لها أن تتحرَّك بلا ضابط أخلاقي، وأن السياسة هي ممارسة القوَّة وإنجاز الأمور بأي وسيلة، ويؤكِّد باشا أن الرؤية الحضارية تذكِّرنا أن السياسة بدون أخلاق هي سياسة شديدة الضعف.

       ننطلق للعنصر الثاني في هذه المحاضر، وهو يدور حول: ماذا يحدث حولنا من تحولات عالمية أساسية؟

       بحيث إن إدراكها واستيعابها يقوِّي ويدعم من الرؤية الحضارية وقدرتها على الإسهام.

       التحول عن النظام الليبرالي العالمي، وظهور نظام ما بعد ليبرالي: فنحن في عالم يتجاوز مرحلة العالم الليبرالي، ويدرك أن هناك أجزاء لم يصل إليها، ولكن أربعة عناصر تحدِّد هذه الصفة وإن كانت لم تتبلْور بعد بالكلية:

       التحول نحو المزيد من التعدُّدية في مراكز القوى، وهي تعدُّدية ثقافية واقتصادية وسياسية، ومركزها ليس فقط الغرب، بل مركزها خارجَه كالصين والهند؛ كذلك ترتبط بهذه المسألة -في تقدير د. باشا- فكرة وجود مساحة حركة كبيرة لم تكن موجودة من قبل للدول والحضارات الأخرى، مثالا على ذلك حالة أوكرانيا، وكيف أنها نجحت في الاستفادة من هذه التعدُّدية في الاتفاق على بعض القضايا وفي تصويت الأمم المتحدة.

       إضعاف الهيمنة الغربية، وكيف أن المركز الثقافي والسياسي والاقتصادي يتحرَّك تدريجيًّا من الغرب إلى آسيا.

       وجود نماذج بديلة من التنمية، وكيف أن العلاقة بين السياسة والاقتصاد أصبحت لها أشكال أو تصورات متعدِّدة ولم يعد لها تصوُّر واحد، حتى العلاقة بين الديمقراطية والتنمية لم تعد بتلك الأهمية التي كانت عليها من قبل، والمثال الحاضر هو الصين.

       ما بعد العولمة: وكيف أن هناك اتجاهات تعادِي العولمة في ظلِّ وجود اتجاهات تؤكِّد وجودَها، صحوة للقومية على سبيل المثال مرتبطة بوباء كورونا وكيف تمَّ وضع حدودٍ ومعوِّقات قومية سريعًا بين الدول، وكيف أصبح العالم المعولَم معاديًا للعولمة، أيضًا ما يخصُّ الهجرة: فبالفعل هناك حركة مفتوحة بين المال وانتقال التكنولوجيا، ولكن حركة البشر ليست بهذه السهولة، والاتحاد الأوروبي يحرص على توقيع اتفاقيات مع دول مثل تونس وليبيا من أجل الحدِّ من هذه الهجرات.

       تراجع في منطق الحداثة العلمانية، حيث حدث رفضٌ كبيرٌ من شعوب العالم لهذه الحداثة العلمانية، وليس العالم الإسلامي وحده. الهند بها رفض شديد للحداثة العلمانية أيضًا.

       يؤكِّد د. باشا على أكثر من جزئية: القومية العلمانية كانت هي السائدة في الستينيات والسبعينيات ولكنها لم تعد بهذه الأهمية على الإطلاق، النقطة الثانية التي تخصُّ صعود أو عودة تجدُّد الاهتمام بالديني، حيث يذكر د. باشا أن هذا ليس حال العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط فحسْب، وإنما هذا الاهتمام بالديني موجود في آسيا وفي جنوب شرق آسيا، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، فهناك وعي يومي متزايد حول كيف نأكل وكيف نتحدَّث وكيف نلبس، وكل ذلك مرتبط بمكون الدين، وفي حين كان يُنظر إلى الحديث بخطاب ديني في فترة مضت على أنه حديث متخلِّف لم يعد هذا هو الحال الآن.

       النقطة الأخيرة هي الوعي الحضاري، سواء في العالم الإسلامي أو في غيره بإرث حضاري ممتدٍّ عبر القرون الماضية.

       غياب الدقة وعدم اليقين وقلة الشعور بالمخاطر المشتركة التي تُحيط بنا، فلم يصل واقعنا لهذه الدرجة من عدم الاستقرار من قبل.

       يرى د. باشا أن هناك حالة متزايدة من الانقسام في العالم الإنساني، أعداد قليلة جدًّا تسيطر على موارد كبيرة جدا، 1% يسيطرون على 52% من موارد العالم، هناك قابلية للاختراق غير مسبوقة، وهناك حاجة لأن نقدِّم إجابات حضارية للبشر، لكي نُعيد إليهم الشعور بالأمل والهُوية، ونُعطيهم منطقًا للتعامل مع الحياة من حولهم، وهم غالبية البشر، هناك حالة من عدم اليقين مرتبطة كذلك بالتكنولوجيا التي جعلت كل نواحي حياتنا محفوفة بالمخاطر.

       صعود الشعبوية: مع فكرة أنها تطرح حلولًا سهلة لمشكلات معقَّدة، وكيف أن شعوب العالم ككل أصبحت تبحث عن هذه الحلول السهلة.

       يرصد د. باشا كيف أن هناك تراجعًا في السياسة التقليدية، في الشمال وفي الجنوب. وهناك سياسة استقطاب كبيرة في الشمال تهيمن على المجتمعات الغربية بحيث يكاد لم يعد هناك مجال للحوار بين القطبين المختلفين، أيضًا يتم تحميل الطبقات الأضعف والأفقر (كالمهاجرين وغيرهم) مشاكل المجتمعات، ومحاولة تشويه صورتهم بحيث يحملون كافة آفات هذه المجتمعات.

       بالإضافة إلى التراجع في الالتزام بالقيم الديمقراطية -والذي يرصده د. باشا- خاصة في وسط وشرق أوروبا، وكيف أن هذه القيم الديمقراطية تتراجع مقابل قيم شعبوية آخذة في الصعود.

       التكنولوجيا: أحد أكبر مصادر التهديد التي نواجهها كبشر وعالم إنساني، وأبعاد هذا التهديد والخطر لم يتم إدراكه كلية بعد.

       يرصد د. باشا ثلاثة متغيرات حديثة في عالمنا: شبكات التواصل الاجتماعي، ومسألة الرقابة المتزايدة على حياتنا، والذكاء الاصطناعي. وتساءل ما المشترك بينهم؟ المشترك هو أنهم يغيرون علاقتَنا بأنفسنا وبالعالم من حولنا، وبعضنا البعض، في كيفية معيشتنا كعالَم إنساني، وكيف يغيرون ملامح هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي أصبحنا شديدي التعلُّق به. فكيف تؤثر هذه التكنولوجيا الاتصالية على الصداقات والعلاقات، وعلاقات الأهل والمعلمين بتلاميذهم، هناك إذن حاجة لرصد تأثير هذه التكنولوجيا على الحضارة الإنسانية.

       مسألة الرقابة: نجد أن الخصوصية انتهكت بشكل غير مسبوق، لم تعد هناك مساحات خاصة لم تخترقها التكنولوجيا، ومجرد سحب نقود يعطي معلومات عن أين أنت وكيف ستنفق هذه النقود… إلى آخره.

       مسألة الذكاء الاصطناعي: وكيف أنه تحدٍّ لا نستوعب مداه، في تصوُّره أن الذكاء الاصطناعي يؤثر بسرعة تغير أسرع بكثير مما نتصور وأننا شديدي البطء في إدراك هذا التأثير على العالم من حولنا، فهو يؤثر في الأفكار وفي إنتاج المعرفة وفي كيفية التفكير، وأبعاد أخرى كثيرة من حياتنا كبشر، له بالتأكيد تأثيرات إيجابية في قطاع الطب مثلا، لكن -في تقدير د. باشا- لو تحكَّمت التكنولوجيا في حياتنا وخسرنا حريَّتنا؛ فهذا تحدٍّ حضاري وجودي وليس تحديًا بسيطًا، لا بدَّ أن نبدأ اليوم في التفكير فيه.

       التغير المناخي: ما نعيشه اليوم هو إرث من الثورة الصناعية، التي تنقلب على البشر وكأن الطبيعة تنتقم من البشر لإخلالهم بالتوازن الذي وضعه الله في الكون.

       يؤكد د. باشا أن لدينا تصورًا إسلاميًّا خاصًّا عن هذه الأزمة تحديدًا؛ وأن هذه الأزمة هي منتج لتحطيم القيم، حين توقَّفنا عن التعامل مع الحياة والعالم والكون من حولنا كهبةٍ من الله، وأفرطْنا في الطمع كبشر وتصوَّرنا القدرة على السيطرة المتناهية على الطبيعة، واليوم نرى تداعيات هذه التصوُّرات.

       ويرى أن من أهمِّ المشكلات الاجتماعية التي تتولَّد عن قضية التغيُّر المناخي هي مسألة عدم العدالة البيئية، لأن الذي يشارك أقلَّ في هذه المشكلة هو الذي يتحمَّل العبء الأكبر، ومثال على ذلك أفريقيا التي لا تتعدَّى مساهمتها 5% في هذه المشكلة، مشكلة الانبعاثات الكربونية وغيرها ولكنها مع ذلك تتحمَّل العبء الأكبر من هذه المشكلة.

       يتساءل د. باشا عن ما هي التداعيات الحضارية والثقافية للتغير المناخي؟ ويرى أننا نحتاج لميثاق أخلاقي جديد مع الطبيعة وأن لا نتوهم القدرة على السيطرة على الطبيعة، واليوم.. أصبحت الصين والهند مصدرًا أساسيًّا للانبعاثات الكربونية؛ وبالتالي يجب علينا أن نبحث في إرثنا الثقافي أو الحضاري عن إجابات لهذه المشكلة.

الفكرة الثالثة: ما هي التحديات التي تواجه الرؤية الحضارية؟

  • المشكلة الأكبر هي تلك العلاقة بين التحديات وبين القدرات فهي تحديات كبيرة تواجه مجتمعاتنا الإنسانية، ولكن هل نمتلك القدرات لمواجهة هذه التحديات، يرى أنه يجب أن ندرك حجم التحدِّي بأن نستوعب بالفعل حجمه الحقيقي ثم نستوعب حجم قدراتنا، وإن كنَّا نمتلكها أو لا، وإن لم نمتلكها فمن أين نأتي بها؟
  • يؤكِّد أنه ليست لدينا إجابات جاهزة، وإنما هي مسائل تحتاج للتفكير العميق فيها، وبعض هذه التحديات شديدة الخطورة ولا يمكن حتى إصلاحها بسهولة متى شرعْنا في هذا.
  • ضغط الوقت يرصده د. باشا ويرى أنه لا بدَّ وأن نتحرَّك سريعًا، لأن بعض هذه المشكلات تمَّت صناعته في وقت ضئيل للغاية ولكن نحتاج وقتًا طويلًا للتعامل معها وليس لدينا رفاهية التفكير البطيء في الحلول.

الفكرة الرابعة: إعادة تخيل مفهوم العصبية كما طرحه ابن خلدون

       يمكن أن نسأل أنفسنا ما هي الموارد الحضارية التي نمتلكها؟ نمتلك لغة وتاريخًا وفنًّا وموسيقى وأساطير، ولا نحتاج حتى لمجرد ترديد مقولات بأننا كنا حضارة عظيمة أو غيره، ولكن بالفعل هناك موارد وإمكانات يمكننا أن نستعيدها وأن نبني عليها.

       المسألة الأخرى التي تسمح لنا بالتعاطي مع التحديات التي رصدها د باشا: هي مسألة أن المعرفة هي إرث عالمي مشترك، وهي ليست حكرًا على حضارة بعينها، فيمكن أن نعرف من الغرب أو الشرق، أينما وجدت المعرفة فنحن مطالبون بالبحث عنها والسؤال عنها.

       يجب أن نتجنب الانغلاق على الذات، كما يجب أن نتجنَّب محاولة تقليد الآخرين، فلا نحن ننفتح على الآخرين دون وعي بالذات ولا نحن نقلِّدهم، وإنما نفهم التراث الإنساني بإبداع وانفتاح فكري، لا نرفض المعرفة لمصدرها، وإنما ننقِّح ونفهم ما لدى الآخرين، ثم نبحث ونؤسِّس أخلاقيًّا لما يمكن أن نقدِّمه.

       إعادة تعريف القيم العالمية: يؤكِّد د. باشا أن هناك بالفعل قيمًا إنسانية عالمية مثل قداسة الحياة، وقداسة الطبيعة وبالتالي التعامل معها كهبة ونعمة كبيرة لا بدَّ أن نصونَها، وهي قيم ليست ذات خصوصية أو قومية أو غيرها وإنما هي قيم عالمية، ختم باشا حديثه بأنه يمكن أن نبدأ من هذه النقاط في محاولة لمواجهة التحديات والسعي في محاولة حقيقية للتغيير.


* نقلاً عن: موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث،

https://2u.pw/ichFFPD

        انطلقت فعاليات المؤتمر العلمي الدولي الرابع لكلية الشريعة والقانون بدمنهور (عاصمة محافظة البحيرة بجمهورية مصر العربية)، تحت عنوان: “قضايا المناخ والبيئة في ضوء الفقه الإسلامي والقانون” يوم الإثنين الموافق 18 سبتمبر 2023م.

       وذكر الدكتور محمد المغازي، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر فرع دمنهور، أن انعقاد المؤتمر الدولي الرابع للكلية حول قضايا المناخ، يعتبر ترجمة حقيقة على أرض الواقع لقمة المناخ 2022 التي عقدت في مصر وتضمنت مخرجاتها فتح المجال أمام الجامعات والمؤسسات عن المناخ.

       وتابع عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر فرع دمنهور، خلال حواره مع الإعلامية سالي سالم، ببرنامج «البيت»، المذاع على فضائية «الناس»، يوم الإثنين الماضي: «محاور المؤتمر تتناول الدلائل العلمية على القدرة الإلهية في تكوين الغلاف الجوي، ومظاهر التغييرات المناخية وأسبابها وآثار التغيرات المناخية والحلول العلمية المقترحة للتغلب على آثار التغيرات المناخية في إطار القدرات المصرية، وتناول الجهود المصرية العملية لمواجهة التغيرات المناخية».

       وأضاف أن هناك محاور المؤتمر القانونية تتناول أثر التغيرات المناخية على تنفيذ الالتزامات التعاقدية الوطنية والدولية، ومسئولية الشركات العامة والخاصة عن الإهمال المناخي وتأثير التغيرات المناخية على التجارة الدولية، وتأثير حقوق الملكية الفكرية على نقل التكنولوجيا للدول النامية، وانعكاسه على قدرة مواجهة التغيرات المناخية، بالإضافة إلى تناول محاور أخرى عديدة فقهية وقانونية.

       وأشار إلى أن توصيات المؤتمر تتركز على الجانب التوعوي على الدور البيئي، لأنها واجب فردى واجتماعي، أيضًا بالإضافة إلى الجانب التشريعي، فظاهرة الاحتباس الحرارى تخص 50% من سكان العالم، وبالتالي نحتاج إلى إجراءات وتعديلات في بعض القوانين المتعلقة بالبيئة.

رابط مباشر لحديث  الدكتور محمد المغازي عن المؤتمر

 

بدأت البنوك الروسية اعتبارًا من الأول من سبتمبر تجربة إدخال الخدمات المصرفية الإسلامية في روسيا، وطبقًا لما هو مقرر فإنه في غضون عامين، سيتم اختبار الخدمات المصرفية الجديدة بموجب الشريعة الإسلامية في أربع مناطق، هي: بشكيريا وداغستان وتتارستان والشيشان، وقد تم التوقيع على قانون إجراء هذه الاختبارات في أوائل أغسطس من قبل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”.

ويُذكر أن العدد الأكبر من البنوك الإسلامية يقع في الشرق الأوسط، في دول الخليج وماليزيا، ومن هذه المناطق سيكون من الممكن جذب الاستثمار الأجنبي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للخدمات المصرفية الإسلامية أن تساعد في زيادة عدد المشاريع في روسيا من خلال تمويل الشركاء للشركات والأفراد.

وبالإضافة إلى الاستثمار المشترك، سيحصل المقترض على تدقيق دائم لأنشطته، كما يقول فلاديمير تشيرنوف، المحلل في Freedom Finance Global.

ووفقًا لتحليل السوق، يبلغ عدد عملاء التمويل الإسلامي المحتملين 7.5 مليون شخص على الأقل، وأكثر من نصفهم (4.7 مليون شخص) هم بحكم الواقع عملاء لمصرف سبيربنك.

وقال “أوليغ غانيف” النائب الأول لرئيس سبيربنك، في مقابلة مع كوميرسانت: “إن الـ 2.8 مليون شخص المتبقين هم عملاء جدد محتملون”.

يمكن استخدام الخدمات المصرفية الإسلامية ليس فقط من قبل المسلمين، بل ومن قبل ممثلي جميع الأديان، على الأقل، يجري إدراج هذه المسألة بشكل منفصل في القانون.

هناك مسألة أخرى تتمثل فيما إذا كانت البنوك ستوافق على العمل وفق الشريعة الإسلامية مع كل من يرغب.

وفي هذا الصدد، قال “ألكسندر باختين” استراتيجي الاستثمار في BCS Mir Investments: “نعتقد أن هناك آفاقًا للصيرفة الإسلامية في روسيا، نظرًا للنسبة الكبيرة من المسلمين، وبشكل عام، الاهتمام المتزايد بالاستثمارات في البلاد، ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تنتشر الخدمات المصرفية الإسلامية بشكل نشط خارج المناطق التي يُمارس فيها الإسلام في الغالب”.


* نقلاً عن:

– موقع روسيا اليوم في 3 سبتمبر 2023م.

– عرب جورنال في 3 سبتمبر 2023م.

– برسي بي في 3 سبتمبر 2023م.

– جريدة  العلم الإلكترونية في 3 سبتمبر 2023م.

 

عقدت رابطة الجامعات الإسلامية مؤتمرًا علميًا بمدينة الرباط بالمملكة المغربية حول: “تأطير الحريات بين القيم الإسلامية وضوابط القانون الدولي”، وذلك يوم الخميس الموافق 24 أغسطس 2023م.

وعُقد المؤتمر بمقر منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو” تحت رعاية وتشريف معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى –رئيس الرابطة-، وحضر المؤتمر لفيف من العلماء ورؤساء الجامعات الإسلامية إلى جانب خبراء ومتخصصين من دول العالم المختلفة.

وناقش المؤتمر آليات التنسيق والتعاون بين العلماء والخبراء في مجال ضبط المصطلحات في تعريف الحرية المسئولة والمنضبطة بما لا يتعدى حقوق وحريات الآخرين.

وفي هذا الصدد أشار معالي الأستاذ الدكتور سامي الشريف –الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية-، إلى أن هذا المؤتمر يأتي انطلاقًا من سعي جاد من جانب المنظمات الإسلامية التي تمد يد التعاون مع الغرب -دولا ومنظمات وأفرادًا- بهدف بناء جسور من التفاهم والمودة والسلام.

كما أشار معاليه إلى تفاقم حدة العداء والكراهية التي يطلقها بعض المتطرفين في الدول الغربية من اعتداء على المقدسات وحرق لنسخ من المصحف الشريف بما يُعد تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، ومن ثم فإن المؤتمر بحث سبل دعم جهود الحوار بين المثقفين والحكماء في الشرق والغرب من أجل تقويض كل محاولات الفتنة والضغينة والبغضاء لتحل مفاهيم السلام بدلا من مفاهيم حتمية الصراع بين الحضارات.

وأثناء جلسات المؤتمر تمت الإشارة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تبنَّته الشهرَ الماضي (يوليو 2023م)، بإجماع أعضائها الـ193، وهو قرار كانت قد تقدمت به المملكة المغربية، ضد حرق نسخ المصحف الشريف، وخطاب الكراهية.

وشهدت عملية اعتماد هذا القرار محاولة الاتحاد الأوروبي حذف الإشارة إلى الفقرة الثالثة عشرة من القرار، والتي تنص على أن مشروع القرار «يستنكر بشدة جميع أعمال العنف ضد الأشخاص على أساس دينهم أو معتقدهم، وكذلك أي أعمال من هذا القبيل ضد رموزهم الدينية أو كتبهم المقدسة أو منازلهم أو أعمالهم أو ممتلكاتهم أو مدارسهم أو مراكزهم الثقافية أو أماكن العبادة، فضلاً عن جميع الهجمات على الأماكن الدينية والمواقع والمزارات.. التي تنتهك القانون الدولي».

وصرحت المتحدثة باسم رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، السيدة بولينا كوبياك، بأن وفد إسبانيا طالبَ بحذف عبارة «التي تنتهك القانون الدولي» من مشروع القرار، لكن طلبه قوبل بالرفض.

وذكر وزير العدل الدنماركي، بيتر هاملغارد، خلال مؤتمر صحفي، أن القانون «سيحظر التعامل بطريقة غير مناسبة مع أشياء تكتسي أهمية دينية كبيرة لدى ديانة ما»، وهذا التشريع القانوني يمكن اعتباره ثمرة أنتجتها شجرة القانون الدولي الجديد في مجال مناهضة الكراهية، وهي شجرة يجب تعهدها بالمتابعة الدائمة لتُؤتي أكلَها كل حين.

ويُذكر أن الدكتور محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة ورئيس جامعة القاهرة، ترأس جلسة بعنوان “الحرية في المنظور الإسلامي” ضمن جلسات المؤتمر.

وناقشت جلسة “الحرية في المنظور الإسلامي” أربعة موضوعات رئيسة وهي: الحرية في الفكر الإسلامي .. الأسس والمبادئ، وحرية الآخر في التاريخ الإسلامي، حرية الرأي والتعبير في ميزان الشريعة الإسلامية، الحرية والمسؤولية المجتمعية.    

   وقد صدر عن المؤتمرين إعلان رابطة الجامعات الإسلامية الذي تضمن التوصيات التالية:

  • الكلمة مسؤولية أخلاقية وأمانة روحية، لا يجوز إطلاقُها بلا علم أو برهان؛ فتكون سبباً في الإساءة إلى الآخرين، وتأجيج المشاعر الدينية، والنزعات العنصرية.
  • التأكيد على حق الحريات عمومًا، وحرية التعبير عن الرأي خصوصًا، وفق أُطُرٍ تحفظ حقوق الآخرين ولا سيما صيانةَ كرامتهم، وترعى متطلباتِ سلام عالمنا ووئامِ مجتمعاتِه الوطنية.
  • دعوة المؤسسات الإعلامية للارتقاء بالمحتوى الإعلامي نحو تعزيز أواصر الأُخُوةِ الإنسانيةِ والوطنيةِ واحترامِها المتبادل، ومواجهةِ كافة الأساليب الداعية للكراهية والتحريضِ على الصدام والصراع الحضاري.
  • ضرورةُ احترام الدول لالتزاماتها بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتطويرِ استراتيجياتِ التعايش والاحترام المتبادل، واعتمادِ تشريعاتٍ تحظُرُ التحريضَ على الكراهية المفضيةِ إلى التطرف وبَعثِ الأحقاد، والدخولِ في دوامة الفوضى والعنف، والعنفِ المضاد.
  • إدانة ظاهرة الإسلاموفوبيا باعتبارها خطابًا عنصريًا يؤجج الكراهية ويستولد العنف، ويقوض مشاريع بناء مجتمعات الوئام والسلام، والتحذير من تبعات أساليب الاستفزاز الديني في عالم هو أحوج ما يكون إلى التهدئة والتفاهم والاحترام المتبادل.
  • دعوة الحكومات والشعوب إلى تجاوز خلافات الماضي بين المكونات الدينية والعرقية والثقافية، والتوجه إلى مناقشة مشكلات التعايش برُؤيةٍ حضارية تؤسَّسُ على تفهُّمِ حكمة الخالق في حتمية الاختلاف والتنوع، والإيمانِ بأهميةِ التعاون والثقة المتبادلة المستحقة، وتَستثمرُ مشتركاتها في تعزيز الوعي لتكوين مجتمعات تتجاوز التحضر المادي إلى التحضر الأخلاقي.
  • الدعوة إلى أن تتضمن مناهج التعليم الدراسي حول العالم موادَّ تُعزز من الوعي المجتمعي باحترام الآخرين، وتفهُّمِ حقِّهم في الوجود والعيش بكرامة دون إهانة لكرامتهم ولا سيما مقدساتِهم الدينية، وتُنبه على مخاطر الصدام والصراع بين الأمم والشعوب.
  • دعوة الدول التي سمحت بحرق نسخ من المصحف الشريف إلى مراجعة مفاهيمها الدستورية واستعادة وعيها الحضاري واستحضار عظات التاريخ، وعدمِ الخلطِ بين المعنى الإنساني للحريات وبين الفوضى المسيئةِ لذلك المعنى، وبخاصة تسيب مفهوم الحريات إلى أن يصل لإهانة كرامة الآخرين والتحريض على المواجهة الخاسرة بين الأمم والشعوب لمجرد اختلافاتها الدينية والفكرية فضلاً عن مجرد سوء الفهم المتبادل، ومن ثم تعميق الفجوة بين أبناء الأسرة الإنسانية الواحدة التي أراد الله بعلمه وحكمته أن تكون مختلفةً كما هي طبيعة وجودها.

وقد حظي المؤتمر بتغطية عربية وإسلامية ودولية واسعة، من مختلف وسائل الإعلام.


* نقلاً عن:

– موقع رابطة الجامعات الإسلامية.

– جريدة إيلاف في الثلاثاء 29 أغسطس 2023م.

– الهيئة الوطنية للإعلام “ماسبيرو” في السبت 26 أغسطس 2023م.

صادق مجلس الأمة الكويتي بغالبية الأصوات الثلاثاء الموافق 1 أغسطس 2023م على المادة 16 من قانون مفوضية الانتخابات بنصها المعدل الذي يطرح إشكالا ويثير جدلاً في الكويت وهي المادة التي تقول في الفقرة الثانية منها “ويشترط لممارسة حق الانتخاب والترشيح الالتزام بأحكام الدستور والقانون والشريعة الإسلامية”.

وتم تمرير المادة في المداولة الثانية على مشروع قانون انتخاب أعضاء مجلس الأمة، والذي سبق أن أقره المجلس في مداولته الأولى في جلسة الخميس الماضي، بحضور 62 نائبًا وبموافقة 53 منهم واعتراض تسعة أعضاء فقط بينهم النائبة الوحيدة بالمجلس جنان بوشهري، بينما انسحب الحضور النساء من جلسة المداولات كشكل احتجاجي على تمرير مادة تضبط شكل المرأة المترشحة وتلزمها بارتداء الحجاب (بحكم تطبيق الشريعة الاسلامية الواردة في المادة 16).

وطالب النواب التسعة حذفها باعتبار أنها تتضمن إقصاء للمرأة غير المحجبة بالمشاركة في الحياة السياسية. كما رفض المجلس طلبًا من النائب مرزوق الغانم (الرئيس السابق لمجلس الأمة) بحذف المادة استنادًا إلى أن “الالتزام بالدستور والقانون والشريعة منصوص عليها في الدستور”.

ورفض المجلس أيضا ثلاث طلبات بالحذف من النائبة جنان بوشهري التي حذّرت من “خطورة إقحام نص ذو مدلول عام يحمل أكثر من تفسير ومعنى في قانون الانتخاب”، معتبرة أن التعديل “موائمة سياسية وعبث سياسي في الشريعة وأحكامها وفتاويها”.

وسجلت الجلسة إلى جانب بوشهري اعتراض كل من حمد المدلج ومرزوق الغانم وسعد العصفور وداود معرفي ومهلهل المضف وعبدالوهاب العيسى وحمدالعليان وبدر الملا.

واعتبر كثيرون أن النص يستهدف “إقصاء النساء من المشاركة السياسية” وكذلك فرض مزيد من الوصاية عليها “باسم الدين والشريعة”.

وقد أعربت الأستاذة نوال الرشيد عن رفضها لبس الحجاب كأحد شروط الترشح إلى مجلس الأمة الكويتي. وقالت في تصريح من أمام مبنى مجلس الأمة “الناس تتطور أو ترجع إلى الوراء، هل هذا البند فيه تطور أو تخلف؟ ألف بالمئة تخلف، الكويت لم تكن بهذا الشكل في الستينات والسبعينات”، مضيفة “الديرة كلها مختطفة من الدينيين”.

ويهيمن الإسلاميون على مجلس الأمة الكويتي في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أعادت بعض الوجوه في المجلس السابق واستبعدت آخرين، بينما لم يكن للمرأة حضور يذكر.

واثارت تصريحات الرشيد جدلاً واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي بين مؤيد ورافض لتصريحاتها وموقفها وبين من اعتبرها مسيئة للحجاب والشريعة الإسلامية.

ومصدر الانزعاج الأكبر من تصريحات الرشيد هو ربطها بين ارتداء الحجاب والتخلف. وقال مغرد “نوال الرشيد تحدثت وأنا تعجبت إذا كان خلع الحجاب تطور فخلع اللباس المحتشم يكون تطورا وإنجازًا!! أعتقد أي قضية تطالب فيها امرأة حتى وإن كانت مستحقه نتائجها خاسره”.

وغرد آخر قائلاً “إذا كان شرع الله ودينه وتعاليم الإسلام الصحيحة تخلف بأعين الليبراليين والنسويات فنحن نراها قمة الرقي والتحضر والشرف”، فيما قالت مغردة أخرى “أنا ضد الاقتراح بس كلامج غلط صار شرع الـلّـه والحجاب تخلف!!! صارت الديره مختطفه من الدينين؟ لو الأغلبية ليبراليين بتقولين الديره مختطفه؟؟”.

في مقال بجريدة القبس الكويتية شبق جلسة الثلاثاء كتبت الدكتورة غدير محمد أسيري تحت عنوان “أهذا ما تستحقه الكويتية؟” أمس الاثنين “اشتركت المرأة الكويتية في صفوف المقاومة (خلال غزو العراق للكويت في تسعينات القرن الماضي) واستُشهد الكثير منهن في تلك الحقبة السياسية وأُسر الكثير منهن من قبل جنود الاحتلال واعتقلن وعُذِبن في السجون ومراكز الاعتقال كما الرجل الكويتي، فبعد 15 عامًا من التحرير ومن المطالبة بحقوقها والوقوف لإقناع من يستمر في مهاجمتها والتشكيك بقدراتها وحصولها على حقها في المساواة بالانتخاب والترشح”.

وتابعت “نجد أن المجتمع، بدلاً من تمكينها في 2023م، لا يزال يمارس الضغوط على المرأة في سن القوانين والقيود لتقليص حركتها وتطورها وتقليل مشاركاتها السياسية بضوابط تشكك وتُميّز بين قدرتها في المشاركة السياسية”.

وقالت أيضًا “سلوك التقليل من قدرة المرأة أصبح يتنقّل ويتفشى بشكل ملاحظ في الآونة الأخيرة، من خلال القوانين المطروحة من بعض النواب، إن المتاجرة بقضاياها بالوصاية عليها غير مقبولة، خصوصًا مشروع إنشاء المفوضية العليا للانتخابات في دولة مدنية تتبع دستورًا واضحًا متطورًا متعايشًا، ينصف ويساوي بين الجميع، فمن غير المنطقي أن يكون القانون، وهو مرحلة تلي الدستور، أن يتناقض مع مواده التي تنص بشكل صريح على المساواة التامة وعدم التطرق بالوصاية في القوانين والقرارات على المرأة شكلاً ومضمونًا”.

وخلصت كاتبة المقال إلى القول “في دولة الكويت، فالانتقاص من شكلها وطريقة تفكيرها هو سلوك يقمع حقها في اختيار شكلها أو وظيفتها أو طريقة حياتها ومستقبلها أسوة بالرجل في الدولة”. وشهدت نتائج انتخابات أعضاء مجلس الأمة الكويتي للعام 2023م فوز 10 مرشحين جدد بعضوية المجلس وعودة بعض الأعضاء ممن سبق لهم الفوز بعضوية المجلس في دورات سابقة، لكن المرأة الكويتية فقدت أحد المقعدين في المجلس السابق، إذ حافظت النائبة جنان بوشهري على حضورها، بينما لم يحالف الحظ زميلتها عالية الخالد.


نقلاً عن ميدل إيست أونلاين في الثلاثاء الموافق 1 أغسطس 2023م.

نشر مركز نهوض للدراسات والبحوث ملفًا بحثيًا جديدًا بعنوان “الأخلاق الإسلامية في عصر ما بعد الأخلاق”، ويضم الملف 15 مادة بحثية متنوعة في أربعة محاور، إيمانًا منه بضرورة الإسهام في النقاش الأخلاقي المعاصر، عبر تأطير المفاهيم، وتحليل طبيعة التحديات المعاصرة، وفحص مدى كفاية الدرس الفلسفي الأخلاقي المعاصر في الاستجابة لهذه التحديات.

وفيما يلي مقدمة الملف التي تبرز محتويات المادة العلمية بداخله:

“لقد تآكلت في هذا العصر القِيَمُ الدينية التقليدية، التي عرفتها المجتمعات والحضارات آلافًا من السنين، وتعرّضت المنظومات الأخلاقية الكبرى إلى تحديات نظرية وعملية هائلة منذ صعود التقنية والتصنيع وظهور النُّظُم الاجتماعية الحديثة وما صاحبها من صيغٍ علمية تطورية وطبيعانية، وصولًا إلى التحولات المتسارعة في مجالات الطب والجينوم والتواصل والفضاء والحروب وغيرها، والتي باتت تهدِّد المفاهيم الأساسية للتصورات الإنسانية (كالفطرة، والطبيعة البشرية، والهوية الإنسانية، والروح، والعلاقة بالأرض)، وتشكِّك في الأسس التي تقوم عليها النظريات الأخلاقية (المسؤولية، والإلزام، والحساب)، ولهذا وُصِفَ هذا العصر بأنه عصرُ “ما بعد الأخلاق”.

إن أسئلة ما بعد الأخلاق تتضمَّن داخلها ارتيابًا من الأخلاق المعيارية التي ينحصر دورها في تعيين قيمة الأشياء والأفعال انطلاقًا من مقولات: الخير والشر، أو المحمود والمذموم، إنها -أي ما بعد الأخلاق- لغة خَلْفَ اللغة الأخلاقية، ونزولٌ إلى أعماق المبادئ الأولى لإنارتها ومُكَاشَفتها.

إن العالم اليوم يشهد عصرًا جديدًا لم تعرفه الحضارة الإنسانية من قبل، فقد يصدق عليه أنه عصرُ ما بعد الواجب الذي جاء بنمطٍ أخلاقيٍّ مغايرٍ تمامًا للقيم الأخلاقية التي كانت تحكم المجتمعات البشرية، إنها أخلاق السعادة الفردانية التي تُعَدُّ المولود الشرعي لثقافة ما بعد الواجب التي جاءت مُعلِنةً عن انهيار الأخلاق المتعالية ومُبشِّرةً بأفول الواجب، وكان السبب المباشر لتجاوز هذا الواجب هو إعادة الاعتبار للذات البشرية، فبعد أن كانت تقوم بالواجب لأجل شيء ما بات يجب أن تقوم به لأجل ذاتها وفقط، وبعد أن كان الواجب يشكِّل إلزامًا وإكراهًا ونكرانًا للذات، حلَّت محلَّه حرية الاختيار، وباتت الذات معيار الواجب وَفق ما تمليه رغباتها، وكأن الأخلاق مجرَّد بحث عن الغايات السعيدة. فكل نظرية أخلاقية ربطت الخير باللذَّة أو السعادة أو المنفعة وأهملت جانبًا مهمًّا من جوانب الأخلاق، أَلَا وهو جانب الإلزام أو الواجب، وهذا ما أحدث الأزمات الأخلاقية التي يعيشها الإنسان المعاصر في عالم التطور التكنولوجي والصناعي، الذي ألغى أهمَّ معالم الإنسانية في بُعدها الأخلاقي والنفسي والاجتماعي، وأدخلها في دوامة أزمة حقيقية تسودها الفوضى والعبثية بإبعاها عن كينونتها الحقيقية. وقد كان لهذه الأزمات انعكاسات سلبية جعلت الإنسان مجرَّد كائن استهلاكي يعيش غربة وكآبة وخوفًا لم يعرفه من قبل، الأمر الذي يحتم علينا محاولة إيجاد حلٍّ لهذه الأزمة عن طريق البحث عن أخلاق إنسانية والوصول إلى “المجتمع السويّ”.

وفي ظل هذه السياقات، اهتمَّ مركز نهوض للدراسات والبحوث بضرورة الإسهام في النقاش الأخلاقي لعالم اليوم، عبر تأطير المفاهيم، وتحليل طبيعة التحديات المعاصرة، وفحص مدى كفاية الدرس الفلسفي الأخلاقي المعاصر في الاستجابة لهذه التحديات، وعبر العودة إلى مصادر الذات العميقة وتراثها الأخلاقي لاستنطاق مضامينه، وإبراز عناصره الأساسية، وتصوراته النظرية، وتجسُّدها في مسالك العيش التي عرفها المسلمون في حضارتهم وصاغوا بها ذواتهم، ثم الإقدام بجرأةٍ على معالجة هذه التحديات الأخلاقية، والبحث عن حلول ناجعة لها، ومعرفة ما يمكن أن يُحدثه التراث الإسلامي الأخلاقي والروحي أن يقدِّمه لنا نحن المسلمين، وللحضارة المعاصرة. فإذا كان البعض يرى أن الحضارة المعاصرة تعيش حالةً من التيه القِيمي، وتفتقد إلى أساس صلب للبنيان الأخلاقي، فإن في الإسلام (نصًّا وتاريخًا) نظامًا قيميًّا عميق الجذور، وإن كان يعاني التعطيل وعدم التفعيل في أجندة الحوار الأخلاقي المعاصر. 

ومن ذلك كله جاءت دعوة المركز للباحثين للإسهام في الملف البحثي المعنون: “الأخلاق الإسلامية في عصر ما بعد الأخلاق“. فلطالما اعتبر سؤال الإنسان من القضايا المحورية والأساسية في الوقت ذاته التي شغلت بالَ المفكرين والفلاسفة والباحثين في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، نتيجة الأبعاد الرئيسة التي يطرحها هذا المفهوم على الصعيد العالمي في ظل الرهانات الجديدة التي يعيشها العالم اليوم.

وفي هذا السياق، اقترح المركز جملةً من المحاور البحثية التي تجاوب معها الباحثون، فجاء المحور الأول بعنوانالنظرية الأخلاقية الإسلامية: المفاهيم والأصول“، ليتناول تأطير العائلة المفاهيمية لسؤال الأخلاق المعاصر: ماذا يعني مفهوم ما بعد الأخلاق؟ وما صلته بالمفاهيم المستجدَّة في النقاش الأخلاقي المعاصر؟ كما يهدف هذا المحور إلى البحث عن جذور المشكل الأخلاقي في الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة، من خلال تفحُّص أصول النظريات الأخلاقية لعصرنا ومدى كفايتها في التأسيس الأخلاقي على المستويين: الأدنى (العدل)، والأعلى (الإحسان)، وذلك عبر الإجابة عن سؤال: إذا كان الدين هو الأساس المتين للنظرية الأخلاقية، فهل هناك أساس ما بعد ديني للأخلاق في الفلسفة الغربية المعاصرة؟ وهل يمتلك هذا الأساس ما تحتاج إليه النظرية الأخلاقية من ثبات وقدرة على الإلزام وتوجيه السلوك الإنساني؟ ويهدف هذا المحور إلى البحث في مضامين النظريات الأخلاقية في التراث الإسلامي، واستنطاق أبرز مفاهيمها وتصوراتها عن النَّفْس والمجتمع والوجود، وذلك عبر إجراء حوارات فلسفية وأخلاقية داخل التراث الأخلاقي الإسلامي وبين أعلام تراثنا الأخلاقي والروحي وبين النقاشات الأخلاقية المعاصرة. فالبحث في التيارات والمدارس الإسلامية وتصوراتها عن الأخلاق من شأنه أن يُبرز تنوُّع المنظورات الأخلاقية الإسلامية وغناها، وتنوُّع مشاربها مع اتحاد أصولها، وأن يُبرز خريطة الحقل الدلالي للأخلاق الإسلامية ومفرداته المركزية، كما من شأن المقارنة عبر الزمان والمكان مع التصورات الأخلاقية الحديثة أن تُبرز راهنية الأخلاق الإسلامية وتجيب عن سؤال مدى قدرتها على التجدُّد والعطاء في عالم اليوم.

كما يتناول هذا المحور الاستجابات الأخلاقية (النظرية والتطبيقية) لعلاج الإشكال الأخلاقي المعاصر، ومناقشة أبرز الأطروحات النقدية والتأسيسية المعاصرة فيما يمكن تسميته بمحاولات التغلُّب على الأزمة الأخلاقية التي ضربت البنى الأصلية الدينية والبنى الفرعية العقلية أيضًا.

وانتظمت في هذا المحور ست ورقات، فجاءت الورقة الأولى بعنوان: “الأخلاق الإنسانية: ماهية أم هوية؟” للدكتورة سوسن العتيبي التي تناولت في البحث جدوى وضع الأخلاق تحت مقولتي الماهية أو الهوية، وما يتصل بهما من تبيين مفهومي الماهية والهوية وخصائصهما ومحل اتفاقهما ومحل اختلافهما، ودلالة الأخلاق في المجال التداولي الإسلامي، والتحقُّق من صحَّة رصف الأخلاق تحت الماهية أو الهوية، ومن ثَمَّ الخلوص لمعنى “الأخلاق” المتجاوز لمقولتي الماهية والهوية، باعتباره المجلّي للثوابت القيمية والأفعال الإنسانية المبتغاة.

أما الورقة الثانية فبعنوان: “أسس النظرية الأخلاقية في الفكر الإسلامي المعاصر: سؤال المرجعية النظرية للأخلاق عند محمد عبد الله دراز” للأستاذ عيسى بن بها، الذي تناول تحديات الفكر الإسلامي المعاصر المعقَّدة في مجال الأخلاق، التي تمثَّلت في تراجع القوة التأثيرية للأخلاق في حياة الانسان، ودخول الحياة الأخلاقية في حقبة جديدة توصَف بـ”ما بعد الأخلاق”. وقد جاء هذا البحث ليقارب سؤال أُسس النظرية الأخلاقية في الفكر الإسلامي المعاصر، وتحديدًا نظرية دراز القرآنية، وهي مقاربة ذات سياق مزدوج، تهدف إلى إخراج الفكر الأخلاقي الإسلامي من الجمود، وإلى إثبات قدرة الفكر القرآني على تأسيس نظرية أخلاقية متماسكة الأركان.

وجاءت الورقة الثالثة في هذا المحور بعنوانالأبعاد الأخلاقية للدرس المقاصدي المعاصر: طه عبد الرحمن أنموذجًا” للأستاذ ربيع رحومة، الذي تتبَّع لحظة مهمة من مسيرة الدرس المقاصدي المعاصر مثَّلتها جهود البروفيسور طه عبد الرحمن؛ إذ قدَّم إسهامًا إبستيمولوجيًّا جادًّا في علم المقاصد يهدف إلى تأسيسه على قواعد فلسفته الائتمانية، فكان إسهامًا ذا أبعاد أخلاقية واضحة في مختلف تفاصيله، مرتبطًا بالتراث الأصولي وينقد الحداثة ويتجاوزها، منشغلًا بالهاجس المنهجي، قاصدًا بذلك كلِّه محاولةً تأسيسيةً يضربها في عمق الدرس المقاصدي.

وأما الورقة الرابعة في هذا المحور فكانت ورقة مترجمة للدكتور عمر فرحات، بعنوان: “الزمان والخيار اﻷخلاقي في علم أصول الفقه الإسلامي“، وترجمها الباحث خالد أبو هريرة. وقد تناولت الورقة كيفية تقديم الشريعة الإسلامية لمفاهيمها الخاصة حول الزمان، كون الدراسات الحديثة حول الشريعة لم تُولِ اهتمامًا كبيرًا لمثل هذه المفاهيم. وتجادل هذه الورقة بأن علم أصول الفقه الإسلامي قد فهم الزمان من زاوية أخلاقية، وليس كوعاء محايد أو مجرد خلفية للأفعال، وإنما كسلسلة من الفرص التي يجري التعبير فيها عن سلطة الوحي الإلهي والتفكير الأخلاقي الإنساني.

وجاءت الورقة الخامسة في هذا المحور بعنوانعودة التنوير الراديكالي والتحول ما بعد الأخلاقي: نقد عربي إسلامي ديكولونيالي للإبادة الأخلاقية” للدكتور رشيد بن بيه، الذي استند فيها إلى منظور ديكولونيالي تحرُّري عربي إسلامي لدراسة موضوع ما بعد الأخلاق، وانطلق من عصر التنوير لفهم جذوره، وحاجج بأن ما بعد الأخلاق ليست إلا استنباتًا لمنظور التنوير الراديكالي للأخلاق. وفسَّرت الدراسة الظروف المسؤولة عن التحوُّل ما بعد الأخلاقي، وتوقفت بالتحليل عند مواقف مفكرين وصفوا حالة المجتمع ما بعد الأخلاقي بتوصيفات لا ترسم حدودًا واضحة بين الخير والشر. وبيَّنت أن ما بعد الأخلاق لا تعني لدى المفكرين الأخلاقيين العرب والمسلمين إلغاء الأخلاق الدينية، وإنما تعني النظر أبعد من أخلاق الحداثة.

واختتم هذا المحور بالورقة السادسة التي جاءت بعنوان: “الأخلاق الإسلامية في عصر ما بعد الأخلاق: رؤية ديكولونيالية” للأستاذ المولدي بن عليّه، الذي تناول فيها نقد تيار التقليدية الجديدة للأخلاق الحداثية وما بعد الحداثية كما أرساها رينيه غينون وطوَّرها لاحقًا سيد حسين نصر. وترصد الاستتباعات الإبستيمولوجية لهذا النقد على منهجية العلوم الاجتماعية والإنسانية. وتبيِّن أن هذا النقد يفرض تصورًا جديدًا للأخلاق الإسلامية وللعلاقة بين ما هو تقليدي وما هو حداثي على قاعدة الاختلافات الحضارية، وهي علاقة يتضمَّنها موقف إبستيمولوجي طريف، بلوره على نحو عميق سيد حسين نصر في جُلِّ كتاباته.

أما المحور الثاني فجاء بعنوان: “في أخلاق الذات والتواصل“. وقد تناول هذا المحور محاولة إيجاد صيغٍ للعيش المعاصر في عصر التواصل الفائق ومعالجة الإشكال الأخلاقي والقِيمي في ألصق وجوهه بالإنسان وتجربته المعيشة. فمنذ صعود التقنية الصناعية، بدأت أمارات النزعة الفردانية بالنموِّ في المدن الحديثة، التي فصلت الإنسان عن محيطه الطبيعي والاجتماعي، وأحالت علاقته الوجاهية والتكافلية إلى علاقات تعاقدية مؤطّرة القانون (اللاشخصي). وإذا كان النقد الأخلاقي والفلسفي قد تناول هذه الظاهرة في تأثيرها في قدرة الإنسان على التأمُّل والتسامي والإحسان الأخلاقي، فإن تسارع التطور التقني، وتزايد إيقاع الاستهلاك الرأسمالي، ومستجدات تقنيات التواصل الاجتماعي (وآخرها الميتافيرس)، قد أفرزت صيغًا ما بعد إنسانية من التواصل مع الآخر ومع الذات.

واخترنا في هذا المحور دراستَيْن، الأولى بعنوان: “سؤال النقد الأخلاقي التواصلي والتعارفي في عصر ما بعد الأخلاق” للدكتور عبد الرحمن العضراوي، وتتلخص فكرة هذه الدراسة في اتخاذ منهج المقاربة التحليلية للنقد الأخلاقي المتعلِّق بنظرية الأخلاق التواصلية الهبرماسية، وبنظرية الأخلاق التعارفية القائمة على الميثاقية التكاملية الإشهادية والاستئمانية والإرسالية. وتأتي نظرية الأخلاق التواصلية في سياق نقدي يعمل على تجاوز فلسفة كانط الأنوارية والحداثية، وذلك بإخراج النقد الأخلاقي من بُعده الذاتي إلى بُعده الاجتماعي، وجعله في قضايا الثقافة والعلم والمجتمع.

وأما الدراسة الثانية في هذا المحور فبعنوان: “المأزق الحداثي وفقدان البوصلة الأخلاقية: في الحاجة إلى أخلاق إحسانية” للدكتور عبد الرحيم الدقون، الذي تناول محاولة الخوض في بعض المسائل الأخلاقية المعاصرة من منظور مقارن، حيث توقف عند النقد الفلسفي الغربي لبعض ملامح التوعكات التي أصابت الحداثة في عمقها الأخلاقي، وفي مقدمتها الفردانية والإذلال الذي ما برح يتعرض له الفرد في المجتمعات المعاصرة. وفي هذا الإطار، تقترح الدراسة الانفتاح على البُعْد الإحساني الحاضر في الأخلاقيات الإسلامية، متجليًا في أخلاق الإحسان مثلما بلورها العز بن عبد السلام.

ثم يأتي المحور الثالث في هذا الملف ليتناول الأخلاق الاجتماعية والسياسية، ويهدف هذا المحور إلى محاولة الإجابة عن علاقة الأخلاق بالسياسة وإمكانية القبول ببعض القواعد التي تحكمها في حقلٍ تكاد أدبياته ووقائعه أن تستبعد الأخلاق جملةً وتفصيلًا من اعتبارها. فقد دأبت جُلُّ مدارس علوم السياسة والاجتماع والعلاقات الدولية على تدبير شؤون الاجتماع بين البشر، أفرادًا وجماعات وأممًا، عبر النظر في آليات إدارة الصراع الحتميِّ بين الفاعلين المتنافسين على الموارد والنفوذ والمصالح، وأخذت النظريات الواقعية والبنائية تضع “المصالح المجرَّدة” فوق كلِّ اعتبار لصياغة السلوك السياسي “العقلاني” للدول والفاعلين السياسيين، في الوقت الذي انحسرت فيه القيم الأخلاقية لتصبح ورقةً في الدعاية السياسية. ومن المفيد التأكيد هنا على أنه عند الحديث عن العلاقة بين الأخلاق السياسية، فنحن لا نستند على الأخلاق الفردية بل الأخلاق الاجتماعية، ويضمُّ هذا المحور خمس دراسات:

جاءت أولاها بعنوان: “علمنة التجربة الأخلاقية الإسلامية: بين الإمكان والاستحالة: قراءة في مقاربة وائل حلاق” للدكتورة نزهة بوعزة، التي تناولت فيها النموذج الحداثي الغربي باعتباره نموذجنا الإرشادي في تحقيق نهضة إسلامية، وهي تبعية ولَّدتها الحركات الاستعمارية، ومن ثَمَّ استوطن في فكرنا ضرورة استلهام الحداثة الغربية، متناسين مسألة السياق التاريخي الحداثي الغربي، وكذا خصوصية التجربة الإسلامية. لكن الأزمنة الحداثية التي كانت مشعلًا لتحقيق نهضتنا تعيش اليوم على وقع تراجعٍ مهولٍ في القيم الأخلاقية؛ إذ أنتجت عملية تهميش الجانب الديني وإرجاع الوازع الأخلاقي للإنسان فراغًا قيميًّا. وخلصت الباحثة إلى أهمية عودة القيم الأخلاقية في الفكر المعاصر، وهي مسألة تناولها العديد من الفلاسفة المعاصرين، ويُعَدُّ وائل حلاق -في رأي الباحثة- أبرز مفكر استطاع أن يعيد ما جرى تهميشه إلى الصدارة.

وجاءت الدراسة الثانية في هذا الملف بعنوان: “لا أخلاقية عقوبة السجن في الفكر الإسلامي: مقاربة بين المفكر الباكستاني جواد غامدي والحقوقية الأمريكية أنجيلا ديفيس“، وهي ورقة مترجمة للبروفيسور عدنان ذو الفقار ترجمها الباحث جابر محمد، تناول فيها الطبيعة الخاصة للسجون في النظام الجنائي الأمريكي التي أضحت محلَّ نقاشٍ حادٍّ خلال السنوات القليلة الماضية، والتي طالت السجون خلالها سمعة سيئة للغاية. ولذا لقيت حُجَّةُ إلغاء السجون ترحابًا واسعًا، وأصبحت موضوعًا للنقاش في العديد من الحوارات العامة، والكثير من المقالات العلمية. وتركِّز معظم هذه المناقشات على تشخيص أسباب الاعتماد المبالغ فيه على عقوبة السجن. وتحاول هذه الورقة البحثية أن تستكشفَ أحدَ هذه الانتقادات التي تمثِّل مسارًا في التفكير الداعي إلى إلغاء منظومة السجن في الفقه الإسلامي. فإذا كان الخطاب الأمريكي منشغلًا بحملة إلغاء السجون كعلاج لتضخم منظومة السجن، فإن الخطاب الإسلامي لم ينشغل بهذا المقصد، بل انتقد مؤسسة السجن لذاتها.

أما الدراسة الثالثة فبعنوان: “قيمة إفشاء السلام في التحول الذهني للإنسان المعاصر” للمهندس عبد الحكيم السلماني بوعيون، الذي تناول فيها تأصيل الصياغة العلمية لقيمة “إفشاء السلام” (كفعل نفسي واجتماعي) وأثرها في التحول الذهني للإنسان، حيث يعيش الإنسان المعاصر تحت وابلٍ من القصف الدعائي لأحادية تفسير الفعل الاجتماعي المبني على آليات تدبير الصراع والعقلانية المقتصرة على إشباع الرغبات المادية. ويركِّز التحليل على حاجتين أساسيتين: “الرغبة في التنافس” و”الرغبة في التعاون”، ثم يتطرق للتصرفات النفسية-الاجتماعية من حيثُ كونها استراتيجيات مختلفة لتلبية الرغبات الأساسية، ومدى تأثير المناخ الثقافي العام في التحوُّل الذهني للفرد لتحديد اختياراته وتفاعلاته الاجتماعية.

وأما الدراسة الرابعة فدراسة مترجمة للأستاذ الدكتور أنيس أحمد بعنوان: “نحو أخلاق عالمية لِعالم العولمة“، ترجمها الدكتور حمدي الشريف. وتطرقت الدراسة إلى أن الأخلاق الإسلامية تعترف بدور الحدس والعقل والعادات والتقاليد، طالما أن الأخيرة تستمدُّ شرعيتها من المبادئ الإلهية، ولعل أهم ما يميِّز الأخلاق الإسلامية أنها تدعو -أولًا وقبل كل شيء- إلى مبدأ التماسك والوحدة والتآلف في الحياة. أما المبدأ الأخلاقي التأسيسي الثاني، الذي تدعو إليه فيتمثَّل في الأمر بالعدل، أو القسط والإنصاف والإحسان في الحياة. ثم يأتي احترام الحياة وتعزيزها كمبادئ تالية مرتبطة ومقترنة بالمبادئ السابقة.

وأما الدراسة الأخيرة في هذا المحور فكانت بعنوان: “التأريخ كرهان أخلاقي: علم التاريخ وإنتاج الذوات الأخلاقية” للأستاذ محمد البشير رازقي، الذي تناول فيها التاريخ بوصفه علمًا، ورأى أنه العلم الأفضل والأمثل والأكثر تأهيلًا لفهم زبدة الممارسات الأخلاقية للجنس البشري، خاصةً في عصر “ما بعد الأخلاق” لا فقط دراستها وتأريخها، بل قدرة هذا العلم على توريثها وإعادة إنتاجها، وخاصةً بناء الكائنات/الكينونات الأخلاقية. إذا لا يمكن لنا أن نشكِّل الذوات الأخلاقية اليوم بمعزِلٍ عن علم التاريخ.

وجاء المحور الرابع والأخير في هذا الملف بعنوان: “في أخلاق الجسد والفطرة“، ليتناول التحديات التي تواجه منظومة الأخلاق التقليدية في مجالات تطبيق الأخلاق، أو في إحلال منظومات أخرى محلّها، كون التحدي بات يمسُّ الأُسس والتصورات العميقة التي يقوم عليها البنيان الأخلاقي نفسه. إذ لا يستطيع المتأمِّل في أسئلة الأخلاق المعاصرة أن يتجاهل ما تنادي به المساعي العلمية من إعادة تشكيل الطبيعة البشرية تشكيلًا جديدًا. لقد غدت قضايا الأدوار الجندرية وتغيير الجنس وطبيعية الميول المتعدِّدة قضايا مفروضةً على أجندة الحقوق العالمية. فإذا كانت الأسرة في الإسلام -وفي غيره من الأديان أيضًا- تقع في قلب الرؤية الأخلاقية عن المجتمع، فإن مفهوم الأسرة بات مُهدَّدًا بألوان هجينة من الأُسر. لقد باتت الافتراضات البنائية مهيمنةً على ساحة النقاش الأخلاقي الغربي؛ إذ لم تعُد لمفاهيم “الفطرة” أو “الروح” صلاحية “علمية”، في وجه النزعات القائلة بإمكانية التشكيل الاجتماعي المستمرّ للذوات.

ويتكوَّن هذا المحور من دراستين جاءت الأولى بعنوان: “الأخلاق الإسلامية والجينوم من منظور اللاهوت العملي” للدكتور معتز الخطيب، الذي تناول فيها مفهوم الأخلاق وصلته بالدين من منظور اللاهوت العملي (practical theology)، أي إنه يرصد أبعاد التداخل بين مفهومي الأخلاق والدين على مستويين: المستوى النظري المتمثِّل بما بعد الأخلاق (meta-ethics) ومفاهيم مركزية أخرى، والمستوى التطبيقي الذي يرصد النقاشات الفعلية لأشكال الممارسة الصالحة أو المُبرَّرة أخلاقيًّا ودينيًّا. وقد جاءت معالجة الموضوع من خلال مسألة حديثة ومعقَّدة هي “التجيين” (geneticization)، أي ظاهرة المقاربة الجينية للجسد الإنساني بما تشتمل عليه من تدخلات (التدخل الجيني).

وجاءت الدراسة الثانية في هذا المحور بعنوان: “النقد الائتماني للنموذج الثقافي الحديث: نحو عصر أخلاقي” للدكتور عادل الطاهري، الذي تناول فيها أزمةَ العصر الحديث في القيم التي نجمت عن تنحية المقدَّس الديني واتخاذ منظومات قيمية جديدة تدين بمرجعيتها للعلم الوضعي أو للفلسفات المختلفة، وما قدَّمه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن من نقد لهذه النظريات الحديثة المجافية للحِس الأخلاقي في شقيها العلمي والفلسفي الثقافي، من منطلق المسؤولية الفكرية والأخلاقية للفكر الإسلامي المعاصر.

وأخيرًا، نختم هذا الملف بحوار نقديّ مع الدكتور عبد الرزاق بلعقروز، الأستاذ المحاضر في فلسفة القيم والمعرفة في جامعة سطيف 2، الجزائر، حيث تطرقنا إلى جملة من أعماله في مجال فلسفة الأخلاق، التي تناول فيها جذور أزمة القيم المعاصرة ومظاهرها والاجتهادات الفلسفية لدرء آفاتها، وآفاق الاستفادة من التراث الروحي والأخلاقي الإسلامي لعلاج الأعطاب الأخلاقية للحداثة.

وفي الختام، يأمل مركز نهوض للدراسات والبحوث أن تُسهم هذه المقاربات -على تنوّعها، وعلى اختلاف مآلاتها ونتائجها- في الوصول إلى إجابات عن الأسئلة التي طرحها هذا الملف، ونكون قد رسمنا من خلاله خريطة لأبرز التحديات والحلول لبعض ما فَرَضته أجندة ما بعد الأخلاق على الأديان عامَّة، وعلى الإسلام خاصَّة. ونتمنَّى أن نكون قد شخَّصنا المشكلة بعمقها، وصحَّحنا بعض التصورات عنها، وقلَّلنا من حالة التِّيه القِيمي المعاصر من أجل تحصين مجتمعاتنا وتوليد مسارات فكرية وتربوية بديلة، وفتحنا آفاقًا للحوار الأخلاقي العالمي.”

رابط مباشر لتحميل الملف

توفي أمس (في الرابع والعشرين من يوليو عام 2023) أحد أعلام الاقتصاد الإسلامي، وهو الأستاذ الدكتور علي السالوس، عن عمر يناهز 89 عامًا.
تخرج السالوس في كلية دار العلوم، ونال منها درجتي الماجستير والدكتوراه في الشريعة الإسلامية.
وكان آخر ما شغل الفقيد هو منصب أستاذ الفقه والأصول والأستاذ الفخري في المعاملات المالية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي في جامعة قطر.
وقد ترك الشيخ السالوس العديد من الكتب والبحوث في الفقه الإسلامي وفي الفقه المقارن، مثل: “المعاملات المالية المعاصرة في ميزان الفقه الإسلامي”، و”الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة” (في جزئين)، “الكفالة بين الفقه والقانون”، وغيرها.