تعد رسالة "العرف والعادة في رأي الفقهاء" للشيخ أحمد فهمي أبو سنة[1] -رحمه الله- أول رسالة علمية (دكتوراة) نوقشت في قسم الأستاذية بالجامع الأزهر، في 20 يناير عام 1941م، وكانت برئاسة المغفور له الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وتشكلت لجنة المناقشة من عدد من كبار علماء الأزهر الشريف، وهم الشيوخ: عبد المجيد سليم [شيخ الأزهر فيما بعد]، أحمد بك إبراهيم، محمود شلتوت[شيخ الأزهر فيما بعد]، يوسف المرصفي، وحصل بها الباحث على شهادة العالمِية "من درجة أستاذ في الشريعة من الجامع الأزهر"، كما جاء في غلاف الرسالة التي نُشرت من قبل مطبعة الأزهر عام 1947م.
ويدور موضوع الرسالة حول العرف ومدى صلاحيته للاستدلال به ورأي الفقهاء في ذلك، وعلاقة العرف بفقه المذاهب، وتعارض العرف مع الأدلة الشرعية وأهم الأحكام المبنية على العرف والعادة، وأثر العرف في التشريع، وهل يكون العرف سببًا من أسباب الخلاف بين الفقهاء؟
وأجاب الشيخ أبو سنة في خاتمته للرسالة عن بعض هذه التساؤلات، حيث جاءت الخاتمة على النحو الآتي:
كلمة عن أثر العرف في التشريع وهل يمكن عده من أسباب الخلاف؟:
ذكرت آثار العرف المختلفة في غضون ما تقدم من الموضوعات، وأختم هذا البحث بإجمال هذه الآثار، كلها آيات بينات على سماحة التشريع وتوسعته على الناس وصيانته للحقوق، ويمكن حصرها في اثني عشر.
الأول: إقرار التشريع للعرف القائم في الأمة لصلاحه واستقامته، ولما في هذا من التيسير على المكلفين، كما كان من إقرار الكتاب والسنة لبعض العوائد العربية كالبيع والمضاربة والمكافأة بين الزوجين، وإقرار المجتهدين لبعض العوائد في البلاد المفتوحة من أمتي الفرس والرومان وغيرهما كتدوين الدواوين وبعض الشروط في البيع.
الثاني: جعله دليلاً على مشروعية الأحكام ظاهرًا، وهو في الواقع ليس بدليل، بل الدليل أصل من أصول الفقه، لكنه اكتسب اسم العرف لأنه هو العامل على وجوده كالإجماع العملي وبعض المصالح المرسلة، أو لأن التعامل جرى على ما أفاده الدليل من قرآن، أو سنة أو إجماع أو قياس.
الثالث: جعله علة ظاهرة للحكم كما في الإجارة، فإن علة صحتها الظاهرة في غير مورد النص هي العرف، والعلة الحقيقة هي الحاجة.
الرابع: جعله مقياسًا يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة كالنفقة والمعيار في الربا وما تحصل به الرؤية الموجبة للخيار في البيع، وتأثيره في هذه الناحية واسع قوي.
الخامس: تأثيره في تكوين الحكم الذي يستنبطه المجتهد أو يخرجه المفتي، كما أظهر هذا في بيع النحل وصبغ الثوب المغصوب باللون الأسود.
السادس: تأثيره على الأدلة الشرعية بالتخصيص والتقييد كالاستصناع وبيع الثمار عند وجود بعضها دون البعض، ولكن الأثر في هذه الحالة منسوب إليه في الظاهر، والواقع أن التأثير لأصل شرعي يكافئ الدليل المعارض له أو يترجح عليه.
السابع: أن النص قد يكون معللاً بالعرف أو بعلة مرجعها إليه، ثم تتغير العلة بتغيير العرف، فيظهر تغير الحكم الذي تضمنه النص؛ فمثال الأول: ما روي عن أبي يوسف من بناء المأثور في معيار الربا على العرف، ومثال الثاني: قضاؤه صلى الله عليه وسلم بالدية على عصبة القاتلة فإنه معلل النصرة التي يرجع في معرفتها إلى العرف، وقد كانت في عهده بالعصبة صلى الله عليه وسلم، ولما كانت في عهد عمر بالديوان، لتغير العرف، جعلها عمر على أهله.
الثامن: أن يكون سببًا لعدول عن ظاهر الرواية من المذهب، وسببًا كذلك للترجيح بين أقوال الأئمة التي استنبطت بوجه شرعي صحيح، وهذا منصب العالمين بمباني الأئمة أصحاب المذاهب والمتأهلين للنظر فيها، أما غيرهم فليس لهم إلا نقل ما رجحه الفقهاء في الكتب المعتبرة بطريق الرواية، وهذه ناحية تحدث بأفصح لسان عن خصوبة الفقه وفتوته وجدارته للحكم بين الخلق متى كانوا وأين كانوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وتقع ألسنة الذين يجاهرون بالباطل في بلاد الإسلام ويرضون بغير حكم الله.
ولعمري إن الفقه لا يبلغ مثله الأعلى إلا بالقضاء بأحكامه، لأن فيه وفيما يقوم حوله من المرافعات وعرض الخصومات مواجهة لمشاكل الحياة ومعرفة ما يجعلها من نظريات الفقه وآراء الفقهاء، ففي القضاء تكميل للفقه بترجيح الآراء التي تضمن المصلحة، وتخريج الأحكام التي تستدعيها الظروف الحادثة، وقد فصلت فيما تقدم أنواع العرف الأربعة، وشرحت معنى اعتبار الفقهاء لها، وكلها صالحة في هذا العصر الذي انتعش فيه الفقه لجعلها مبنى للأحكام.
التاسع: أنه يرجع إليه في فهم معاني الكتاب والسنة بما هو المعهود عند العرب في مخاطباتهم ومعاملاتهم.
العاشر: أنه يحدد مراد المتصرفين، فيجري الشارع أحكام تصرفاتهم على ما يفيده العرف كما في العقود والطلاق واليمين.
الحادي عشر: أن يكون قرينة تظهر الحق من الباطل والحلال من الحرام، وأكثر ما يكون ذلك في الإفتاء والقضاء، كتحكيمه في اللقطة وعيوب المبيع.
الثاني عشر: اتساع المجاميع الفقهية، فإنها لم تقتصر على أحكام النوازل التي فصل فيها القرآن والسنة، بل دونت فيها أحكام العادات التي جرت في الأمم المسلمة على مر العصور، فإنه لما فتحت الممالك وانتشر الإسلام، عرضت على المجتهدين عادات مدنية وفارسية ورمانية ومصرية وإفريقية في مختلف مسائل الفقه، كالمهر وجهاز الزوجين وبيع الثمار، وما يدخل في المبيع تبعًا وما لا يدخل، والاستصناع والإجارة على نسيج الثياب وخياطتها وصبغها، والشروط في العقود وصيغتها ولعبة الشطرنج لم تكن هذه العادات معروفة في عهد الرسالة، وكانت محل اجتهاد المجتهدين وإفتاء المفتين، ثم جمعت في المؤلفات الفقهية على أنها آثار وفتاوى يجب العمل بها.
الكلمة الأخيرة: هي: هل يكون العرف سبباً من أسباب الخلاف بين الفقهاء؟
لم يعده من أسباب الخلاف البَطَلْيُوسي في كتابه الإنصاف، ولا ابن تيمية في رسالته رفع الملام، وذكر الشاطبي في الموافقات أنه لا ينبغي إن يعد اختلافًا بين الأئمة إلا ما كان خلافًا على الحقيقة، فما كان ظاهره الخلاف والواقع الوفاق فحكاية الخلاف فيه خطأ، ونحن كثيرًا ما نرى العرف منشأ للاختلاف بين الأئمة لاختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، كاختلاف الإمام وصاحبيه في تزكية الشهود، وتحقق الإكراه من غير سلطان، واعتبار الكفاءة في الحرف، ولا يكون هذا خلافًا على الحقيقة، إذ لو شاهد كل إمام ما شاهد آخر لقال بما قال. فأخذًا بكلام الشاطبي ينبغي أن لا يُعد العرف من أسباب الخلاف. والظاهر أن فقهاءنا على هذا الرأي، إذ كثيرًا ما يقولون في المسائل التي تختلف الآراء فيها لاختلاف العادات: وهذا اختلاف في عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. اللهم إلا في بعض مسائل يكون العرف فيها من أسباب الخلاف على الحقيقة، كاختلاف الشافعية في أن المعروف كالمشروط، فإنه ترتب عليه خلاف حقيقي بينهم في بعض الفروع كما تقدم في ص١٧٠.
وبعد فهذه نظرية العرف والعادة عند الفقهاء، مؤيدة بأصول الدين، معضدة بكلام الثقات من علماء المسلمين، أعرضها على الناس في وضوح ليطالعوا فيها سمو الفقه وسماحته وعدالته، ويقفوا بها عليه مبلغ ما وصل إليه فقهاء المسلمين من نيل التفكير وحصافة الرأي وحسن الاستنباط، ويؤمنوا بأن شريعة السماء هي وحدها التي يجب أن تتصدر للحكم بين الناس، وهي وحدها التي يجب أن تستمد منها التشريعات المدبرة لأمر الأفراد والجماعات.
وهذا آخر ما أمكنني الوصول إليه في بحث هذا الموضوع بعد قراءات واسعة وبحوث شاقة، في الحق أني مستقل هذه النتيجة الضئيلة معها، ولكن إن كان الله قد وفقني إلى الصواب فقليل الصواب كثير. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والصلاة والسلام على رسوله العظيم.
تقسيمات الدراسة:
المقال الأول: المقدمات.
المقال الثاني: معنى العرف ودليله.
الفصل الأول: العرف الذي يكون دليلاً على مشروعية الحكم ظاهرًا.
الفصل الثاني: العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث.
الفصل الثالث: العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف.
الفصل الرابع: العرف القولي.
المقال الثالث: شروط اعتبار العرف
المقال الرابع: مدى احترام الشريعة للعرف
الفصل الأول: مراعاة الفقه في طوري الوحي والاجتهاد.
الفصل الثاني: منزلة العرف من الفقه.
المقال الخامس: تبدل الأحكام بالعرف والعادة.
الفصل الأول: تعارض العرف والأدلة الشرعية.
الفصل الثاني: تعارض العرف والعاد مع نصوص المجتهدين.
المقال السادس: العرف والعادة في الفتيا والقضاء.
المقال السابع: تعارض العرف واللغة.
المقال الثامن: أهم الأحكام المبنية على العرف والعادة.
الفصل الأول: المعقود عليه والبدل.
الفصل الثاني: صيغة التصرف.
الفصل الثالث: موجب الخيارات والحقوق.
الفصل الرابع: التعدي.
الخاتمة.
رابط مباشر لتحميل الدراسة
[1] الشيخ أحمد فهمي أبو سنة (1909م-2003م): أستاذ علم أصول الفقه الإسلامي بجامعتي الأزهر وأم القرى، حصل على شهادة العالمية الأزهرية بدرجة أستاذ في 20 يناير 1941م، وذلك عن أول كتاب وضعه عن "العرف والعادة في رأي الفقهاء والأصوليين"، وله العديد من المؤلفات والأبحاث، منها: كتاب "الوسيط في أصول الفقه"، وكتاب "نظرية الحق في الفقه الإسلامي"، وبحث "حقوق المرأة السياسية في الإسلام" ... الخ.