الشيخ محمد الغزالي
أقول في البداية، بأنني كمسلم أقف دون شك في صف المطالبين بتطبيق الشريعة، لا فقط لأن ذلك يحقق مصلحة لأمتنا، بل أيضًا لأننا كمسلمين مأمورون من قبل الله تعالى، ولا يمكن أن يجري التعامل مع التعاليم الإلهية حسب أهواء الناس، فينقذ بعضها ويترك البعض الآخر- بهذا المعنى هنالك موقف إسلامي مبني على الإيمان وعلى شمولية النظرة للعالم وللكون، فلا يمكن انتقاء جانب من تعاليم الله دون الجانب الآخر، ففي القرآن:
[كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ]
[كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ]
ونحن ملزمون بتطبيق هذه الأوامر. ولكنني سأشرح وجهة نظري فيما بعد حول الفرق بين الاعتقادات والعبادات والمعاملات.
إن شبكة التعاليم الإسلامية التي ترعى شئون الناس تحتاج إلى توضيح وتمييز بين جوانبها المتعددة، بمعنى أن الإسلام قصد من القوانين التي وضعها أن يصون دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وهذا ما نفهمه بمقاصد الشريعة، وهذه الصيانة تتطلب أمرين:
الأول: هو أمر عقائدي وأخلاقي، أي انبعاث الإنسان من داخل نفسه لحماية حقوق الآخرين والمحافظة على حرماتهم ولاتخاذ موقف مبني على الإيمان والأخلاق إزاء الناس والمجتمع والبيئة. فحقوق الناس مصونة ومقدسة في الإسلام، وكذلك يجب أن تكون في دخيلة كل مسلم مؤمن، وقد جاء في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة وقال: "ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك؛ إن الله جعلك حراما، وحرَّم من المؤمن دمه وماله وعرضه"، أي إن لحقوق الإنسان قداسة لا يجوز أن تنتهك. وتجلى هذا الموقف في تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم والمؤمن، فالمسلم هو من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمؤمن من آمنه الناس على أموالهم وأعراضهم.
لكن هذه التعاليم، على وضوحها، لا يمكن وحدها أن تحفظ العدل والنظام في مجتمع ما، لذلك وجدت ضرورة تعزيزها بعقوبات رادعة، تردع المجرم الذي ينفلت من الالتزام العقيدي والإيماني ليتبع هواه ونزعاته ويؤذى الآخرين والمجتمع، وهذا ما نسميه بالأمر الثاني الذي تتطلبه صيانة حقوق الناس ونظام المجتمع الإسلامي، ففرض العقوبة يجعل المقبل على الإجرام يشعر بالرهبة من القصاص والحد والجزاء.
وقد وضع الإسلام حدودًا دقيقة لهذا الأمر، فأمر بالقصاص في حالة انتهاك ما هو من حقوق الناس، ووضع حدودًا فيما هو مختلط بين حقوق الله وحقوق الناس ولكن حق الله اظهر... وهذا هو الفارق بين القصاص والحد، فالقصاص مصلحة البشر فيه أظهر بينما الحدود حق الله فيها أكثر.
طبعًا لا يوجد مجتمع متحضر دون نظام قانوني للعقاب، ولكن هنالك فرق واضح بين الشريعة والقانون الوضعي المقتبس من شرائع أجنبية في هذا المجال.
فالشريعة ترى الخمر محرمًا، وينطلق هذا الموقف أساسًا من ضرورة حماية العقل البشرى من التخدير والتغييب وما ينتج عن ذلك من شطط. فحماية البشر من الخمر والمخدرات من حقوق الله، وهنالك حد الخمر الذي فرضته الشريعة. أما القانون الوضعي فيعاقب فقط في حالة عربدة السكير في الشارع وإزعاجه للناس مثلاً، أو عندما يقدم السكير على جُرم آخر وهو في حالة السكر، بينما الشريعة الإسلامية ترفض السكر وتمنعه صيانة لعقل البشر، وكذلك الموقف من الزنا فالإسلام يحرمه حماية لأعراض الناس وحفظًا للمجتمع، بينما القوانين الوضعية السائدة في بلادنا والمنقولة أساسًا من القانون الفرنسي تبيح الزنا في الواقع، فهي لا تعتبره جريمة إذا وقع برضى الطرفين وإرادتهما، وتنتفى الإرادة في حالة الاغتصاب وفي حالة القاصر حيث لا يعتبر صاحب إرادة حرة، ونحن نرى الخلاف واضحًا بين الشريعة والقانون الوضعي هنا ولا يمكن التوفيق بينهما.
وقد أوصل الموقف الوضعي المجتمعات الغربية إلى درجة الإباحة التامة، لا للزنا فقط، بل حتى وصل الأمر لإصدار قوانين تبيح اللواط.
وهنالك أمر آخر يفصل الشريعة عن القانون الوضعي في قضية الزنا، فزنا الزوجة لا يهم المجتمع إذا لم يقدم الزوج شكوى بذلك، بل لا يحل للأب أو الأخ أن يتدخلوا في الأمر، وإن موقف القضاء من الزوجة المتلبسة بجريمة الزنا يعتمد على موقف الزوج، يعفي عنها أم لا، أي لا دخل للمجتمع والقيم السائدة فيه.
أما القتل فقد حرمه الإسلام، وعقوبة القتل العمد هي القصاص إلا إذا عفى ولى الدم. وهنالك بعض الناس من أهل الخير يحاولون في هذه الحالة إقناع ولى الدم بالعفو وقبول الدية، فإذا قبل وعفى، يسقط القصاص، ويبقى حق الدولة التي تقوم بتعزير الجرم. والواقع أن عقوبة القصاص وحد الزنا لعبا دورًا كبيرًا في الردع وفي تقليل عدد الجرائم في المجتمعات الإسلامية، بينما أدى التساهل بشأن هذه الجرائم في ظل القانون الوضعي والاستعمار التشريعي إلى ازدياد لا مثيل له في نسبة الجريمة. فمن النظرة الأولى يبدو موقف الشريعة قاسيًا وحازمًا وأقرب لفكرة العقاب.. بينما النظرة المتمعنة تبين بأن هذا الموقف في الواقع هو أقرب للرحمة بالناس والمجتمع بل وحتى بالإنسان النازع نحو الجريمة.
ولا ننسى أن غياب القصاص الإسلامي، وسع حالات الأخذ بالثأر فأدى ذلك إلى ازدياد حجم الجريمة بشكل عام.
إن الحد من نسبة الجرائم بل والوصول إلى مجتمع فاضل، تنتفى فيه الجريمة أو تكاد، هو هدف المسلمين على المدى الطويل، ولكن تحقيق مثل هذا المجتمع هو أمر يتطلب إقامة العدل بين الناس لتنتفي أسباب الجرائم، ويتطلب أيضًا مزيدًا من التوعية وبث القيم النبيلة في النفوس.
ولكن ما دامت الجريمة موجودة، فلابد من القصاص والعقاب.. ولكم في القصاص حياة.
إنني عمومًا مع تطبيق القصاص والحدود، ولكن يجب أن نتفحص موقف الإسلام من الحدود، فالشارع درأها بالشبهات أولاً، ثم جعلها في أضيق نطاق، فحد الزنا ظل حدًا رادعًا يساهم في منع الجريمة، بينما كانت نادرة تلك الحالات التي طبق فيها الحد فعلاً، بسبب ما وضع من شروط ومستلزمات لذلك التطبيق، فعندما جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترفًا بارتكابه الزنا وطالبًا توقيع الحد به، أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم طبق عليه الحد بعد إصرار الرجل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن شريكته في الجريمة وسكت عنها معتبرًا الإقرار حجة قاصرة على صاحبها.. فالرجل، كما يقول ابن تيمية، أبى أن تغسله التوبة الشخصية فهو لو تاب واكتفى لكان ذلك مطهرًا له، لكنه أبي إلا أن يقتل في الدنيا.
ولنأت إلى موقف القضاء أو الحاكم، وكيف يكون الأمر عندما يمثل أمام القضاء رجل ثبتت عليه الجريمة، حسب ابن تيمية وابن القيم وما أفهمه أنا من السنن، أستطيع أن أقول بأن القاضي يستطيع وقف التنفيذ في السابقة الأولى، فلو سرق تلميذ أو شاب، وكانت سرقته الأولى أو عثرة قدم زلت بصاحبها، فإذا وجده القاضي متألمًا لذلك ونادمًا أو شاعرًا بالخجل، له أن يوقف العقوبة، ویستتيبه ويقبل توبته، وله أن يعزره بالكلام أو بالجلد أو السجن، حسبما يرى. ولكن إذا عاد للجريمة مرة أو مرات أخرى، تقطع يده.
يبدو هذا الحكم قاسيًا، ولكن هل حكم السجين لسنين عديدة هو أرحم من ذلك وأكثر صونًا للمجتمع؟ الأيادي ثلاث: يد عاملة من حقها أن تكافأ، ويد عاطلة من حقها أن تعمل وتنتج، ويد فاسدة ثبت فساد صاحبها في أكثر من تجربة، أفلا نحمي الناس منها؟! إنني أرى أن متعود الإجرام يجب أن ينفذ فيه الحد. طبعًا للمجتمع أن يتدخل ويحدد من هو متعود الإجرام.
هنالك حديث كثير عن كون الحدود الإسلامية منافية للحضارة الحديثة. مالي وللحضارة الحديثة؟! وماذا أفعل بناس يشعرون تجاهها بعقدة نقص، فيتركون شريعتهم ليقبلوا استعمارها التشريعي والثقافي. إن الحضارة الغربية المعاصرة حققت تقدمًا في مجالات العلم والتكنولوجيا، ولكن ما علاقة هذا التقدم بالتشريع الذي يحكم المجتمعات؟ ولماذا يصبح التعلم من إنجازات الغرب التقنية مرتبطًا باقتباس شرائعه وقيمه وأنماط حياته، لماذا لا يمكننا التمسك بديننا وشريعتنا وثقافتنا مع أخذنا بنتاجات التقدم العصري في الدوائر الحضارية الأخرى، إن اليابان حققت تقدمًا تقنيًا هائلاً مع تمسك غالبية أهلها بدین خرافي.
إن الاستعمار التشريعي نتاج تطور متعدد الجوانب لدائرة حضارية أخرى، وهذا التطور لم ينسجم حتى مع تعاليم المسيحية، وأقول هذا لأُذكر من يعتقدون بأن النظام التشريعي الغربي له أصول مسيحية، فالواقع إن الغرب الأوروبي تنكر للمسيحية الحقة فأصبح ينطبق عليه قول على بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن نصارى تغلب: لا يعرفون من النصرانية سوى شرب الخمر!، لقد استخدم الغرب الهاجم المسيحية في بعض معاركه الخارجية وكأداة تبشيرية رافقت الحملات الاستعمارية وسياسات التتبيع المعاصرة.
لماذا يصر البعض منا على التمسك بمعايير الغير، والحرص على أن يرضى عنا الرأي العام الأوروبي، الرأي العام الذي لا يأخذ مرة في الحسبان ما نقوله نحن عنه أو نعتقده، بل ولا يحترم أقدس مقدساتنا. لماذا لا تكون معاييرنا نابعة من قيمنا وتراثنا وديننا، ومن مصالح أمتنا بالدرجة الأولى؟
إن العمل من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية يبدأ بالتحرر من نير العبودية الحضارية والاستعمار التشريعي، والوقوف مرة أخرى على أرضية التشريع الإسلامي، وهنا بالضبط تبدأ معركة أخرى. وهي التي تعنيني أكثر من غيرها، أي معركتنا مع العقل الإسلامي الراهن، من يطبق الشريعة، من يفتي، من يعمل في مجال الفقه المعاصر، من يسن القوانين المستمدة من الشريعة، أي نظام وأي تطبيق؟؟ هذه كلها أسئلة تشغل بالي، وأنا أعرف حق المعرفة بأن معركتنا داخل مجتمعنا ومع أنفسنا ليست معركة سهلة ولا تنتهى بإقرار عام بضرورة تطبيق الشريعة.
هل العقل الإسلامي المعاصر هو سليم أم مختل؟ في رأيي أن العقل الإسلامي، ومنذ قرون، به خلل ظاهر وخطير، ولابد من علاج هذا الخلل، وقد كتبت في هذا الأمر كتابي: سر تخلف العرب والمسلمين، ولنأت إلى بعض التجليات الفاضحة هذا الخلل، فقط على سبيل المثال:
أولاً: الناحية الدستورية
لماذا أصبح الإسلام مرادفًا للماضي، لشيء اسمه "التراث"؟ لماذا يحجم ويجعل سجينًا في أسرته الأولى وعهود نشأته الأولى؟.. أي في أسرة بني أمية وبني العباس؟.
طبعًا هنالك موقف العلماء على مر القرون، كان قد شجع هذا الفهم الخاطئ للإسلام، إذ أن ضمير العلماء، عانى، كالضمير التأريخي للأمة ككل، من عقدة صفين، فدفع هذا إلى نوع من الانزواء وترك ساحات الحكم وإدارة المجتمع لسلطات لا تلتزم بالضرورة بأحكام الإسلام، كما كان الأمر في العهد الراشدي، ولقد تم لقرون عديدة، نوع من التحييد لقوة الرأي العام الإسلامي، وتفاقم هذا الأمر في العصر الحديث، بحيث عندما نرى قوة الرأي العام الإسلامي المعاصر تدفع مرة أخرى باتجاه إقامة دساتير وشرائع المجتمعات على أساس الإسلام، يبدو الأمر وكأنه مطالبة غريبة، لا كعودة طبيعية إلى صراط مستقيم وحالة طبيعية ينسجم مع تكوِّن الأمة ومصالحها.
ثانيًا: وضع النساء وما يتهم به الإسلام من إجحاف حقوقهن
ففي عهد الرسول كانت النساء يملأن المساجد، ما خلا منهن مسجد، ينشطن في كافة مناحي الحياة وحضورهن في ميادين العمل والجهاد والحياة الاجتماعية لا يعوقه عائق.
أما الآن فلا ترى وجودًا نسائيًا في المساجد إلا نادرًا، وليس هنالك إلا بعض المساجد يسمح فيها بدخول النساء، وذلك أيضًا بشكل محدود وأوقات محدودة وفي زاوية معينة، وحتى هذا الأمر يضيق به بعض الناس.. وذلك باسم الإسلام، ولكن من قال إن هذا هو الإسلام؟ وأي دين هذا الذي يقسم البشر إلى قسمين ويجعل بيت العبادة لأحدهما فقط، إن هذا لا يليق إلا بالوثنيات المتخلفة. ثم كيف يمنع نصف المجتمع من العمل باسم الإسلام.. فيجعل المجتمع مشوهًا نصف مشلول، يستخدم يدًا واحدة ويقف على قدم واحدة؟
إنني أرى بأن تطبيق الشريعة تطبيقًا صحيحًا سوف لن يغير المرأة في شيء، بل أرجو أن يعيد ذلك إليها حقوقًا لها مسلوبة. إن هنالك قناعًا وعادات سائدة في مجتمعاتنا، هي نتاج تطور تأريخي مشوه في القرون الأخيرة، والناس الذين عاشوا هذه العادات هم الذين خلقوها وربطوها بوعي أو لا وعى بالإسلام.
والمؤسف أن حتى بعض علمائنا أخذوا في هذا المجال ببعض الأحاديث الضعيفة، وتركوا المتواتر والصحيح، وقد حاولت أن أتصدى لهذا الأمر في كتابي الأخير "السنة النبوية بين أهل الحديث وأهل الفقه". لقد حاولت أن أبين انحراف أمتنا، وأعتبر أن هذا الانحراف والانهيار الداخلي هو أخطر من الغزوة الثقافية الأجنبية ومن الاستعمار التشريعي، بحيث أصبحت عقولنا وتصوراتنا المتخلفة لا تستطيع مواجهة تحديات العصر وتقديم بدائل قادرة على الحياة للأنظمة الوضعية المستوردة والمفروضة علينا.
يجب فهم المعادلة بشكل صحيح والنظر في طرفيها. أنا أعرف طبعًا مناحي القوة في الحضارة الأوروبية، ولكنني لا أعتقد بأن هذه المناحي تتعلق بقوة روحية أو أخلاقية أو بتماسك داخلي ومنطقي، أعتقد أن حضارة الغرب تسير نحو الانحدار في هذه المجالات، إذ أصبح حتى محاربة الإيدز من جانب الفاتيكان، تجرى باسم حماية الصحة فقط، وليس بالاستناد لوازع أخلاقي. ولكن المشكلة هي ضعف وهشاشة البدائل المطروحة لهذه الحضارة. فخلال التاريخ كان هنالك تعاقب وتوارث للحضارة.. وكان يمكن للعرب والمسلمين أن يرثوا، خلال نهضة متعددة الجوانب، الحضارة الأوروبية القائمة.. ولكن من يرث من؟. ولكن العرب أصبحوا أقل الناس تمسكًا بالإسلام، وأقلهم طموحًا في نهضة عصرية تعيد للإسلام قوته وإذا استمر الأمر هكذا، واستمرت خيانة حكام الأمة، فقد يتحول العرب كلهم إلى شتات لاجئين، ليس في بلاد الغرب، بل حتى لاجئين وغرباء في بلادهم وعلى أرضهم، إن السعى يجب أن يتركز على إجراء إصلاح جذري في العقول الخاملة والمتخلفة.
الاجتهاد المعاصر:
أنتقل إلى مسألة الاجتهاد المعاصر في حالة تطبيق الشريعة. فالدين الإسلامي يتكون من ثلاثة أجزاء: العقائد والعبادات والمعاملات، فأما العقائد فهي أخبار، وهي تتضمن مبادئ عقيدية: الله واحد، الآخرة حق،... الأساس في التعامل معها هي الأخبار الإلهية ولا مجال فيها للمناقشة، فالمرء يؤمن بها أم لا. أما العبادات فتتعلق بالصوم والصلاة وتفاصيلها مثلاً، وهذه أيضًا ابتدعتها الشريعة ونظمت لها أصولاً لا يمكن تغييرها. علمًا بأن الشريعة حتى في هذه المجالات وضعت شروطًا واستثناءات تراعي إمكانيات البشر وظروفهم. وكل ما هو خارج العقائد والعبادات، ينضوي في مجال المعاملات، وأساس المعاملات هو الإصلاح والمصلحة، هنالك فهم خاطئ يقول بأننا نقبل الشريعة رغم عقولنا، ولا حيلة لنا في مناقشة نصوصها، والواقع أن الشريعة تنسجم مع المصلحة العامة ومع العقل. لننظر في الأمر مليًا: كان هنالك زواج قبل الإسلام فجاءت الشريعة ومنعت الزواج بالأخت والأم مثلاً، ووضعت قواعد لهذا التنظيم الإنساني، وكذلك وضعت قواعد للتجارة والمعاملات المالية فحرمت الربا وأحلت الريح الحلال.. وهكذا.
وهنالك علاقة النص بالاجتهاد. فما جاء بنص قاطع، لا اجتهاد فيه. مثلاً: للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذا الحكم يرتبط بما يوازنه: عليه الإنفاق ولها النفقة، فيكون الرجل والمرأة قد تعادلا في هذا، أي، نفهم النص القاطع ضمن هذه المعادلة وبالنظر لما يوازنه من حقيقة اجتماعية فإن لم يتحقق الجانب الآخر من المعادلة، يصبح هنالك خلل في الأمر. أي أن هنالك اجتهاد في فهم النص، وقد يجئ النص محتملاً لعدة معاني.
يرى الأحناف بأن حديث الآحاد يوقف العمل به إذا كان يخالف قياسًا قطعيًا، إذ إن القياس القطعي يعتمد على يقين دیني، بينما حديث الآحاد نصه ظني. هذا مثال بسيط لسعة دائرة الاجتهاد في فهم النص أو فيما لا نص قاطع فيه. ولكن المطلوب من المجتهدين: سعة الفهم وصدق الدين، فالخطر أن يسخر المجتهد نفسه لخدمة حاكم جائر أو صاحب شهوة مقتدر، أي أن يكون إلى جانب فهمه الفقهي الواسع، ضمير مخلص وإيمان ثابت يضمن عدم انحرافه. ولضمان هذا الأمر نحتاج أيضًا إلى وعى عام، إلى رأى عام يعمل كضمانة لعدم انحراف هذا المجتهد أو ذاك، فهنالك من يجتهد ليلحق المسلمين أكثر فأكثر بركب التبعية، فأين الضمير وأين مصلحة الجماعة الإسلامية في هذا الاجتهاد؟.
أما فيما يخص حقوق الجماعات القومية والدينية في مجتمعاتنا، فأولاً: لا خوف على الجماعات القومية، فالإسلام ليس لقوم دون آخر، إنه جامع للأقوام والشعوب وجسر للمحبة والتعاون بينهم على أساس العدل. وما يجرى من اضطهاد للشعوب والقوميات في بعض بلداننا إنما يجرى على أيدى النخب الحاكمة وأكثرها قومية وعلمانية. ولا يمكن لإسلام صحيح تطبق شريعته في المجتمع، إلا أن يعيد لكل صاحب حق حقه، فإذا كان الإسلام يحمى حق فرد واحد ويصونه من العدوان فكيف بحق الجماعات والقوميات؟.
أما الجماعات الدينية غير المسلمة، فلنا معها تاريخ طويل من العيش المشترك، فمنذ أيام الإسلام الأولى عاش الأقباط في هذا البلد، وقد حفظت الشريعة حقوقهم ولم تتدخل في شئونهم، وإذا كان هنالك من ضرر قد لحقهم في بعض العهود على أيدي حكام ظالمين، فقد لحق المسلمين أيضًا على أيدي نفس الحكام المظالم، ولكن المجتمع الإسلامي كان قادرًا على وضع صيغة عادلة للتعايش، صيغة لا تعتمد على موازين القوى بحيث يبدأ المسلمون بذبح المسيحيين عندما يتمكنون من ذلك، وكما حدث أن فعل الإسبان بالمسلمين واليهود بعد أن ضعف شأنهم في الأندلس، أو كما فعلت جموع الصليبيين، وإنما الصيغة كانت تعتمد على العدل.
الجزية!!
نحن لدينا مبدأ قديم/ جديد، لا لبس فيه، نقول عن غير المسلمين، "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، إن مطالبة بعض الجهلة بفرض الجزية على غير المسلمين، لا يجب أن تحسب على الإسلام، فالجزية كانت على الأغلب كبدل للخدمة العسكرية، فلم يشأ الإسلام أن يفرض على المسيحيين أن يقاتلوا ضمن جيشه، بينما كان هذا القتال يجرى أحيانًا ضد إخوانهم في الدين، وذلك حرصًا على مشاعرهم، وكذلك لأسباب أمنية ففرضت جزية لتكون تعويضًا عن إعفائهم من الخدمة العسكرية. أما الآن فالمسيحيون يعيشون معنا في أوطان، نحن وإياهم نعتبر مواطنين متساوين في الحقوق، أما حقوق غير المسلمين في مجال الأحوال الشخصية وعقود الزواج وغيرها فلا حق لأحد التدخل فيها.
ولكن لنرى كيف يفرض أحيانًا حكم الأقلية على الأغلبية. لنرى لبنان حيث الشيعة أكثر السكان عددًا، يليه الموارنة ثم السنة، ثم إن المسلمين كلهم (شيعة وسنة ودروز) يمثلون أكثرية ساحقة، بينما ظلت مقاليد السلطة السياسية والاقتصادية بين الموارنة. وهنالك ضغوط دولية جائرة تمنع أي إصلاح يريد إحقاق الحق وإقامة العدل بين هذه الجماعات.
فعندما نتحدث عن حق الأقلية ونطالب بصونها (وهذا واجبنا) لا يجب أن ننسى حقوق الأغلبية، ومن الخطأ أن يطلب من المسلمين بأن "يخففوا" من إسلاميتهم (أن لا يطبقوا الشريعة مثلاً) حرصًا على غير المسلمين. إذًا إذا انتصر هذا المنطق يعني ذلك ظلمًا فاحشًا بحق الأغلبية يفرض باسم الأقلية وباسم الحرص عليها.
في جنوب السودان ١٠٪ من السكان مسیحیون، و10% مسلمون والبقية وثنيون. الآن يطرح الأمر وكأن جنوب السودان كله مسيحي، وهذا الطرح يعيق الحلول المطروحة للأمة ويعرقل جهود الأغلبية المسلمة لإعادة بناء حياتها ودولتها على أساس دينها. يجب أن نراعي كفتي الميزان: نطالب بحق المسلمين الذي لا جدال فيه، بتطبيق الشريعة الإسلامية، ونطالب في الوقت نفسه بصيانة حقوق غير المسلمين وإحقاق الحق في كل المجالات، وهذا من مقاصد الشريعة. ويجب أن نتمسك بالقاعدة الذهبية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
إن بلادنا لم تشهد حروبًا دينية ولا مجازر كالتي حدثت في أوروبا. أما الآن فيلقي في روعنا بأن تطبيق الشريعة قد يؤدي إلى مضاعفات طائفية وتناحر ديني، وهذا غريب عن تجربتنا التاريخية. ولنتذكر: إن لبنان الذي أصبح رمزًا للتناحر الطائفي، بدأت الحرب فيه وليس فيه حزب إسلامي واحد، ولا أحد يطالب بتطبيق الشريعة، بل إن الأحزاب السائدة والمتنفذة في كل مناطقه كانت أحزابًا علمانية: ليبرالية وقومية واشتراكية،... وفي ظل هذا التكوين العلماني للدولة والأحزاب جرت الحرب الطائفية المقيتة.
---------------------------------------------------------------
* مقال منشور بمجلة الأزهر، عدد جمادى الآخرة 1433هـ/ مايو 2012م، ص 1292- 1299.