تعُرَّف جريمة الحرب المتمثلة في التجويع في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأنها: «استخدام تجويع المدنيين وسيلةً من وسائل الحرب عمدًا من خلال حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك تعمد إعاقة إمدادات الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف»، ولا تشمل المواد التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة الغذاء فحسب، بل تشمل أيضًا الماء والدواء والمأوى. ولا يعد موت الأفراد جوعًا شرطًا لتحقق ارتكاب الجريمة، بل يكفي حرمانهم من المواد التي لا غنى عنا لبقائهم على قيد الحياة.
سياسة التجويع جريمة حرب وإبادة:
عُرفت سياسة التجويع كوسيلة من وسائل الحرب منذ زمن بعيد، بدءًا من الحصار وحتى قطع المياه بهدف الضغط على العسكريين لإجبارهم على الاستسلام، إلا أن هذه السياسة وخاصة بعد الحربين العالميتين اعُتبرت أمرًا غير أخلاقي، فحظرت العديد من مواثيق القانون الدولي –كالقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني- استخدام التجويع كوسيلة في جميع النزاعات المسلحة، بينما اعتبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عام 2018 سياسة تجويع المدنيين جريمة حرب، كما نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على ذلك أيضًا. ولا يتطلب القصد الإجرامي اعتراف المهاجم، بل يمكن أيضا استنتاجه من مجمل ملابسات الحملة العسكرية، إلا أنه حصر هذه الجريمة بالنزاعات المسلحة الدولية.
في تصنيف تاريخي مقارن، حددت "أنا وبريدجيت كونلي" تسعة أغراض للتجويع بالنسبة للجهات الفاعلة السياسية والعسكرية التي ترتكبها على نطاق واسع، وأول خمسة منها هي: الإبادة أو الإبادة الجماعية، والسيطرة من خلال إضعاف السكان، واكتساب السيطرة الإقليمية، وطرد السكان، والعقاب.
تداعيات سياسية التجويع الصحية:
تبدأ المجاعات عندما يُحرم المدنيون من الحصول على ما يكفي من السعرات لمواكبة احتياجات الجسم من الطاقة نتيجة فقر، أو صراعات عسكرية، أو حصار أو غيره، وفي هذه الحالة ينتقل المدنيون غالبا لاستهلاك الموارد المتاحة والتي لم تكن تعتبر في السابق "طعامًا"، كبعض النباتات وعلف الحيوانات.
ومع انخفاض كمية ونوع الغذاء الداخل للجسم، يحاول الجسم في الأيام الأولى التأقلم مع هذا النقض كما يحدث في حالة الصيام، إلا أن استمرار هذا النقص لفترة طويلة تجعل الجسم يلجأ لاستنفاد موارده الاحتياطية كالدهون والمعادن والفيتامينات، وعندما لا يجد الجسم ما يأكله يبدأ بالتغذية على نفسه، حيث يقوم باستهلاك مخازن البروتين في العضلات بما في ذلك عضلة القلب.
تتسبب المجاعة ونقص الغذاء بمشاكل صحية فيتقلص حجم القلب والرئتين والمبيضين والخصيتين نتيجة تقلص العضلات، ويحاول الدماغ حماية الجسم عن طريق تقليل بعض الوظائف الحيوية، مثل عملية الهضم مما يؤدي إلى الإسهال، إلا أن ذلك يتسبب بموت الخلايا العصبية وفقدان المادة الدماغية، وهو ما يتسبب بضرر لا يمكن علاجه وخاصة عند الأطفال، كما تتسبب المجاعة بتغيرات سلوكية واضحة فيصبح الشخص سريع الانفعال أو لا مبال أو خامل، يتعذر عليه التركيز، وقد يعاني في المراحل المتأخرة من المجاعة من الهلوسة والتشنجات واضطرابات في ضربات القلب، تنتهي بتوقفه.
يحتاج أولئك الذين اختبروا حالة المجاعة إلى خطة علاج متكاملة، حيث قد لا يكون كافيا توفير الطعام المناسب لهم لاحقًا، ومن الضروري إجراء فحص طبي شامل لتقييم الوضع، الذي قد يستدعي في بعض الأحيان دخول المستشفى أو الخضوع لبرنامج علاجي طويل لمعالجة الأمراض أو الالتهابات الكامنة، بالإضافة إلى برنامج غذائي متدرج يقدم لهم بعض الأطعمة العلاجية، مثل عجينة زبدة الفول السوداني المغذية بالكامل، والحليب الجاف الخالي من الدسم، ومجموعة واسعة من الفيتامينات والمعادن.
تجويع المدنيين والمعايير الدولية:
تجويع المدنيين كأسلوب الحرب محظور بموجب المادة 54 (1) من "البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف" والمادة 14 من "البروتوكول الإضافي الثاني". رغم أن بعض الدول ليست طرفا في البروتوكول الأول والثاني إلا أن الحظر معترف به باعتباره يمثّل القانون الإنساني الدولي العرفي في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. لا يجوز لأطراف النزاع "التسبب عمدا [بالتجويع]" أو التسبب عمدا في "معاناة السكان من الجوع، ولا سيما عبر حرمانهم من مصادر الغذاء أو الإمدادات".
يُحظر على الأطراف المتحاربة أيضا مهاجمة الأهداف التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل الإمدادات الغذائية والطبية، والمناطق الزراعية، ومنشآت مياه الشرب. الأطراف ملزمة بتسهيل تقديم المساعدة الإنسانية السريعة ودون عوائق إلى جميع المدنيين المحتاجين، وعدم عرقلة المساعدات الإنسانية عمدا أو تقييد حرية حركة موظفي الإغاثة الإنسانية.
وتنص المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية على أن إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية.
وتنص المادة 55 و59 على ضرورة تموين السكان بالمؤن الغذائية وألا تحول الدول دون وصول الإمدادات الغذائية، والسماح لعمليات الإغاثة لمصلحة السكان.
وأشار نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقاعدة 156 من القانون الدولي الإنساني العرفي إلى أن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تشكل جرائم حرب. ويقع ضمنها استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، بحرمانهم من أشياء لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك إعاقة تزويدهم بمؤن الإغاثة.
سياسية التجويع في الشريعة الإسلامية:
ذهب الفقهاء إلى أنه لا يجوز لإنسان أن يمنع عن آخر طعامًا أو شرابًا، حتى إذا كان مسجونًا، فإنه يجب عليه أن يدفع إليه الطعام والشراب وما تقوم به حياته. قال الإمام أبو يوسف في "كتاب الخراج": لم تزل الخلفاء تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم وإدامهم، وكسوتهم الشتاء والصيف، وأول من فعل ذلك علي بن أبي طالب بالعراق، ثم فعله معاوية بالشام، ثم فعله الخلفاء بعده. بل نص الفقهاء على أن من منع الطعام عن سجين عمدًا، وكان السبب في موته، فإنه يقتل به؛ لأنه يكون ظهر منه قصد موته. ففي فقه الشافعية والحنابلة: ولو حبس أحد آخر ومنعه الطعام والشراب، حتى مات، فإن مضت مدة يموت مثله فيها غالبًا جوعًا أو عطشًا، فيكون حكمه حكم القتل العمد، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس من حيث القوة والضعف والزمان حرًا وبردًا، وهذا مراعاة لحال الأطفال والنساء بخلاف الرجال، ففقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد.
وإن لم تمضِ المدة المذكورة فإن لم يكن بالمسجون جوع وعطش سابق على الحبس فيكون القتل شبه عمد، وإن كان به بعض جوع وعطش سابق على الحبس، فيأخذ حكم القتل العمد، فيقتل به. وما قاله الفقهاء من وجوب القصاص في القاضي أو الحاكم: إن قصد تجويع المسجون الذي حبس في تهمة، فما بالنا بقوات أتت من خارج البلاد مع قوات ظلم وبغي تجوع الناس في بيوتهم وشوارعهم دون أن يكون عليهم أحكام من قضاء عادل؟
إن الإسلام جعل من أهم مقاصده العظمى حفظ النفس، وحرم قتلها بأي وسيلة مادامت نفسًا محترمة، ولم تأتِ ما يستوجب القصاص منها، من زنى المتزوج، أو قاتل غيره عمدًا، أو مرتدًا عن دين الله تعالى قاصدًا للردة بمفارقة جماعة المسلمين، منضمًا للكافرين، معينًا لهم على محاربة الدين، أو ما يعرف بالخيانة العظمى. وفي مثل هذه الحالة التي يخاف الإنسان فيه على نفسه أن يموت أو يهلك أو يشرف على الهلاك، فيجوز له أن يستعمل التقية، بإخفاء ما يؤمن به، وإظهار موافقة من يخافه؛ مادامت هذه هي الوسيلة للحفاظ على نفسه، كأن يظهر أنه مع الظالمين فيتظاهر بهذا بالفعل أو القول مادام هو يكره هذا في نفسه، وأن يستعمل التورية في هذا، عملًا بقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {173}) (البقرة). ولا يجد المسلم حرجًا أن ينجو بنفسه بالتقية، فإن الله تعالى أباحها في كتابه عند الضرورة، كما قال سبحانه: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ {28}) (آل عمران).
__________
- كندة حواصلي، سياسة التجويع.. التوحش السافر في القرن الـ21، مدونات الجزيرة، 4 مارس 2024، .
- إسرائيل: استخدام التجويع كسلاح حرب في غزة، موقع: هيومَن رايتس وتش، 18 ديسمبر 2023، https://2u.pw/TRdZfEg.
- أليكس دي وال، التجويع أداة للحرب، عرب 48، 13 فبراير 2024، .
- سيف باكير، فقه لتجويع، مجلة المجتمع الكويتية، 16 يناير 2016، .