يبرز اسم الدكتور صوفي أبو طالب في تاريخ مصر الحديث كأحد الشخصيات القانونية والسياسية البارزة التي جمعت بين العلم والعمل، وبين الفكر والتطبيق. فمنذ أن تولى رئاسة مجلس الشعب عام 1978، قاد مشروعًا طموحًا لتقنين الشريعة الإسلامية، مسعىً لم يتحقق إلا بفضل منهجه العلمي المتوازن الذي جمع بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي. هذا المقال يستعرض مسيرة هذا الرجل الذي لم يقتصر دوره على التشريع، بل امتد ليشمل التعليم والبحث، مؤكدًا أن إرثه الفكري لا يزال حاضرًا في الساحة القانونية المصرية.
أولًا: ميلاده وتعليمه
ولد الدكتور صوفي أبو طالب في (27 يناير 1925م) في مركز طامية بمحافظة الفيوم.
- فقد تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1946م، وحصل منها أيضًا على دبلوم القانون العام في 1947م، وأُوفد في بعثة إلى فرنسا في عام 1948م.
- حصل على الدكتوراه في القانون من باريس في عام 1950م، ، ونال جائزة أفضل رسالة دكتوراه من ذات الجامعة،
- حصل على "دبلوم قوانين البحر المتوسط" من جامعة روما عام 1959م.
ثانيًا: أعماله ووظائفه
- تدرج في السلك الجامعي حتى تولى منصب رئاسة جامعة القاهرة.
- نال أبو طالب عضوية مجلس الشعب، عن دائرة طامية، الفيوم عام 1976م، وتم انتخابه رئيسًا للجنة التعليم بالمجلس.
- تولى رئاسة مجلس الشعب عام 1978- 1982م، وبعد تركه رئاسة المجلس استمر في العمل الأكاديمي أستاذًا لفلسفة القانون وتاريخه بكلية الحقوق جامعة القاهرة، ثم عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية.
- كان يعمل رئيسًا للجنة التشريعات الاقتصادية "بمركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي" في جامعة الأزهر في عام 2002م.
- تمكن من إصدار قرار جمهوري بإنشاء فرع لجامعة القاهرة فرع الفيوم، فكانت كلية التربية أولى الكليات التي أنشئت بالفيوم، وتم تكريمه لدوره البارز بالجامعة، فسُمي أكبر مدرج بكلية التربية باسمه، ثم توسعت الكليات إلى أن أصبحت جامعة الفيوم جامعة مستقلة.
- شارك في إنشاء قسم الدراسات القانونية بكلية الشريعة جامعة الأزهر.
- شغل مناصب أخرى فرعية مثل: مستشار لجامعة أسيوط، عضوية "المجلس القومي للتعليم"، وعضو منتخب "باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي" عام 1975م، وكان عضوًا في "المجلس الأعلى للفنون والآداب"، ومقررًا للجنة تاريخ القانون للمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعضوًا بمجلس إدارة "جمعية الاقتصاد والتشريع".
- فترة توليه رئاسة الجمهورية: كان أبو طالب وقت اغتيال الرئيس السادات يشغل منصب رئيس مجلس الشعب، ولذا تولى منصب رئاسة الجمهورية مؤقتًا إلى حين انتخاب الرئيس، وذلك وفقًا لدستور (1971م) الذي نص على أن يتولى رئيس مجلس الشعب منصب رئيس للجمهورية، في حال خلو المنصب، وإذا كان المجلس منحلًّا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يُرشَّح أيهما للرئاسة.
ثالثًا: مشروعه الفكري ومنهجه
(1) تقنين الشريعة: تولى الدكتور صوفي أبو طالب رئاسة مجلس الشعب في الفترة من (4 نوفمبر عام 1978م حتى 1 فبراير عام 1983م)، وفي تلك الفترة سعى الرئيس السادات إلى تقنين الشريعة الإسلامية، وكلف رئيس مجلس الشعب بمهمة إعداد مدونة قانونية مستمدة بالكامل من الشريعة، وبدأ العمل الفعلي للتقنين في عام 1978م، واستعان الدكتور صوفي أبو طالب بصفوة من العلماء المتخصصين من الأزهر والقضاة، وأساتذة كلية الحقوق، والفقهاء الدستوريين، وبعض الخبراء من المسلمين والمسيحيين، وتم تقسيم العمل إلى لجان يرأس كل لجنة أحد أعضاء مجلس الشعب إلى جانب هؤلاء الخبراء، وارتكزت خطة العمل على عدم التقيد بالراجح في مذهب معين، بل الأخذ بالرأي المناسب من أي مذهب من المذاهب الفقهية، وبدأ التقنين على أبواب الفقه وتقسيماته، وما لم يكن له حكم في كتب الفقه لجأ الخبراء إلى مقاصد الشريعة في استنباط الأحكام، وفي حالة تعدد الآراء الفقهية للمسألة الواحدة تختار اللجنة حكمًا منها مع ذكر الآراء الأخرى ومصادرها على هامش الصفحة؛ ليرجع إليها من يشاء، ومع حلول عام 1982م تم الانتهاء من جميع أعمال التقنين وعرضت على مجلس الشعب المصري، وحظيت بالموافقة عليها بالإجماع من أعضاء المجلس المسلمين والمسيحيين، وهو ما سجلته مضابط المجلس.
أنتجت لجان مجلس الشعب خمسة مشروعات للقوانين طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية وهي: مشروع قانون المعاملات المدنية (1136 مادة)، ومشروع قانون إجراءات التقاضي والإثبات (71 مادة)، ومشروع قانون العقوبات (630 مادة) ومشروع قانون التجارة (776 مادة) ومشروع قانون التجارة البحرية (443 مادة). وكان من المفترض أن يبدأ المجلس مناقشة هذه المشروعات مادة مادة، لكن فجأة توقف كل شيء، ودُفنت هذه التجربة دون إبداء أي سبب.
(2) اعتنى الدكتور صوفي كثيرًا بقضية تطبيق الشريعة ، وسعى - بكل ما أوتي من علم - لإبراز النظام القانوني للشريعة الإسلامية، وبين الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها مشروعه في مؤلفاته ومؤتمراته التي ترأسها.
(3) الاعتناء بالمقارنة: لقد اعتنى الدكتور صوفي بالمقارنات التشريعية، ولكنه كان يتميز بمنهج خاص يتضح في النقاط التالية:
- يسعى الدكتور صوفي أبو طالب من مقارناته إلى إبراز استقلال التشريع الإسلامي عن غيره من النظم خاصة القانون الروماني، وذلك هو الهدف الأكبر عنده، ، يقول الدكتور صوفي: "إننا أمام مشكلة طال فيها الأخذ والرد منذ نهاية القرن الماضي - يقصد مشكلة تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني - ولكن لم يستقر فيها الرأي بعد، فالذين قالوا بالتأثر لم يبحثوا المسألة بحثًا موضوعيًّا منزهًا عن الهوى، والذين نادوا بعدم التأثر لم يبحثوا المسألة من كل نواحيها، بل تعرضوا لها لا كبحث مستقل قائم بذاته بل بمناسبة بعض الأبحاث القانونية الأخرى؛ ولذلك لم يتعمقوا في دراسة المسألة ولم يحيطوا بكل جوانبها".
- في قضية نفي التأثير والتأثر اعتادت الكتابات أن تنفي أو تثبت الأمر من خلال تتبع الفروع الفقهية بين النظم كما فعل العلامة السنهوري، لكن أبو طالب نفى الأمر من خلال التتبع التاريخي للنظم، ثم أتت المسائل القانونية كأمثلة يدعم بها ما نتجت عنه الدراسة التاريخية، وكشف الدكتور صوفي أبو طالب عن هذا المنهج في إحدى أبحاثه، حيث ذكر أن البحث "يتعرض لكيفية نشأة الشريعة الإسلامية محاولًا تقصي المصادر التي يظن أن الفقهاء المسلمين عرفوا من خلالها القانون الروماني البيزنطي؛ ليبين أنه لم يقم أي دليل على إمكان تعرف الفقهاء المسلمين على القانون الروماني بأية وسيلة من الوسائل، وأن الشريعة الإسلامية نشأت -بعيدة كل البعد- عن أي مصدر روماني... ثم الوقوف على مواطن التشابه -إن وجدت- واستظهار مواطن الاختلاف -وما أكثرها- بين القانون الروماني والفقه الإسلامي، سواء فيما يتعلق بنظم القانون الخاص، أم القانون العام، أم قانون العقوبات".
ولعل هذا الخلاف بين المنهجين (منهج السنهوري وأبي طالب) ناتج من تأثير التخصص، فالسنهوري رجل قانوني يهتم بالتشريعات والدساتير، فالتطبيقات هي التي تشغل حيزًا كبيرًا من حياته، أما الدكتور صوفي فهو متخصص في دراسة فلسفة القانون وتاريخه، فالمحطات التاريخية هي التي يقف عندها. ولا شك أن المنهجين يكمل كل منهما الآخر، ويدعم نتائج ما توصل إليه كل طرف في تخصصه.
- حين يضع أبو طالب يده على مواضع التشابه يحاول جاهدًا إظهار الفروق بينهما، إما من خلال التطبيق، أو من خلال فلسفة النظام؛ لذلك عقد فصلًا عن النظم التي قيل بتشابهها، وكلمة "قيل" - كما هو معروف- توحي بضعف الرأي غالبًا، ومن الأمثلة على ذلك نظام الشفعة، فقد قيل: إن نظام الشفعة منحدر من نظام الاسترداد المعروف في القانون البيزنطي، وقد اعتدل بعضهم وقال بأن هذا النظام البيزنطي اتخذه الفقهاء المسلمون نموذجًا لهم في نظام الشفعة، ولكن هذا الرأي أثبتت الأبحاث عكسه، فلا علاقة بين نظام الشفعة في الفقه الإسلامي ونظام الاسترداد إلا من حيث الغرض الذي يرميان إليه وهو دفع الأذى والضرر، ووحدة الغرض هذه لا تفسر إلا بوحدة الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع العربي وفي المجتمع الروماني، فنظام الشفعة كان معروفًا في المجتمع العربي قبل الإسلامي، والعرب لم يكن لهم أدنى صلة بالقانون البيزنطي، فقد نقلت دواوين الفقه أن "الْأَصْل فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إذَا اشْتَرَى حَائِطًا أَوْ مَنْزِلًا أَوْ شِقْصًا مِنْ حَائِطٍ أَوْ مَنْزِلٍ أَتَاهُ الْمُجَاوِرُ أَوْ الشَّرِيكُ فَشَفَعَ لَهُ فِي أَنْ يُوَلِّيَهُ إيَّاهُ لِيَتَّصِلَ لَهُ الْمِلْكُ أَوْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ الضَّرَرُ حَتَّى يَشْفَعَهُ فِيهِ فَسَمَّى ذَلِكَ شُفْعَةً وَسَمَّى الْآخِذَ شَفِيعًا وَالْمَأْخُوذَ مِنْهُ مَشْفُوعًا عَلَيْهِ" . أما عن نقطة الخلاف فالنظام الروماني يلزم صاحب الحكر إذا أراد بيع حقه بالحصول على موافقة مالك الأرض المستحكرة، ولهذا الأخير الخيار بين أمرين: له أن يرفض الموافقة على البيع، وفي هذه الحالة يلتزم هو بشراء حق الحكر بنفس الثمن الذي عرضه المشتري، أما إن وافق على البيع فله الحق في الحصول على رسم قدره 2% من الثمن من المشتري.
- اهتم الدكتور صوفي أبو طالب بالقوانين القديمة بصورة أكبر من القوانين الحديثة، كما أنه اهتم بالمنبع الذي انحدرت منه القوانين الفرعية، فهو دائمًا يذكر الشرائع اللاتينية والجرمانية، وهكذا في مقابل الشريعة الإسلامية، ولا تعنيه -بصورة كبيرة- القوانين الحديثة التي انبثقت منها، مثل القانون السويسري وغيره، مع ملاحظة أن أكثر القوانين مقارنة في أبحاث الدكتور صوفي تعلقت بالقانون الروماني.
رابعًا: من مؤلفات د. صوفي أبو طالب
- بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، دراسة، محمد عمارة، ط الأزهر، 1434هـ.
- الوجيز في القانون الروماني، دار النهضة، 1964م.
- تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، دار النهضة العربية، 1972م.
- حالة المرأة القانونية في البلاد العربية (بالفرنسية)، 1977م.
- الاشتراكية والديمقراطية، 1977م.
- تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد العربية، دار النهضة، الطبعة الثالثة، 1990م.
- محاضرات ألقاها حول تطبيق الشريعة (مجموعة)، مكتبة كلية الحقوق.
- قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، (برئاسة د. صوفي أبو طالب)، دار ابن رجب والفوائد، ط1، 2013م.
- مبادئ تاريخ القانون، دار النهضة العربية، 1387هـ - 1967م.
- السلطة التشريعية في مصر، تكوينها ومقوماتها، المجلة الجنائية القومية، يوليو 2005م، العدد الثاني المجلد، 48.
- الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي في البلاد العربية (الماضي والحاضر والمستقبل). مجلة اتحاد الجامعات العربية، عام 1995م.
- المصالح المرسلة كمبدأ من مبادئ تقنين الشريعة، مجلة الأزهر، مارس 2013م.
خامسًا: التكريم والجوائز
حصل الدكتور صوفي أبو طالب على العديد من الجوائز منها "وسام الشرف" من الحكومة الفرنسية عام 1977م، ووسام "الشرف" من هيئة البرلمانيين الناطقين باللغة الفرنسية 1980م، ووسام الجمهورية من حكومة السودان 1982م، ووسام النيل 1983م و"جائزة الدولة التقديرية" 1990م.
سادسًا: وفاته
توفي د. صوفي أبو طالب فجر يوم (21 فبراير 2008م) في ماليزيا، عندما كان يشارك في الملتقى العالمي الثالث لرابطة خريجي الأزهر حول العالم في كوالالمبور.
المراجع
- أثر الوعي الإسلامي في النهضة القانونية الأوربية في العصور الوسطى دراسة تاريخية تحليلية"، أحمد محمد بخيت، مجلة الأمن والقانون، دبي، السنة التاسعة العدد الثاني، 1422هـ - 2001م.
- تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، د. صوفي أبو طالب، دار النهضة، 1428هـ، 2007م.
- تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد العربية، للدكتور صوفي أبو طالب، دار النهضة، الطبعة الثالثة 1990م.
- تطبيق الشريعة في مجلس الشعب، عاطف مظهر، تقديم إبراهيم بيومي.
- تطبيق القوانين الأجنبية في مصر الإسلامية في ضوء فلسفة القانون وتاريخه، أنور حلمي عبد الهادي رسالة دكتوراه بإشراف د. صوفي أبو طالب، القاهرة 2006 رقم (2/339).
- تقنين الشريعة في مجلس الشعب، د. محمد عمارة، ط الأزهر، 1434هـ.
- التملك بالشفعة وطبيعته القانونية: دراسة مقارنة في القانون والشريعة: رسالة دكتوراه في القانون، موسى سلمان صالح، رقم (2/049) جامعة القاهرة، كلية الحقوق 1983م.
- الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، د. صوفي أبو طالب، تقديم د. محمد عمارة، ط الأزهر، 3012م.
- الشفعة علمًا وعملًا: أ.د. نبيل إبراهيم سعد، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1997م.
- صوفي أبو طالب رئيس مصر الأسبق ومشروع تقنين الشريعة الإسلامية، مقال بمجلة العرب (على الشبكة الدولية)، زينب الروبي، 9 ديسمبر، 2017م.
- مقال بمجلة القانون والاقتصاد، العدد الخاص، 1990م.