تعد المقاومة المسلحة "Armed resistance" من أبرز ظواهر المقاومة ضد المحتل[1]، ويعتبر مفهوم المقاومة المسلحة من أهم المفاهيم في القانون الدولي العام، والذي يحتل مكانة بارزة ضمن موضوعات هذا القانون، نظرًا لكونه يرتبط بكرامة الشعوب "Dignity of people" التي تعيش تحت نير الاستعمار وحقها في تقرير مصيرها "The right to self-determination"[2]، بدوافعها الوطنية التي تعتبر أسمى وأنبل الدوافع الإنسانية دفاعًا عن أراضيها ضد العدوان الخارجي أو من أجل تطهيرها من الاحتلال الحربي، فالمقاومة رد فعل طبيعي للظلم والقهر والاحتلال؛ لذلك تُشَكّل حركات تحرير في صورة تنظيم في الأقاليم الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية، حيث تقود تلك الحركات معركة الشعب ضد هذه السيطرة، لتمكينه من استرداد حقه في تقرير مصيره وتحقيق الاستقلال الوطني. وتتبع هذه الحركات أسلوبًا أساسيًا هو الكفاح المسلح أو ما يسمى بالحرب الشعبية لكنها تمارس إلى جانبه النضال السياسي[3].
وتُعرف المقاومة المسلحة -في أبسط معانيها- بأنها: "قيام مجموعة من أفراد الشعب المدنيين باستعمال السلاح بهدف طرد المحتل بشكل عفوي أو من خلال تنظيم لا يرقى إلى درجة الجيش[4]، ويعرفها أستاذنا الدكتور صلاح الدين عامر -رحمه الله- بأنها: "عمليات القتال التي تقوم بها عناصر وطنية من غير أفراد القوات المسلحة النظامية، دفاعًا عن المصالح الوطنية أو القومية ضد قوة أجنبية، سواء كانت تلك العناصر تعمل في إطار تنظيم يخضع لإشراف وتوجيه سلطة قانونية أم واقعية، أم كانت تعمل بناءً على مبادرتها الخاصة، وسواء باشرت هذا النشاط فوق الإقليم الوطني، أم من قواعد خارج هذا الإقليم"[5].
ودائمًا ما يثور التساؤل حول مدى مشروعية المقاومة المسلحة في القانون الدولي العام
والحقيقة أن الإجابة على هذا التساؤل تقتضي التأكيد في البداية على شرعية المقاومة المسلحة، ويؤكد ذلك نوعين من الأسانيد أو الحجج، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: الأسانيد الفقهية: وتتمثل في شرعية المقاومة المسلحة استنادًا إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها[6]، وحقها في الدفاع الشرعي ضد أي اعتداء خارجي المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة[7]؛ ذلك أن القانون الدولي لم يعد يبرر الاحتلال الحربي، ويعتبره أمر غير مشروع وأن أية مساعدة تقدمها دولة أو دول أخرى لدولة ظالمة أو محتلة أو مسيطرة أو معتدية هو عمل غير مشروع أيضًا، واستنادًا لذلك فإن قوات الاحتلال فاقدة لمبرر وجودها على الأراضي التي تحتلها، وهذا اعتراف صريح وكامل بشرعية استخدام المقاومة لوسائل القوة، ومن ضمنها الوسائل العسكرية، للدفاع عن بلدانها ضد القوات المعتدية دون وجه حق[8].
ثانيًا: الأسانيد القانونية: حيث توجد العديد من المواثيق القانونية الدولية التي تؤكد على شرعية المقاومة والمسلحة، نذكر منها على سبيل المثال:
- قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة: أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة العديد من القرارات التي تؤكد على مشروعية المقاومة المسلحة، ومن أمثلة هذه القرارات: القرار رقم 3070 الصادر في عام 1972م، والقرار رقم 3314 لعام 1974م، والقرار رقم 3103 لعام 1974م، والقرار رقم 46/51 الصادر في 9 ديسمبر 1991م[9].
- الاتفاقيات الدولية: هناك العديد من الاتفاقيات الدولية التي تؤكد وتنص في موادها على شرعية المقاومة المسلحة، ومن أمثلة هذه الاتفاقيات: اللائحة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية في لاهاي لعام 1907م[10] المادة الأولى[11]، واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949م، والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977 الملحقين باتفاقيات جنيف لعام 1949م؛ حث ورد في اتفاقيتي جنيف الأولى والثانية في المادة 13 تأكيد حق الشعوب في تقرير مصيرها، وإضفاء الحماية على الأقاليم المحتلة، عندما تثور ضد قوات الغزاة الأجانب، كما اعترفت المادة 4 من الاتفاقية الثالثة الخاصة بأسرى الحرب بالمركز القانوني للمقاومين بوصفهم أسرى حرب سواء كانوا يعملون داخل الإقليم المحتل أم خارجه[12].
وإذا نظرنا إلى موقف الشريعة الإسلامية من المقاومة المسلحة نجد أنها أكدت على مشروعية تلك المقاومة لرد الاعتداء والاحتلال، ومن أجل دفع الفساد والمفسدين، وتحطيم شوكة الباطل، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [سورة الحج: الآية 40]، فلولا ما شرعه الله عز وجل للأنبياء والمؤمنين من قتال أعداء الله قديمًا وحديثًا لهيمن المعتدون على المؤمنين والمستضعفين ولضاعت مواضع العبادة في الأرض[13].
ويمكن القول بأن مقاومة ودفع المعتدي هو أمر مشروع في الشريعة الإسلامية، بل هو واجب على الأفراد والجماعات، حيث أكدت الشريعة الإسلامية على وجوب الدفاع المشروع ضد أي اعتداء، على أن يكون هذا الدفاع بالقدر الذي يفي برد هذا الاعتداء، مصداقًا للآيات القرآنية الكريمة، ومن ضمنها، قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة البقرة: الآية 194][14].
ونخلص إلى أن الشريعة الإسلامية حثت على مقاومة الظلم والطغيان والتعدي على الأفراد والأعراض والدول، والتصدي لدفع العدوان، وهذا أيضًا ما أكدت عليه أيضًا -فيما بعد- الاتفاقيات والمواثيق الدولية وقواعد القانون الدولي.
---------------------------------------------
[1] راجع:
Patrick Dailler, Alain Pellet, Droit Internationl Public, 7 edition, L.D.G, P.953.
مشار إليه في: د. رشيد حمد العنزي، ود. عبد السلام حسين العنزي، المقاومة المسلحة في ظل قواعد القانون الدولي، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، ع: 58، أكتوبر 2015م، ص267.
[2] انظر: د. مرابط وسيلة، استخدام القوة في العلاقات الدولية وأثره على فرض الشرعية، مركز الدراسات العربية، القاهرة، 2021م، ط1، ص406.
[3] انظر: اعتصام العبد صالح الوهيبي، احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان في ظل الاحتلال الحرب مع إشارة خاصة للأوضاع في الأقاليم الفلسطينية والعراق وأفغانستان، دار النهضة العربية، القاهرة، 2013م، ص163.
[4] انظر: د. أحمد أبو الوفا، الوسيط في القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 2004م، ط4، ص761-762.
[5] انظر: د. صلاح الدين عامر، المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي العام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1977م، ص41.
[6] أكدت محكمة العدل الدولة على حق الشعوب في تقرير مصيرها في أكثر من حكم لها؛ ففي قضية الصحراء الغربية Western Sahara أشارت المحكمة إلى أن الحق في تقرير المصير هو حق للشعب، وليس للحكومات، وكذلك في قضية ناميبي سنة 1971م اعترفت المحكمة بطبيعة الحق في تقرير المصير باعتباره قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، وفى هذه القضية اعترف القاضي أمون في رأيه المستقل بالصفة الآمرة لقواعد الحق في تقرير المصير ، وفى قضية نيكاراغوا والولايات المتحدة الأمريكية عدّت المحكمة حق تقرير المصير من القواعد الآمرة في القانون الدولي، هذا وتجدر الإشارة إلى أن لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي نصت في قرارها الصادر عام 1979م على أن لجنة حقوق الإنسان تؤكد باستمرار شرعية النضال ضد الاستعمار بالوسائل المتاحة كافة بما في ذلك الكفاح المسلح.
د. رشيد حمد العنزي، ود. عبد السلام حسين العنزي، المقاومة المسلحة في ظل قواعد القانون الدولي، مرجع سابق، ص301.
[7] تنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه: "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأمم المتحدة" وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورًا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس -بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق- من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه.
[8] انظر: خليفة عبد السلام الشاوش، الإرهاب والعلاقات العربية الغربية، دار جرير للنشر والتوزيع، الأردن، 2008م، ط1، ص107؛ د. مرابط وسيلة، استخدام القوة في العلاقات الدولية وأثره على فرض الشرعية، مرجع سابق، ص411.
[9] للمزيد من التفاصيل حول هذه القرارات راجع: توفيق الحاج، القرار 1373 والحرب على الإرهاب، منشورات زين الحقوقية، لبنان، 2013م، ط1، ص169؛ تهاني على يحيى زياد، الإرهاب ووسائل مكافحته في الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب لسنة 1988م "دراسة مقارنة"، دار النهضة العربية، القاهرة، 2008م، ص153-158؛ خليفة عبد السلام الشاوش، الإرهاب والعلاقات العربية الغربية، مرجع سابق، ص102؛ د. مرابط وسيلة، استخدام القوة في العلاقات الدولية وأثره على فرض الشرعية، مرجع سابق، ص414-418؛ اعتصام العبد صالح الوهيبي، احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان في ظل الاحتلال الحرب مع إشارة خاصة للأوضاع في الأقاليم الفلسطينية والعراق وأفغانستان، مرجع سابق، ص171.
[10] راجع: د. سهيل حسين الفتلاوي، الإرهاب وشرعية المقاومة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، دون دار نشر، د. ت، ص120.
[11] حيث نصت هذه المادة على مشروعية حركات المقاومة المسلحة متى توافرت فيها الشروط المنصوص عليها في هذه المادة، والتي جاء نصها على النحو التالي: إن قوانين الحرب وحقوقها وواجباتها لا تنطبق على الجيش فقط، بل تنطبق أيضًا على أفراد الميلشيات والوحدات المتطوعة التي تتوفر فيها الشروط التالية:1. أن يكون على رأسها شخص مسؤول على مرؤوسيه. 2. أن تكون لها شارة مميزة ثابتة يمكن التعرف عليها عن بعد. 3. أن تحمل الأسلحة علنًا. 4. أن تلتزم في عملياتها بقوانين الحرب وأعرافها".
[12] ينظر: د. مرابط وسيلة، استخدام القوة في العلاقات الدولية وأثره على فرض الشرعية، مرجع سابق، ص419-420.
[13] انظر: محمد حمد الرحيل الغرايبة، المقاومة والإرهاب وإشكالية تحديد مفهوميهما في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، جرش للبحوث والدراسات، جامعة جرش، مج: 18، ع: 2، ديسمبر 2017م، ص97.
[14] المرجع السابق، ص97.