Print this page

اختطاف الإسلام.. تطبيق الشريعة الإسلامية نموذجًا (2 -3)*

By د. حازم على ماهر** تشرين1/أكتوير 02, 2025 44 0

خامسًا: العلاقات والمؤسسات:

كان من الطبيعي أن تتجسد استراتيجيات اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية في إحلال مؤسسات تعمل على تمكين هذا الاختطاف وترسيخه، محل المؤسسات التي كانت تمثل تجسيدًا للشريعة وتنزيلاً لأحكامها على أرض الواقع، وقد سبقت الإشارة إلى أن الدولة القومية الحديثة كانت إحدى أدوات الاستدمار في تحقيق الهيمنة على البلاد المستدمرة، وهذه الدولة تتشكل من سلطات عامة ثلاث تتولى الوظائف الأساسية في الدولة، وهي: التشريع، والتنفيذ، والقضاء، وتتبنى مبدأ "الفصل بين السلطات" ومبدأ "السلطة تحد السلطة" كي توقف أي تعارض أو تعسف أو تجاوز محتمل من أي من هذه السلطات على السلطة الأخرى.

 وفي النهاية فإن الدولة تمتلك كل هذه السلطات، وتعد هي نفسها مرجعية لنفسها، وهو أمر مغاير لطبيعة توزيع السلطات في الخلافة الإسلامية وولاياتها، حيث كانت وظيفة التشريع تجد مرجعيتها الملزمة في الشريعة الإسلامية، بينما كان القضاء لا يتولى فقط الفصل في الخصومات، بل كانت له اختصاصات أخرى، بعضها يخص السلطة التشريعية حاليًا (مثل: توقيع العقوبات التعزيرية)، وبعضها يخص السلطة التنفيذية (مثل: وظيفة الاحتساب)، بينما قد يتولى الخليفة نفسه منصب القضاء إذا كان أهلا له، فلم يكن هناك فصل عضوي حقيقي بين وظائف الخلافة الأساسية، غير أن ضمانات عدم تغول سلطة على أخرى كانت أقوى منها في نظام الخلافة عنها في نظام الدولة القومية، لاعتماده على مرجعية شريعة حاكمة عصية على التبديل أو الاحتواء، ولو كان من الخليفة نفسه، فضلا عن ترسيخها للوازع الديني الذي كان يوفر على سلطات الدولة الكثير في الالتزام الذاتي بأحكام الشريعة، على عكس القانون حاليًا الذي يستنفر كل إمكانات الدولة كي يلزم الناس بالقوانين فلا يلتزمون إلا جبرًا غالبًا، خشية توقيع العقوبات عليهم، ما لم يجدوا مخرجًا، أو ركنًا يأوون إليه يحول بينهم وبين الحساب والعقاب.

والحاصل أن اختلاف بنية الدولة القومية ومؤسساتها عن بنية الشريعة الإسلامية ومؤسساتها، أدى إلى نوع من الاختطاف للشريعة الإسلامية، في جانب العلاقات والمؤسسات، ومن ذلك مثلاً:

1-  إحلال البرلمانات محل علماء الشريعة الإسلامية: فقد كانت الشريعة الإسلامية بأيدٍ أمينة، هي أيدي الفقهاء المسلمين، الذين كان سلطانهم علمهم، وسلاحهم صلاحهم، فإذا بالمحدثين الجدد (من التحديث لا من علم الحديث) يستبدلون بالفقهاء مجالس نيابية تسن القوانين الوضعية الملزمة للقضاة والمواطنين، بعضها يخالف أحكام شرعية قطعية، والكثير منها يؤسس لتمكين مؤسسات الدولة من مفاصل المجتمع، لاسيما أن هذه البرلمانات لم تقم في الواقع على أسس ديمقراطية حقيقية، بل استنادًا إلى انتخابات غير نزيهة غالبًا، تسفر عن اختيار نواب عن الحكام لا عن الشعوب، ومن ثم لم تكن أياديهم أمينة، لا على الشعوب ولا على الشريعة، وحتى إن حصل بعض من الشرفاء على عضوية تلك المجالس فقد كانوا أقلية تستجدي "ديكتاتورًا" لتطبيق الشريعة الإسلامية التي إن طبقت بحق ستزيحه عن الحكم لتسلطه واستبداده وفساده، ومن ثم كان طبيعيًا أن يرفض الحكام هذا المطلب، أو يوافق عليه بعض الجائرين منهم ظاهريًا -بشكل مؤقت- لاكتساب شرعية لدى الجماهير المتعطشة لإنفاذ شريعة دينهم، أو لتحويل الشريعة السمحة الغراء إلى "قفاز" يستخدمه الحاكم المستبد في ارتكاب جرائمه حتى لا تظهر "بصماته الواشية"[1].

ومن ثم فقد كانت المحصلة هي فشل كل المحاولات البرلمانية لتعميم الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين منذ إقصائها عن التطبيق على أيدي قوى الاحتلال الإنجليزي، بل وعجزت تلك البرلمانات العربية في معظمها عن تسويد القانون الوضعي نفسه في غالب الأحيان، ورسخت تسويد السلطة التنفيذية بلا رقيب أو حسيب، فلم تعد السيادة في الدولة القومية العربية -في الحقيقة- لا للشريعة ولا للقانون، وإنما للحاكم وحده منفردًا، ومن ثم افتقدت المجتمعات العربية لتحقيق العدالة والمساواة وغيرها من قيم الشريعة الإسلامية وروحها!

2- استبدال المحاكم الوضعية بالمحاكم الشرعية: كان الشغل الشاغل للاستدمار الغربي هو السيطرة على القضاء، والفصل بينه وبين المرجعية الشرعية الإسلامية[2]. ولذلك فرض النظام القضائي الغربي هيكليًا بعد أن فرض التشريعات الغربية من قبل -نصوصًا ومرجعية، وذلك سواء بقرار مباشر منه -مثل فرض المحاكم القنصلية والمختلطة في مصر-، أو بأيدي الحكومات المستبدة التي زرعها في البلاد بعد سحب جنوده من أراضيها نظرًا لاقتناعه بوجود أسلحة جديدة بديلة تفرض هيمنته الكاملة من الخارج، ومن ثم لجأ إلى تنصيب حكام من الداخل يمكن التحكم فيهم وتوجيههم كذلك.

ولذلك فإن المحاكم الشرعية أُلغيت في كثير من البلاد الإسلامية بقرارات حكومات تنتمي إلى هذا البلاد، مثلما حدث في تركيا (بدءًا من الإلغاء الجزئي عام 1847م، ثم الإلغاء الكلي للمحاكم الشرعية في عام 1924م) وفي مصر (عام 1956م)، وذلك بعد سلسلة طويلة من الحصار المضروب عليها من قبل الدولة، حيث نُقلت تبعيتها إلى وزارة العدل عام 1880م، ثم تدنت مرتبتها من المحاكم الوحيدة في القطر المصري، إلى المرتبة الثالثة سنة 1883 (بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد فقط) خلف كل من المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، كما اقتصرت اختصاصاتها على الأحوال الشخصية والوقف والهبة فقط[3]!.

وليت الأمر انتهى عند فصل القضاء عن مرجعيته الشرعية والفقهية، ولكن الحقيقة أنه تم فصله كذلك –بالتدريج- عن الاستقلالية تجاه السلطة، الممثلة في الحاكم وحكومته –السلطة التنفيذية- حيث نادرًا ما تمتع القضاء نفسه بالحرية والاستقلالية، مثله مثل "المواطنين" تمامًا، وفي هذا فصلُ آخر عن المرجعية الإسلامية التي لا تجعل هناك سلطانًا على القاضي سوى إيمانه وشريعة ربه وضميره، فإذا به في الدولة الحديثة المستوردة –شكليًا وهيكليًا- يخضع لسلطان فرعوني متألٍّ؛ فكان هذا هدرًا آخر للمفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، ولاسيما قيمها العليا، التي تأتي على رأسها قيم ومبادئ العدل والشورى ومسؤولية الرعاة (الحكام) وسيادة الشريعة!

3-  تأميم الدولة للمؤسسات والوظائف الدينية: من المعلوم أن الإسلام يرفض الكهنوت، ولا يعرف صكوك الغفران، حيث يستعيض عنها بإتاحة التواصل  للفرد مع المولى عز وجل دون حائل أو وساطة، وأنه على الرغم من المحاولات الكثيرة للهيمنة على الدين إلا أنه ظل عصيًا على الانصياع الكامل لكافة المحاولات التي جرت للسيطرة عليه وتوظيفه في خدمة الطغيان، إلا أن هذه المحاولات ظلت مستمرة، ونمت في عهود الاحتلال الأجنبي العسكري المباشر، والذي فرض تبعية المؤسسات الدينية للدولة الحديثة، وعطل كل ما من شأنه مد يد العون للإبقاء على استقلالية تلك المؤسسات، فحرمها -على سبيل المثال- من الأوقاف المخصصة لها وللقائمين عليها حتى تحولوا إلى مجرد موظفين ينتظرون رواتبهم من الدولة بعد أن كانوا يعتمدون –إلى جانب عوائد ممارستهم مهنهم الحرة- على مخصصات مالية موقوفة لهم من صفوة المجتمع المنفقين أموالهم في سبيل الله وفي نصرة دينه وشريعة ربهم، مما أثر بالسلب على التعليم الديني وعلى الاجتهاد الشرعي الذي كان لا قيد عليه سوى قواعد أصولية عامة ومجردة تستهدف ضمان الاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية بقدر الإمكان البشري، فأصبح محاطًا ببيئة استبدادية لا يأمن فيها المجتهدون على أنفسهم ولا على أرزاقهم، فقُيدت حريتهم، وسُلب منهم الأمان، وتحولت المؤسسات الدينية –أو كادت تتحول- إلى التوقيع عن الحاكم المستبد لا عن الله رب العالمين، وحُرمت الشريعة الإسلامية من مجتهدين يتصفون بالشجاعة والإخلاص تحميهم مؤسسات دينية مستقلة، بعد أن أممت الدولة الدين وباتت المتحكمة فيه وفي تأويله الصحيح[4].

ومن أهم مظاهر هذا التحكم ما حدث في مصر -على سبيل المثال- من إنشاء دار الإفتاء وجعل تبعيتها للدولة، ممثلة في وزارة العدل، بدءًا من عام 1895م، بعد أن كان الإفتاء قبلها يتولاه علماء الأزهر اعتمادًا على مكانة الأزهر، الذي كان رجاله (مفتين) بثقة الناس فيهم دون حاجة لتعيين الدولة، كما أنهم كانوا يحتكرون مناصب التعليم والقضاء، قبل أن تزاحم الأزهر دور التعليم العلمانية الحديثة، من مدارس وجامعات على النسق الغربي، فضلًا عن محاصرة الأزهر نفسه بإصدار رئيس الجمهورية القانون رقم 3 لسنة 1961م بشأن تنظيم الأزهر والهيئات الذي أفقد الأزهر استقلاله تمامًا، وأدمجه في النظام التعليمي الرسمي ونقله "من وضعية المدرسة الفقهية إلى وضعية الجامعة العلمانية والمؤسسة الرسالية"[5].

وقد حدث لنظام الوقف الإسلامي، ما حدث للأزهر الشريف وللمحاكم الشرعية، حيث تحول من نظام مستقل أسهم بقوة في تشييد الحضارة الإسلامية، إلى نظام تابع للدولة يخضع لإدارتها المركزية، وتقوم عليه "وزارة الأوقاف" كما سميت في غالبية دول العالم الإسلامي، كما هو معلوم.

وهذه بعض النماذج والتغيرات التي فرض معظمها الاحتلال الأجنبي على دول العالم الإسلامي، ثم على دول ما بعد الكولونيالية التي خلَّفَها من بعده، ليضمن أن تسير بمنهجه ووفق إرادته، وهي كلها تغييرات أسهمت في استمرارية اختطاف الإسلام، وتحريف مفهوم تطبيق شريعته، حيث بات المطلوب الآن هو تطبيق الشريعة عبر سن البرلمان لقوانين وضعية متفقة مع الشريعة، لا الشريعة نفسها مستمدة من مصادرها وفق أصول الفقه وبالاختيار من الفقه الآخذ عنه، على أن يطبقها القضاء العلماني المكبل من قبل الدولة، لا القضاء الشرعي المستقل كما كان في غالبية التاريخ الإسلامي وفق مبادئ الشريعة وقيمها، وبتحديد من خريجي مؤسسات تعليمية علمانية، أو دينية صودرت استقلاليتها ونقلت تبعيتها إلى بيروقراطية الدولة، بعد أن ألغيت الأوقاف التي تدعمها بل وألغيت بالكامل في كثير من الأحيان.

ألم يكن هذا اختطافا بالكامل لتطبيق الشريعة مفهومًا وهياكل ومؤسسات وبنية تعليمية وثقافية واقتصادية؟!

 

سادسًا: نماذج نجاح فاعلة.. حالات وخبرات:

من المهم أن نشير أولاً إلى أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو أمر نسبي، وسلوك بشري، لا يمكن أن يصل إلى حد الكمال، فإن الكمال لله وحده عز وجل، ولكن المقصود هنا هو بيان بعض النماذج الفاعلة التي تمثل خبرات ناجحة في الإدراك الصحيح لمفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعتبر بمثابة خطوات ناجحة في سبيل التنزيل الأمثل للشريعة الإسلامية في العصر الحديث وفي واقعنا المعاصر، حتى وإن اقتصر الأمر أحيانًا على تقديم أفكار معمقة ينبغي الالتفات إليها لمقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية.

ومن تلك النماذج الفاعلة والخبرات الجيدة:

1- بناء مؤسسات استطاعت أن تقوم بدور كبير في استبقاء الفقه الإسلامي حاضرًا وفعالاً في وقت يراد فيه هدمه وإزاحته تمامًا عن الواقع المعيش، ولعل من أبرز تلك المؤسسات -التي جعلت أساسًا لمزاحمة المؤسسات التعليمية الإسلامية التي كانت تسود النظام التعليمي والتربوي في العالم الإسلامي، إلا أنها استطاعت أن تسهم عمليًا في تطوير الدراسات الفقهية، وتخرج علماءً أفذاذًا- مدرسة الحقوق الخديوية التي أنشئت في مصر أساسًا تحت اسم "مدرسة الإدارة والألسن" في أكتوبر (1868م) ثم ظهرت باسم "مدرسة الحقوق الخديوية" في الفترة من 1886م إلى 1925م، فهذه المدرسة ومن بعدها كلية الحقوق، ومن قبلها دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، كانت تدرس فيها علوم حديثة، وعلوم فقه الشريعة الإسلامية، ومورست فيها دراسات القانون المقارن بتعاون وبجدل خصب ومتنام. بغير أي صراعات هدامة.. فاستخلصت "مدرسة" الفقه الإسلامي خير الفقه الغربي من حيث التنظير والتقنين، ومن حيث خيارات ما يصلح للمعاملات مما وسعته الشريعة الإسلامية، وانجذب من مدرسة الفقه الحديث من انجذب تقديرًا للمستوى الفذ الذي ظهر به فقه المسلمين.. وجرى ذلك في هذا المجال المؤسسي، ويجري بغير صراعات تنفي وتهدم، كما نلحظ في المجال السياسي[6].

2- إجراء العديد من الدراسات المقارنة المعمقة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي: حيث اتخذ بعض العلماء وأساتذة الفقه والقانون سبيلاً مهمًا في مقاومة استلاب الشريعة الإسلامية بحجة تفوق القانون الوضعي وصلاحيته وحده للاحتكام إليه والحكم به في المنظومة التشريعية المعاصر، فما كان من هؤلاء العلماء والأكاديميين والباحثين إلا أن أجروا الكثير من الدراسات المقارنة لإثبات تفوق الشريعة الإسلامية على القانون الوضعي، أو على الأقل صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فضلاً عن مقاومة "الاحتلال القانوني"، ومن هؤلاء، كل من: الشيخ مخلوف المنياوي، محمد قدري باشا، الشيخ أحمد أبو الفتح، الشيخ أحمد إبراهيم، الدكتور عبدالرزاق السنهوري، وغيرهم[7].

3- جهود تقنين الفقه الإسلامي، سواء على أيدي بعض الأفراد من العلماء والباحثين، أو عبر بعض اللجان المشكلة من بعض البرلمانات: حيث جرت محاولات جادة لتقنين الفقه الإسلامي مواكبة لحركة التقنين التي سادت العالم الإسلامي عنوة –في البداية- ثم اختيارًا، بهدف إثبات أن الشريعة الإسلامية تقبل التقنين كذلك، ويمكن اللجوء إليها والاعتراف بمرجعيتها في هذا الشأن، ومن تلك الجهود، كانت مجلة "الأحكام العدلية" التي أصدرتها الدولة العثمانية في عام 1876م، وكانت أحكامها مستمدة من الفقه الحنفي بصفة عامة، ومبوبة على نسق التقنين الغربي، والتي كان من آثارها قيام حركة فقهية نشطة، فضلًا عن إصدار تلك التقنينات التي وضعها وزير الحقانية (العدل) المصري محمد قدري باشا في مجموعاته الفقهية "مرشد الحيران"، و"الأحوال الشخصية"، و"الإنصاف في أحكام الأوقاف"، والتي جاءت هي الأخرى مستمدة من المذهب الحنفي على غرار مجلة الأحكام العدلية[8]، ثم توالت وتدفقت بعد ذلك حركة التقنين، لاسيما تلك التقنينات التي أصدرها الأزهر الشريف في فترة السبعينات من القرن العشرين مأخوذة عن الفقهاء الأربعة الكبار، أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، كل على حدة.

4- تطبيقات بعض الدول الإسلامية للشريعة: قد يُفهم من هذا العنوان الفرعي أن المقصود هنا تلك الدول التي ظلت تطبق الحدود الشرعية -بمعنى العقوبات المقدرة شرعًا- ولكن هذا الفهم في غير محلة، باعتبار أن هذه الدول استخدمت في الحقيقة المفهوم المخطوف لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يحصر الشريعة الإسلامية في عدد من العقوبات والجزاءات ومن ثم يبتعد عن المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، الذي يشمل كل أحكامها الكلية والجزئية، القيمية والعقابية، الأخلاقية والفقهية، ومن ثم نستبعد بالقطع تلك المحاولات باعتبارها تثبت المفهوم الاستلابي لتطبيق الشريعة ولا تنفيه.

أما النماذج المقصودة في هذا الشأن، والتي كان نجاحها جزئيًا للأسف، فمنها مثلا تجربة باكستان حين أنشأت مجلسين عتيدين في المجتمع الباكستاني يتولى أولهما –وهو مجلس الفكر الإسلامي- مسؤولية مراجعة القوانين القائمة من وجهة الشريعة الإسلامية لتحديد أوجه التناقض واقتراح الحلول، وثانيهما: معهد البحوث الإسلامي الذي يقوم بإجراء البحوث في المجالات الاقتصادية والمالية والقانونية من وجهة الشريعة الإسلامية، لتيسير تطبيق أحكامها، بالإضافة إلى إنشاء "المحكمة الشرعية الاتحادية" عام 1980م، للقيام بمهمة مراجعة القوانين القائمة لتنقيتها مما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، والحكم بعدم شرعية أي نص قانوني يخالف أحكام الشريعة، لتستكمل مهمة مجلس الفكر الإسلامي النظرية بإضافة الطابع العملي إليها[9]، وهي تجربة تستحق الاحتذاء بإشراكها القضاء في حماية الشريعة، إلى جانب مجلس للفكر ومعهد للبحوث يساعدان القضاء في القيام بهذه المهمة، ليتضافر الجهدين النظري والعملي في سبيل إنفاذ الشريعة الإسلامية وإقصاء القوانين المخالفة لقطعياتها.

ومن تلك النماذج كذلك  تجارب معاصرة ناجحة من منظور آخر، مثل: تجربة ماليزيا حين نهضت على المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يدخل من ضمنه مقصد عمران الأرض وامتلاك القوة الاقتصادية اللازمة لقيام الدولة على أسس إسلامية حديثة، وتتبني المفهوم الحضاري الأوسع لتطبيق الشريعة الإسلامية استنادًا لأفكار مالك بن نبي على ما يبدو، وتركيا حين اختارت التنمية وتحرير الإرادة الوطنية واستقلالية القرار التركي قدر الإمكان، ومصر حين اختارت أن يشكل البرلمان (مجلس الشعب)  لجانًا علمية مكونة من رجال فقه وقانون وقضاء مخضرمين، كلفها بإعداد مشروعات لستة قوانين موافقة للشريعة الإسلامية وخالية مما يخالف نصًا شرعيًا قطعي الثبوت والدلالة، فقامت بمهمتها على الوجه الأكمل خلال الفترة من (1978-1982) وأنجزت تلك المشروعات المتميزة بالفعل، ولكن التجربة لم تكلل بإصدار هذه المشروعات لأسباب سياسية للأسف الشديد، وهي كلها نجاحات تحتاج إلى الاستكمال والتراكم والبناء.

5- طرح أفكار نظرية وعملية فعالة في كيفية التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية في عالمنا المعاصر: هناك العديد من الفقهاء والمفكرين الذين قدموا أفكارًا مهمة في مقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، ومنهم الفقيه عبد الرزاق السنهوري، الذي رفض التلفيق بين الشريعة والقانون، وطالب بضرورة احترام الشريعة الإسلامية والإقرار بتفوقها على النظم القانونية الأخرى، وقدم مثالا عمليًا على ما طالب هو به، وذلك في كتابه: "مصادر الحق في الشريعة الإسلامية"، وكذلك في القوانين المدنية التي وضعها استنادًا إلى الشريعة الإسلامية في بعض الدول العربية، كالعراق والأردن.

وهناك كذلك الفهم المتقدم لمشكلة تطبيق الشريعة بوضعها ضمن إطار ناظم يتمثل في النظر الكلي إلى مشكلات المسلمين باعتبارها مشكلة حضارة أفلت وينبغي العمل على استعادتها من جديد، حيث تولى هذا الأمر المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي يكاد يكون هو أول ما طرح فكرة المشروع الحضاري الإسلامي، ودعا إليه، وأصل له، وهي فكرة شاملة تصب جميعها في صالح تحقيق المعاني المعمقة لتطبيق الشريعة الإسلامية وترسم خريطة جيدة للتعامل معها في عالمنا المعاصر، وقد قامت عليها بعض المؤسسات محاولة البناء عليها، مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي..

وتأتي في هذا السياق أطروحات المستشار طارق البشري، الذي رسخ المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، ودافع عن كونها هي المرجعية والميزان الذي ظل سائدًا طوال التاريخ الإسلامي حتى جاء الاستدمار في العصر الحديث وأقصاها عنوة، وحاول تشويهها، ومن ثم طرح أفكارًا لاستردادها وعلى رأسها فكرته عن محاولة رد القوانين الوضعية إلى الشريعة الإسلامية باعتبار أن نصوص هذه القوانين يمكن التعامل معها على أساس أنها "أعراف" مثلما تعامل المسلمون مع أعراف البلاد التي فتحوها من قبل، حيث اعتدوا بها فيما لا يناقض حكمًا شرعيا قطعيًا، ثم إنه اقترح كذلك الكف عن التعويل على الدولة في هذا الشأن وعن مصادمتها بغية إجبارها على تطبيق الشريعة، منوهًا إلى أن الصحيح هو القيام بذلك عبر تخلل النظام القانوني القائم ورده إلى أصول الشريعة الإسلامية، وفق القواعد الأصولية والفقهية، وهي كلها أفكار تحمل طابع المنطق العملي الذي كان يدعو إليه مالك بن نبي المسلمين من قبل ويشكوا من افتقادهم إياه.

ولعل من الأفكار المهمة كذلك مطالبة الدكتور عبد المجيد النجار بالتأطير العقدي والصياغة المقاصدية للأحكام الشرعية[10]، باعتبار أن ذلك يسهم في تحقيق المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية بالربط بين عناصرها الأساسية الثلاث، بل وقد يخدم القانون نفسه بربطه بالأخلاق والعقيدة التي تدفع المواطن إلى التطبيق الطوعي للتشريع. وكذلك مشروع الدكتور طه عبد الرحمن الأخلاقي الذي يبرز دور الأخلاق في الإسلام، وفي المنظومة التشريعية الإسلامية كذلك، وهو أمر تعرض له كذلك الدكتور أحمد الريسوني حين طالب باستعادة المفهوم الشامل للتشريع الإسلامي، الذي يتجاوز المعنى الضيق للتشريع الوضعي، ليشتمل على الجوانب العقدية والأخلاقية، والمقاصدية، فضلاً عن بقية التقسيمات الخمسة للحكم الشرعي إلى جانب الواجب والحرام وهي المندوب والمكروه والمباح[11].

ومن ضمن هذه الأفكار كذلك ما طرحه المفكر خالد محمد خالد -وأشير إليه سابقًا في هذا البحث- من ضرورة إعادة الاعتبار لنصوص الشريعة الإسلامية المقاومة للاستبداد عند "تطبيق الشريعة الإسلامية"، وتقديم النصوص التي تحول دون انحراف نظام الحكم وجعله الشريعة الإسلامية مجرد قفاز يخفي به جرائمه ويسبغ عليها الشرعية.

وهذه كلها نماذج لأفكار تخترق حصار الغرب -والدولة الحديثة التابعة له- لمفهوم الشريعة الإسلامية وسبل تطبيقها في العصر الحديث، ويمكن أن نضيف إليها كذلك أطروحات كل من علال الفاسي وعلي شريعتي وفريد الأنصاري وغيرها من الأفكار التي تصب جميعها في تحرير الإسلام بصفة عامة من الاختطاف والاستلاب.

 

اختطاف الإسلام.. تطبيق الشريعة الإسلامية نموذجًا (1 -3)

 

 

* بحث محكم منشور في مركز "رؤيا للبحوث والدراسات" ثم في موقع مجلة "المجتمع" الكويتية، كما تم نشره في: "مسألة تطبيق الشريعة بين اختطاف النموذج ونموذج الاختطاف"، كتاب بالاشتراك مع د. فارس العزاوي، مركز الفكر السياسي الإسلامي الاستراتيجي، تركيا.

** باحث مصري مهتم بدراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في الدساتير والقوانين المعاصرة، مؤسس موقع حوارات الشريعة والقانون ورئيس تحريره، حاصل على الدكتوراة في القانون العام والشريعة الإسلامية.

[1] انظر: خالد محمد خالد، تقنين الشريعة يبدأ من هنا، مقال منشور ضمن الكتيب غير الدوري: حقوق الإنسان العربي، والذي تصدره المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في 30 من مارس 1985م، ص9.

[2]  لعل من أوضح البراهين على ذلك، ما صرح به اللورد كرومر –وهو القنصل البريطاني والحاكم الفعلي لمصر في الفترة منذ عام 1883 حتى 1907م- في رسالته –عام 1896م- إلى رئيس وزراء بريطانيا آنذاك (اللورد ساليسبري) "ثمة علاج أوحد وفعال للموقف، وهو إلغاء المحاكم الشرعية بوصفها مؤسسة مستقلة كليًا، ونقل ولايتها القضائية إلى المحاكم المدنية العادية. وهو ما قد تم في الهند قبل عدة سنوات، وأنا لن أيأس أبدًا من تحقيق تغير مشابه لم يسبق له الحدوث في مصر". نقلاً عن: عزة حسين، سياسات تقنين الشريعة، النخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكل الدولة المسلمة، ترجمة: باسل وطفة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2019م، ص287.

[3] انظر: جاكوب سكوب فجارد- بيترسون، إسلام الدولة المصرية- مفتو وفتاوى دار الإفتاء، ترجمة: أ. د. السيد عمر، الكويت- لبنان: دار نهوض للدراسات والنشر، ط1، 2018م، ص94-97. وراجع مزيدًا من مثل تلك التغيرات التي حدثت في النظامين القانوني والقضائي في العالم الإسلامي على يد الاحتلال الأوروبي في: محمد أحمد سراج، "الفقه الإسلامي والتغير القانوني في البلاد الإسلامية في القرن العشرين" المنشور ضمن كتاب: الأمة في قرن- عدد خاص من "أمتي في العالم"، حول قضايا العالم الإسلامي، 1420-1423هـ- 2000- 2001، الكتاب الثاني: الأمة في قرن- خبرة العقل المسلم- خبرات وتطورات وحوارات، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2002م، ص218-242.

[4] انظر لمزيد من التفصيل عن تأميم الدولة للدين ولمؤسساته: سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، قراءة في دفاتر المواطنة المصرية- الزحف غير المقدس- تأميم الدولة للدين، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1426هـ/2005م.

[5] جاكوب سكوب فجارد- بيترسون، إسلام الدولة المصرية- مفتو وفتاوى دار الإفتاء، مرجع سابق، ص242.

[6] انظر: مقدمة طارق البشري لكتاب: محمد إبراهيم طاجن، أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية (1886-1925م)، الكويت- لبنان، مركز نهوض للدراسات والنشر، ط1، 2020م، ص24، 31 (بتصرف).

[7] انظر للمزيد من التفاصيل حول هذه الدراسات: محمد إبراهيم طاجن، أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية، المرجع السابق، ص365-388.

[8] يراجع كل من: س. س. أنر، مجلة الأحكام العدلية، ترجمة: رضوان السيد، مجلة الاجتهاد، بيروت: دار الاجتهاد، ع3، ربيع 1989م، ص203، 217. ومحمد أحمد سراج في تعليقه على كتاب: في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، مراجعة: حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، الكويت، دار العروبة، القاهرة، دار الفصحى، 1402ه/1982م، ص303 -304 (هامش رقم 2)، ومحمد كمال الدين إمام، نظرية الفقه في الإسلام (مدخل منهجي)، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1418هـ/1998م، ص308، 305.

[9] انظر: محمد أحمد سراج، "الفقه الإسلامي والتغير القانوني في البلاد الإسلامية في القرن العشرين"، مرجع سابق، ص272-284.

[10] انظر بحثه المعمق: المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي الراهن، لبنان: مجلة المسلم المعاصر، السنة السابعة والعشرون، العدد 105، سبتمبر 2002م، منشور بموقع المجلة: https://almuslimalmuaser.org/.

[11] انظر كتابه: الكليات الأساسية في الشريعة الإسلامية، الرباط: إصدارات اللجنة العلمية بحركة التوحيد والإصلاح، ط2007، ص15-19.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الخميس, 02 تشرين1/أكتوير 2025 16:47