من معالم المنهج الحواري عند المستشار طارق البشري

By د. هاني محمود حسن تشرين1/أكتوير 12, 2023 161 0

تميز منهج الأستاذ البشري بالنضج والحكمة في الطرح والتناول، والبحث عن فرص الالتقاء قبل النظر في مساحات الاختلاف؛ عملا بقاعدة: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وإن شئت قلت: ونتحاور فيما اختلفنا فيه[1].

وفي هذا الإطار طرح البشري بعضا من معالم منهجه الحواري، خاصة في تعامل المتشرعين مع مخالفيهم، ونجمل هذه المعالم في معلمين هما:

أولاً- من الجدل إلى الحوار:

يرى الحكيم البشري -في واقع التعامل مع المخالف- أن طاقات كثيرة من طاقات الأمة تستنزف في الجدل مع المخالفين الذي كثيرا ما يتحول إلى صراع فكري أو سياسي مرير يبدد الطاقات، ويشتت الجهود في معارك وهمية بعيدا عن اتجاه بوصلة الأولويات، لا سيما الجدل الذي يتطرق للأصول العقائدية للمخالف السياسي[2].

ويرى البشري أن الأولى في التعامل مع هذا المخالف هو الحوار البناء، مع تركيز الحوار في كيفية الاتفاق على تطبيقات محل توافق لحل المشكلات وتحقيق النهضة والتنمية. ((ومن هذه المسائل الفكرية مثلا موضوع العلاقة بين الإسلام والعروبة، وموضوع الجامعة السياسية الدينية والجامعة الوطنية، …))[3].

وفي هذا السياق رأى البشري أن الحوار الإسلامي العلماني الذي يجب ألا يكون موضوعه المرجعية في جانبها العقدي، بل من حيث هي ثقافة المجتمع التي تتمخض عنها برامج عملية في الإصلاح، وتنتج حلولا تطبيقية للمشكلات[4].

وفي هذا الإطار يبدو من طرح الحكيم البشري أن فرص الالتقاء بين شتى مكونات وأطياف الجماعة الوطنية أكبر مما يتصور، وأن ملاحظة فرص الالتقاء شرط لازم قبل ادعاء الخلاف.

ثانيًا- أحقية النظر الفقهي/ القانوني على النظر الفلسفي (الجدالي/المنابذ) في معالجة القضايا ذات الأبعاد التشريعية:

من معالم المنهج عند الحكيم البشري: أنه انتبه إلى أن كثيرا من اللبس والاحتدام في القضايا المتعلقة بالشريعة والمرجعية الإسلامية منشؤه تغليب الجدل الفلسفي (المسيَّس) على النظر الفقهي/القانوني في المعالجات المعاصرة لهذا النمط من القضايا، وهو ما خرج بالبحث عن مساره في هذا النوع من القضايا، وألحق بقضية تطبيق الشريعة الكثير من غبار الشبهات (الجدلية الفلسفية) التي لا يعترف بها البحث العلمي الذي يدور بين الفقهاء والقانونيين في هذه المساحة المشتركة بين مجالي الفقه والقانون؛ حيث لأهل الفقه والقانون من التصرفات والمواءمات وقواعد النظر ما لا ينتبه له القادمون من خلفيات فلسفية تتعامل مع قضايا الدين والشريعة بقدر من التوجس لا تخطئه العين؛ نتاج التأثر بالعلمانية اللائكية، ما يلقي بظلال سلبية على حصيلة النظر في هذه القضايا، ويُحمِّل البحث فيها ما لا يحتمل من المجادلات العقيمة التي تجاوزها البحث القانوني المعاصر الذي بات يتساءل عن: كيف؟ بقدر ما يتساءل أصحاب المجادلات الفلسفية عن: ماذا؟؛ وذلك مثل مجادلة العقل والنقل التي لا يزال أصحاب الخلفيات الفلسفية أسرى في فلكها، غاضين الطرف عن الجهد العقلي الهائل الذي بذله الفقهاء المسلمون في إنتاج فقههم، ولم يبلغوا هم عشر معشاره، مستنزفين طاقة العقل المعاصر في غير طائل[5]!

وفي هذا يقول البشري في عام 2011: ((رجال الفقه والقانون في مجالي الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، لم تقم بينهم معارك محتدمة فيما يتعلق بالخيار بين مصدرية الشريعة الإسلامية ومصدرية القانون الوضعي؛ لأن كلًّا من فريقي الخلاف من هؤلاء يعرف أصالة الفقه الإسلامي وصياغاته الفنية والبالغة أعلى مستويات الدقة، كما يعرف مدى الاحتياج إلى التجديد الفقهي والتشريعي؛ ليتلاءم النظام التشريعي مع أنماط معاملات حادثة ونماذج علاقات مستحدثة وتستحدث أبدًا، على مستويات القانون العام والخاص جميعًا…

لذلك نجد الحوار بين الفقهاء وعلماء القانون والشريعة في هذا المجال أهدأ وأوغل في التفاصيل ودقائق المسائل، وأكثر قدرة على الوصول إلى الحلول، من ذلك الصخب العجيب الذي يجري التعامل به بين رجال الفكر السياسي والفلسفي، بشأن موضوع يدركون بعض مشاكله، ولكنهم لا يحيطون بها… ولذلك فإن أهم الخطوات في هذا المجال هو أن يتولى فقهاء الشريعة الإسلامية وفقهاء القانون من العرب أمر هذا الحوار)).

ولهذا لا يتحمس الحكيم البشري لقضية المناظرات التي تجري على أساس فلسفي؛ لأن المتشبعين بالأفكار الفلسفية التغريبية قلما يلحظ عليهم التجرد للحقيقة والاستعداد للتخلي عن الأفكار التي تبين خطؤها، بخلاف البحث الذي يتداوله الفقهاء والقانونيون فيما بينهم؛ إذ يسفر عن نتائج أقرب للنفع وأيسر في التطبيق[6].

وأضيف أنا نلاحظ أن السمة الغالبة على هذه المناظرات باتت هي الصبغة الصراعية بديلا عن سمة: الجدال بالتي هي أحسن، التي قررها القرآن الكريم، ونادرا ما وجدنا هذه المناظرات الصراعية تنتج إنصافا يحمل من يقتنع بخطأ فكرته على التراجع.

وذلك أن الأجواء لم يسد فيها ذلك النمط الحجاجي الذي أسماه علماؤنا المتقدمون بآداب البحث والمناظرة، فمصطلح الآداب زحفت عليه تقنيات الغلبة وتحطيم الخصم على حساب الحق والحقيقة في ظل هذه الأجواء الملبدة بغبار اتباع الهوى وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهي من سمات زمان الفتنة كما جاء في الحديث الشريف.

أين هذا من قول الشافعي ليونس بن عبد الأعلى حين لاحظ الشافعي مقاطعته إياه -على إثر مجادلة أقام فيها الشافعي الحجة على صحة قوله- فقال له الشافعي معاتبا إياه على المقاطعة: أو ما يصلح أن نتناظر ونبقى أخوين؟

إن هجر مصطلح (آداب) الوارد في التعبير الإسلامي، إلى الفنيات أو الحرفيات أو اللا قواعد التي تميز أجواء المناظرات الصراعية -على الأرضية الفلسفية الأيديولوجية- التي نتحدث عنها يلفت أنظارنا إلى جانب من أسباب الأزمة الحجاجية المعاصرة؛ حيث بات الحجاج لا على إثبات صحة الرأي بالأدلة البرهانية بقدر ما هو على الانتصار الساحق على الخصم على طريقة لمس الأكتاف التي تنتزع صيحات الإعجاب من أفواه الجمهور المتشوق للإثارة.

إن هذا التوجه لكفيل بأن يسوغ لنا أن نستعير من المسيري فنصف هذا المنحى بأنه نمط من أنماط علمنة مفهوم المناظرة في الحداثة الثقافية المعاصرة، وقد عد المسيري (نزع القداسة) هو جوهر مفهوم العلمنة الشاملة، ونحن نلحظ في هذه الأجواء نزع القداسة عن الحق والحقيقة لحساب الأيديولوجيا والمصالح الفئوية، وهو ما يكفي مؤشرا على وجود عمليات علمنة وفقا لطريقة المؤشرات التي شرحها المسيري في كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.  

وأظن الحكيم البشري لم يقصد -بتفضيل الحوار الفقهي على المجادلات الفلسفية- الحط من شأن الفلسفة، وإنما قصد ضبط معايير النظر، بحيث ينعم كل مجال بما هو أنسب له من قواعد البحث وطريقة التناول وأهل الفاعلية الأولى به.

ولهذا وصفتُ الخلفيات الفلسفية التي شكا البشري من ضررها على البحث الفقهي والتشريعي -ومزاحمتها المتعسفة للتداول الفقهي القانوني- بـ(الجدالية/المنابِذة)؛ لأنها تحدث كثيرا من الضجيج، وتكثر من الدعاوى (مثل دعوى احتكار العقلانية) من غير طائل، وبدون تحديد للمفاهيم المدعاة؛ مثل: مفاهيم العقلانية والحداثة والتنوير! مع ما يظهر فيها من احتكار لكل ما هو إيجابي، ونعت مخالفيها بكل ما هو سلبي، على خلاف التداول البحثي بين أهل الفقه والقانون وما قاربهما، الذي يسفر عن حصائل أقرب للرشاد والفاعلية منها إلى تيه الجدليات المنابذة!


* مدرس بقسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق- جامعة عين شمس، وحاصل على الجائزة التقديرية في مسابقة وقف المستشار محمد شوقي الفنجري لصالح خدمة الدعوة والفقه الإسلامي لسنة 2022.

[1] حيث يرى بعض أهل الشريعة: أن بعض العقائد والأفكار مما عليه المخالفون للشريعة الإسلامية لا عذر لهم فيه، ومن ثم يتحفظون على قول الشيخ رشيد رضا -صاحب هذه المقولة- “ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”؛ لذا -ونحن في معرض التأليف والتجميع- اقترحت أن تعدل العبارة إلى: “ونتحاور فيما اختلفنا فيه”.

 

[2] طارق البشري: شخصيات وقضايا معاصرة، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم، الطبعة الأولى، 2019م، ص139.

 

[3]  نحو إسلامية المعرفة في الفكر السياسي، مرجع سابق، ص33.

 

[4] نحو إسلامية المعرفة في الفكر السياسي، مرجع سابق، ص166.

 

[5] السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة، طارق البشري، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422هـ، ص68.

 

[6]  حوارات مع طارق البشري، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات والبحوث ودار البشير للثقافة والعلوم، الطبعة الاولى، 2021م، ص ص 160-162.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الجمعة, 07 آذار/مارس 2025 18:19

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.