إن مصادر التشريع أو استنباط الأحكام الشرعية من حلال أو حرام بلغت فيما يمكن جمعه من أصول أئمة المذاهب الفقهية نيفا وأربعين دليلًا أو مصدرًا، وما عدا تلك المصادر لا يقر الإسلام أي مصدر لا يستند إلى الشريعة أو إلى الوحي الإلهي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فهي في تقدير الشرع مصادر موهومة غير موثوقة لكثرة الخطأ فيها، أو لعدم صلاحيتها للديمومة والبقاء، أو لعدم شمولها وعمومها، أو لتأثر التشريع بناء عليها بأهواء الواضعين ومصالحهم الخاصة، أو بسبب الإخلال أو العبث أو الغض من جانب المصلحة العامة التي ينبغي أن يقوم عليها كل تشريع، ويمكن الجزم برفض هذه المصادر إجمالًا بما نص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة ذات مدلول واحد، منها:
سلطة التشريع العليا في نظام الإسلام:
لا خلاف بين المسلمين في أن مصدر جميع الأحكام التشريعية من أوامر ونواه هو الله تعالى، لا يشاركه فيه أحد من الناس، فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محددة، وطريق التعرف عليها ما أنزل الله في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد ﷺ. وفي ذلك ضمان وثيق لحرية الإنسان والحفاظ على كرامته ومصالحه وعدم استبداد أحد من الناس بمقدراته وأحواله. أما إعطاء سلطة التشريع والأمر لأحد من الناس، فهو إشراك في ربوبية الله، ومنازعة في سلطانه المطلق وهيمنته الشاملة، وطريق يؤدي إلى الاستبداد والطغيان والظلم والتعسف، وإهدار حرية الإنسان، والإضرار بمصالحه الخاصة التي لا تصطدم مع المصالح العامة، والعبث بأحوال الناس، والأخذ بهم إلى طريق الهاوية والضلال والضياع والفساد، كما حصل فعلًا في عصر الجاهلية حينما كان يسيطر على الناس في ترتيب أوضاعهم وتنظيم أمورهم وإحداث عقائدهم: الوثنية وعبادة الأصنام، لذا قال النبي: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه -أي أمعاءه- في النار» لأنه أول من بحر البحيرة، وسيب السائبة، وسن للعرب عبادة الأصنام، وغير دين إسماعيل عليه السلام.
وقد أورد القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على استقلال الله تعالى بسلطة التشريع وإنشاء الأحكام الشرعية، مثل قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} (الأنعام: ٥٧ ) {إن الأمر كله لله} (آل عمران: ١٥٤) {فالحكم لله العلي الكبير} (غافر: ۱۲) {وهو خير الحاكمين} (يونس: ۱۰۹) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (المائدة: ٤٨) كل هذه النصوص ونحوها تدل على أن السيادة أو الحاكمية الله، بمعنى إنشاء أو وضع الأحكام، وليس للبشر سلطة التشريع بالمعنى الحقيقي، وإنما يقتصر دور المجتهدين أو المشرعين بالمعنى المجازي على التنظيم والترتيب والتفصيل في إطار التشريع الإلهي، ويكون لهم الحق في الكشف عن أحكام الله وإبانتها للناس، وتعريفهم بضوابطها وقيودها وتوضيح غاياتها، وإفتائهم بما يستجد من القضايا والمسائل في ضوء الروح العامة للشريعة، بالاهتداء بمقاصد الشريعة ومنهجها في رعاية المصالح العامة، ودرء المفاسد والمضار وأنواع الأذى عن الناس، والحرص على تحقيق أصول خمسة وإيجادها وبقائها، والمحافظة عليها من الاعتداء والأضرار، وتلك الأصول: هي الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال.
استخلاف الأمة في تنفيذ الشريعة:
ينحصر دور الناس في تنفيذ أحكام الشريعة والإذعان لها واحترامها وتطبيقها، فالبشر وكلاء عن الله في تبليغ أحكامه وتعليمها وتقريرها، ورعاية تطبيقها، وفهم مدلولاتها، والسير في فلكها، والتزام منهجها، والتجديد محصور بمراعاة الأعراف والمصالح الطارئة عن طريق سلطة الاجتهاد فيما تدل عليه النصوص، أو تهدف إليه من تحقيق غايات، أو تحد من حدود يلزم السير في نطاقها، وتنظم الحياة في محورها. والأحكام تفهم بمعنى أوسع من حرفية النص، وفهمها بعللها ومعانيها، كما فهمها الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم.
والأدلة كثيرة على أن الناس وكلاء أو خلفاء عن الله تعالى في الأرض، منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: ٣٠) وإذ ورد النص القرآني دالًا على استخلاف بعض الرسل والأنبياء كأحسن مثال، فإن البشر أيضًا من بعدهم هم خلفاء الأرض، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: ٦٩) {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس: ١٤) { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (الأنعام: ١٦٥). وما على الخليفة أو الوكيل إلا أن ينفذ أوامر المستخلف له: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩).
وقد حددت هذه الآية الأخيرة مصادر التشريع في الإسلام، التي تستقي في النهاية من مصدر واحد: وهو الوحي الإلهي، وهذه المصادر هي:
أولًا: القرآن الكريم، وتطبيق ما جاء فيه محقق لطاعة الله تعالى.
ثانيًا: السنة النبوية الصحيحة المبينة لما جاء من عند الله تعالى، والعمل بها محقق طاعة الرسول.
ثالثًا: الاجتهاد الجماعي أو إجماع ذوي الفكر المختصين في النظر في شؤون الناس ومصالحهم العامة، وإدراك قضاياهم الدينية أو الدنيوية، من الحكام والأمراء والعلماء ورؤساء الجند، وخبراء السياسة والاقتصاد، والإجماع لا بد له من مستند شرعي نصي أو مصلحي يمثل إرادة الأمة العامة.
رابعًا: الاجتهاد الفردي من قبل العلماء المجتهدين: وهم المؤمنون بالله ورسوله، العارفون بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها على مدلولاتها وتشمل طرق استنباط القواعد والأحكام والأنظمة لديهم عدة أصول، كالقياس والاستحسان والاستصلاح، والعرف والعادة، وسد الذرائع، وقول الصحابي، والاستصحاب.
فإن برز اختلاف بين الناس أو بين المجتهدين المتخصصين، عرض الأمر على القواعد العامة والمبادئ التشريعية وروح التشريع المعلومة من القرآن والسنة، على ألا يتعارض الرأي المقول به مع النصوص المحكمة أو الأدلة القطعية، وهذا تطبيق لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: ٥٩).
ويتحدد الذين يفصلون في النزاع في صورة هيئة تحكيم أو محكمة دستورية عليا، يختارهم أولو الأمر، بالنيابة عن الأمة من العلماء المختصين في موضوع النزاع، ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة، كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم بعض الخلفاء الراشدين وهو عمر بن الخطاب للترشح لمنصب الخلافة، وإتمام البيعة للمرشح من سائر الناس.
ويؤخذ في التصويت برأي الأكثرية أو الأغلبية، عملًا برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر المجتهدين حجة، وان لم يكن إجماعًا؛ لقول النبي ﷺ: «يد الله مع الجماعة»، «عليكم بالجماعة»، «عليكم بالسواد الأعظم». هذا ما لم يتبين للإمام الأعظم رجحان رأي الأقلية بدليل أوضح أو لمصلحة أنسب، وإلا اتبع رأي أهل الشورى وهو معنى «العزم» في آية {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: ١٥٩) أي مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم، كما قال النبي ﷺ، وقال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما».
صاحب الحق في التشريع:
اتضح لنا فيما بيناه ألا حق لأحد سوى الله في التشريع بالمعنى الحقيقي، سواء أكان حاكمًا، أو طائفة معينة، أو الأمة نفسها؛ لأن إعطاء أحدهم صلاحية التشريع يجعله متأثرًا بالمصالح والأهواء الخاصة وترك مصلحة الأمة العليا، بدليل ما أكده القرآن الكريم على ترك الاختصاص التشريعي الأصلي الله ولرسوله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب: ٣٦)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: ٦٥)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣).
والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول الأعظم، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم، أو عرض له قضاء عام أو خاص، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من سنة رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.
وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة، وأقرهم على هذه الخطة المسلمون. وقد وضع النبي لأمته هذه الخطة، حينما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضيًا بالإسلام الى اليمن، فقال له الرسول: (كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو -أي لا أقصر في الاجتهاد- فضرب رسول الله على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله). وروى الإمام مالك عن علي، قال: قلت: «يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: اجمعوا العالمين -أو العابدين- فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد».
لكن الأمة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها، هي التي تختار أولي «الحل والعقد» حسبما تقتضي تطورات الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فتكون إرادتها ممثلة بواسطة هؤلاء العلماء المتخصصين الذين اختارتهم، وقيدتهم بمبادئ الإسلام وأحكامه، وبالمصالح العامة فيما لا نص ولا إجماع فيه من الأمور الدنيوية والقضايا الاجتماعية المتجددة أو المتطورة.
وهذا يعني أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيجب الرجوع إلى تشريعه أمرًا ونهيًا، وأما السيادة العملية فهي للأمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد، وحينئذ يجتمع هؤلاء في مكان مخصص لهم، بدلًا من الاجتماع في المسجد، كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس الأمة في الأنظمة الحديثة لمناقشة شؤون المواطنين، بشرط مراعاة أحكام التشريع الإسلامي وأسسه فيما يصدرون من قوانين.
وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيرًا أو قاضيًا، فله الأخذ باجتهاده فيما لم يصادم إجماع المجتهدين، ويكون رأيه حينئذ ملزمًا بصفته صاحب سلطة.
ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الاجتهاد باستجماع شرائطه المقررة أصوليًا، وأهمها معرفة اللغة العربية - لغة القرآن والسنة، وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعية وفهم مقاصد الشريعة، ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للاجتهاد، حتى تعرفه الأمة وترشحه لتمثيلها.
ومجال الاجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أي البداهة كوجوب الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم جرائم الزنا والسرقة والتلصص (المحاربة أو قطع الطرق)، وشرب المسكرات، والقتل، وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقطع وقصاص ونحوها وتحريم الزواج بالمحارم.
وأما ما يصح فيه الاجتهاد فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع، وبه يتبين أن التشريعات الصادرة بمقتضى الأنظمة الحديثة التي لا تخالف الإسلام من قبل اللجان المشرعة، لا تخالف قواعد الاجتهاد في الفقه الإسلامي، مثل إصدار قوانين تنظيم أجور العمال، والنقابات، وعقود التنقيب عن النفط والمعادن، وقوانين التأمينات الاجتماعية، وتنظيم استثمارات الأراضي الموات الزراعية والصيد، والثروة الشجرية الخراجية، وتنظيم عقود التعهدات والمقاولات العامة، ونظام المزاد العلني للمناقصات ونحوها.
والخلاصة: أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مقصور على استمداد الأحكام الشرعية من مصدرها الإلهي، فهو دستور الأمة، والحاكم المجتهد هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزما باعتماده لا الأغلبية، على عكس حال السلطة التشريعية في الدول الحاضرة، فإن لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد، وتأخذ في ذلك بمبدأ الأغلبية.
المصادر غير الشرعية:
بناء على ما تقدم لا يقر الإسلام الأخذ بأي مصدر لا يستند الى الشريعة، أو الى الوحي بصفة مباشرة أو غير مباشرة. وأهم المصادر غير المعترف بها شرعًا هي ما يأتي:
يطلق التشريع عند فقهاء القانون الوضعي على معنيين: أحدهما عام والآخر خاص. أما التشريع بالمعنى العام: فهو وضع القواعد القانونية اللازمة لحكم العلاقات الاجتماعية بين الناس، بصرف النظر عن كون تلك القواعد قد نتجت عن مصدر من مصادر القاعدة القانونية، أو عن تفسير للقواعد القائمة.
أما التشريع بالمعنى الخاص: فهو تعبير عن إرادة السلطة العامة، قصد به وضع القواعد القانونية، وإلزام الناس باحترامها، وهذا المعنى الخاص بكل دولة أكثر شيوعًا من المعنى العام؛ إذ هو المقصود من لفظ التشريع عند إطلاقه، والسلطة العامة التي تمارس التشريع قد تكون أفرادًا كما في الملكيات المطلقة، وقد تكون مجلسًا أو مجالس نيابية تنوب عن الشعب في وضع التشريع، كما في أغلب نظم الحكومات، وقد تكون أوسع من ذلك، بل قد تكون الشعب نفسه عند وضع القانون الأساسي للدولة، وهو الدستور.
وأيا ما كان الأمر، فان هذه السلطة تعتمد في وضع القانون على نتاج العقل البشري وتفكيره، كما هو واضح من التعريف، إذ ينص على أن التشريع تعبير عن إرادة السلطة العامة التي هي فرد أو أفراد من الناس، وإذًا فإن التشريع قائم على نتاج العقل، بل هو مرادف له.
والعقل المجرد عن الاعتماد على الشرع الإلهي لا يعتبر مصدرًا من مصادر الفقه الإسلامي عند فقهاء الشريعة الإسلامية ؛ لأنه لا يحقق العدالة والمثالية المطلوبتين في القانون، إذ إن العقول البشرية تتفاوت في إدراكها للأمور، وتختلف مقاييس الخير والشر في نظرها، ويقصر إدراكها لحقائق الأشياء الغامضة، ولا تستطيع كشف ما يجيء به المستقبل من أحداث، كما أنها ليست معصومة من الاندفاع وراء الشهوات والثروات.
ثم إن نتاج العقول لا يقوم على أساس الدين والأخلاق، فأضحت القوانين التي هي من صنع البشر قاصرة دائمًا عن تحقيق العدالة والمصلحة والاستقرار، وآية ذلك كثرة تغييرها وتبديلها أو تعديلها وإصلاح الناقص فيها، بعد زمن قصير من سنِّها أو إنشائها.
وعدم اعتبار العقل (المحض، بدون الهداية الإلهية) مصدرًا من مصادر الأحكام في الفقه الإسلامي أمر أجمع عليه فقهاء الشريعة الإسلامية، فتراهم يقررون -كما بينّا- أنه لا حاكم إلا الله رب العالمين. ولم يشذ منهم أحد، حتى فقهاء المعتزلة الذين يقولون: إن العقل يدرك في بعض الأفعال حسنًا يجعلها مأمورًا بها، ويترتب على فعلها الثواب، كالصدق والمروءة والعفو والعدل، ويدرك في بعض الأفعال قبحًا يجعلها منهيًا عنها، ويترتب على فعلها العقاب، كالكذب والقتل والظلم وغيرها.
ذلك أن المعتزلة يقولون: إن العقل لا ينشئ هذه الأحكام، ولا يضعها، وإنما المنشئ لها هو الله رب العالمين. وعمل العقل مقصور على معرفة حكم الله تعالى في هذه الأشياء بواسطة إدراك صفات الحسن والقبح الذاتية. فإذا أدرك ما فيها من حسن، أدرك حكم الله فيها، فيتعين عليه فعلها. وإذا أدرك ما فيها من قبح أدرك حكم الله فيها، فيتعين عليه تركها. ولا يتعدى عمل العقل معرفة الحكم وإدراكه. أما واضع الحكم ذاته ومنشئه فهو الله رب العالمين.
ومع هذا، فإن أهل السنة قد أبطلوا رأي المعتزلة هذا؛ لأن التجربة الجاهلية بين العرب التي سبقت الإسلام والتي اعتمدوا فيها على وحي عقولهم تعطي الدليل القاطع على خطأ الاعتماد على العقل وحده. وأما الشيعة الذين اعتمدوا العقل مصدرًا رابعًا للاجتهاد، فإنهم حصروه عندهم بامتثال التكليف الشرعي.
ولم يكن للاعتماد على العقل بصفة كونه مصدرًا للأحكام من حلال وحرام أي وجود في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام ولا في العصور التالية. أما في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن ما جاء في الكتاب الكريم من تشريعات وأحكام تفصيلية أو مجملية، كان وحيًا صرفًا من الله تعالى، بدليل قوله تعالى: «وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين» (الشعراء: ١٩٢ - ١٩٥) وكذلك ما جاء في السُنَّة من أحكام، فإنه وحي أيضًا، كما ترشد إليه الآية القرآنية: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: ٤٤ - ٤٧)، والذي كان للفكر والعقل في إبان تنزل الوحي هو مجرد تطلع وتأمل وترقب وانتظار لنزول الوحي من الرسول نفسه أو من بعض الصحابة مثل نزول آيات كفارة الظهار لمعالجة أمل خولة بنت ثعلبة التي ظاهر منها زوجها، أي حرمها بتشبيهها بإحدى محارمه كأمه وأخته: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة الآيات: ١ - ٤) ومثل نزول آيات اللعان (الأيمان الخمسة بين الزوجين عند اتهام الزوج امرأته بالزنا، أو لنفي نسب ولد): {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (سورة النور: ٦ - ١٠) نزلت حينما قذف هلال بن أمية امرأته عند النبي بشريك بن سحماء. ومثل نزول آية تحريم الخمر تحريمًا قاطعًا وهي: {إنما الخمر والميسر..} (المائدة: ۹۰ - ۹۱) في المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تحريم الخمر، نزلت لقول عمر الذي نزل القرآن من سورة مؤيدًا لرأيه في بضع وثلاثين مسألة: «اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا».
وللحد من دور العقل وتساؤل الناس أسئلة ضارة بمصلحة الجماعة في عصر الوحي والرسالة، نهى القرآن الكريم عن السؤال عن أشياء، هل هي حرام أم مباحة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (المائدة: ۱۰۱ - ۱۰۲) أي أن الأصل في الأشياء غير المنصوص عليها هو الإباحة، حماية للمصلحة العامة، ومنعًا من الأثقال والتشديد على الناس، وأخذًا بيسر الإسلام وسماحته، ويكون دور العقل البشري فيما سكت عنه الشرع أو عفا الله عنه، فهو مجال تحريك العقل وإعمال الفكر، خصوصا في أمور الدنيا وتنظيم أوضاعها، لقوله فيما رواه مسلم عن عائشة - «أنتم أعلم بأمر دنياكم» والقاعدة العامة في المعفو عنه هو الإباحة حتى يكون المنع أو الحظر.
وأما بعد عصر الرسول ﷺ، فان عمل المجتهدين لا يعدو أن يكون كشفًا للأحكام وإظهارًا لها، بتفهم النصوص وتطبيقها، والقياس عليها، والاجتهاد في استخراج الأحكام الشرعية منها، وليس فيه وضع وإحداث، أو ابتكار واختراع للأحكام من عند أنفسهم، أو إنشاء لها بواسطة عقولهم وأفكارهم؛ لأنهم يستندون إلى الكتاب والسنة في كشف هذه الأحكام وبيانها، ولا يعتمدون على غيرهما بتاتًا، سواء أكان الاجتهاد جماعيًا أم فرديًا.
غاية الأمر أن الحكم إذا أجمع عليه المجتهدون كان ملزمًا للأمة، ولا يسوغ الاجتهاد فيه بعدئذ. وإن كان الحكم قد ثبت باجتهاد فردي، فليس ملزمًا لسائر المجتهدين وإنما هو ملزم للمجتهد الذي رآه، ولكل من استفتاه من المقلدين. لكن لم يهمل الله عقول هذه الأمة، فترك لها حرية الاجتهاد، والبحث عن الحكم الأصلح فيما لا نص عليه، عن طريق القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ومراعاة الأعراف والعادات، في ضوء هدي الشريعة، وانطلاقًا من مبادئها، وتحركًا في أفق ومدار غاياتها الكبرى، وإطار مقاصدها التشريعية العامة لتنظيم حياة الفرد والجماعة، أي أن الدين لا يكون إلا من عند الله إما بنص قرآني أو حديث نبوي، وأما الاجتهاد فيما لا نص فيه فهو وضع بشري يسير في فلك الهداية الإلهية. وبه يظهر أن سلطة التشريع الأولى في الإسلام هي لله رب العالمين وللرسول عليه السلام، باعتبار أنه رسول ومبلغ وحي الله إلى سائر الناس وليست هناك سلطة تشريعية في الإسلام لأحد من الناس فردًا كان أو جماعة، لما بينَّاه سابقًا، ويكون إطلاق اسم التشريع على عمل المجتهدين، وإطلاق اسم المشرع على المجتهد أو ولي الأمر إطلاقا مجازيًا، لا حقيقيًا. ويمكن أن يقوم مقام سلطة التشريع في الإسلام مجلس تخطيط أعلى يعتمد على الشورى.
٢ - التفويض أو العصمة:
التفويض: إحالة الحكم إلى النبي أو العالم في المسائل والوقائع بما يشاء من غير دليل يستند إليه، ويكون حكمه صوابًا موافقًا حكم الله تعالى، لإلهامه الله له ولم يقل بهذا المصدر إلا طائفة من الشيعة الإمامية، ولذلك يدعون العصمة لأئمتهم؛ لأنهم مفوضون بالحكم من قبل الله تعالى، وهو قد ألهمهم إياه، فيكون قولهم صوابًا موافقًا لحكم الله تعالى.
لكن أهل السنة على اختلاف مذاهبهم ينكرون هذا التفويض، ولا يعدونه حجة ومصدرًا للأحكام؛ لأن الأحكام إنما تتلقى من الله تعالى بواسطة أمين وحيه: جبريل عليه السلام. فهناك تلازم بين النبوة والعصمة، ولا عصمة لغير نبي بالدليل النقلي والعقلي. أما الإلهام: فيحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من الشيطان، كما يدل لذلك قوله تعالى: « وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» (الأنعام: ۱۲۱) ويحتمل أن يكون من وسوسة النفس وتحديثها، كما يرشد إليه قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (سورة ق: ١٦) ومع هذه الاحتمالات لا يكون الإلهام حجة.
ومن هذا القبيل ما يراه بعض الصوفية من أن الإلهام أو المكاشفة حجة يجب العمل به للمعنى الذي قدمناه، وهذا باطل كسابقه؛ إذ لا حجة في الإلهام أو المكاشفة؛ لأن صاحب الرسالة النبي محمد (نفسه لا يقول إلا عن وحي: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} (النجم: ٣ - ٤) فالأمة أولى بألا تقول إلا عن دليل وبرهان شرعي، وأما الحكم جزافًا أو بالهوى والطبيعة، فهو عمل أهل البدعة والضلال.
وربما كان التنديد في القرآن بشعر الشعراء المغالين، وكراهية إنشاد الشعر على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون. والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الفاسد إنما هو بسبب الاعتماد على مجرد الإلهام الشيطاني الخالي عن القيود والضوابط الشرعية أو العقلية السليمة، فقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)} (الشعراء: ۲۲۱ - ۲۲۷).
3- الإحالة:
الإحالة وتعرف عند القانونيين بالإسناد ليست من مصادر الفقه الإسلامي بالنسبة إلى المسلمين، بأن يحالوا إلى شريعة أو أحكام أخرى تحل محل الشريعة الإسلامي، وذلك لكمال الشريعة وتمامها بوفاة الرسول.
أما بالنسبة إلى غير المسلمين من أهل الذمة (أي العهد والضمان والأمان) الذين يقيمون بصفة دائمة في دار الإسلام، ويعدون من مواطني دار الإسلام، فإن أحكام الإسلام تقضي بعدم التعرض لهم في عباداتهم وإقامة شعائر دينهم؛ لأنا نحن المسلمين أمرنا بتركهم وما يدينون، وعلى هذا إجماع المسلمين، أما ما وراء ذلك من نظام المعاملات والعقوبات فجمهور الفقهاء على أنهم خاضعون لأحكام الشريعة الإسلامية، فيتعرض لهم بإلزامهم بها إذا خالفوها، ويقضى بينهم بأحكامها، أخذًا بمبدأ وحدة القانون والقضاء في داخل الدولة الواحدة.
لكن ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يتعرض لهم فيما يقرره أهل دينهم من أحكام المعاملات المدنية والعقود التجارية، ويقضى بينهم بأحكام دينهم فيها، إلا إذا تعلق بهذه المعاملة حق أحد من المسلمين، فإنه تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في هذه الحالة، منعًا للضرر عنهم، كما اذا تزوج غير مسلم ذمية مطلقة من مسلم، وهي في عدتها منه، فإنه تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في هذه الحالة بالتفريق بينهما، صيانة لحق المسلم، ومنعًا لتضرره من تزوج غيره بمطلقته وهي في العدة (مدة مكث المرأة بعد الطلاق لفترة ثلاثة أشهر أو حدوث العادة الشهرية ثلاث مرات).
وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى عدم التعرض لهم، ولكن يقضى بينهم بأحكام الشريعة الإسلامية المجمع عليها كحرمة التزوج بالأم والأخت والبنت، والجمع بين أكثر من أربع نسوة. أما الأحكام التي لم يجمع عليها في الشريعة الإسلامية، فيقضى بينهم بأحكام دينهم فيها.
يظهر من هذا أن أبا حنيفة هو الذي يقول بالإحالة إلى شريعة غير المسلمين في دار الإسلام، فيما لا يتعدى ضرره إلى أحد من المسلمين وأن صاحبي هذا الإمام وهما أبو يوسف ومحمد يقولان بالإحالة فيما ليس مجمعًا عليه من أحكام الشريعة الإسلامية لكن هذه الإحالة ليست مصدرًا للفقه الإسلامي أو استمدادًا له من شرائع أخرى تكمل شريعته ولكنها وضع اقتضاه التسامح مع أهل الذمة من غير المسلمين، بأن تترك لهم الحرية في عباداتهم وإقامة شعائرهم، وما يدينون به من أحكام المعاملات. ولا شك بأن هذا التسامح يعد من مفاخر الشريعة الإسلامية. وقد أدى إلى نشوء ما يعرف بالامتيازات الأجنبية في عهد الدولة العثمانية. ثم أحست الدول التي كانت خاضعة لهذه الدولة بمدى خطورة وعيوب هذه الامتيازات، فبادرت بعد الاستقلال إلى إلغائها، أخذة بالمبدأ الإسلامي الأكثر اتباعًا بين المذاهب، والأصوب، والأسد سياسة ومصلحة، حينما استغل الأجانب هذه الامتيازات.
ويلاحظ أن الأخذ بمبدأ العرف وشريعة من قبلنا ليس من باب الإحالة؛ لأن العرف أو شرع من قبلنا ليس شرعًا مستقلًا لنا، وإنما بسبب إقرار الشرع الإسلامي الرجوع إليه أحيانًا، لبناء العرف في الغالب على مراعاة الحاجة والمصلحة، ودفع الحرج والمشقة، والتيسير في التكاليف الشرعية، وبشرط عدم مصادمة العرف نصًا شرعيًا، فإن صادمه كان عرفًا فاسدًا لا يصح الأخذ به. وشرع من قبلنا مردود إلى الكتاب أو السنة، فلا يؤخذ به إلا إذا حكاه القرآن أو ورد على لسان النبي، أو نقله مسلم ثقة عدل، ولم ينسخ في شريعتنا، كالتي قصها الله سبحانه علينا في قرآنه، أو وردت على لسان نبيه، من غير إنكار ولا إقرار، مثل آية القصاص: {َكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: ٤٥) ومثل آية قسمة الماء بين النبي صالح عليه السلام من أجل الناقة وبين قومه: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (القمر: ۲۸).
4- القانون الروماني:
زعم بعض المستشرقين أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالقانون الروماني، بل غلا بعضهم، فزعم أن القانون الروماني مصدر من مصادر الفقه الإسلامي، وقد استند هؤلاء في إثبات دعواهم أو نظريتهم الى شبهتين:
الأولى: أن القانون الروماني سابق على الفقه الإسلامي في الوجود، وأن الشريعة الإسلامية قد خلفت القانون الروماني في كثير من البلاد مثل سورية ولبنان وفلسطين ومصر.. الخ.
الثانية: تشابه القانون الروماني والفقه الإسلامي في بعض القواعد والاصطلاحات، أي يوجد تشابه بين بعض القواعد الشرعية، وبعض القواعد الرومانية كقاعدة «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فإنها واحدة في التشريعين، وقاعدة الاستصلاح أو المصالح المرسلة، فإنها مبدأ المنفعة العامة في القانون الروماني، مما يدل على تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، وهذا التأثر مر بمرحلتين:
الأولى: مرحلة التكوين والنشأة في عهد الرسول، حيث كان للرسول -فيما زعموا- معرفة بالقانون الروماني البيزنطي حينما سافر الى الشام.
الثانية: مرحلة النضج في عهد الصحابة والتابعين والمجتهدين، حيث تلاقت الشريعة الإسلامية مع القانون الروماني في البلاد التي فتحها المسلمون كالشام ومصر.
وهذا كله زعم باطل؛ لأن مصادر التشريع الإسلامي مستقلة، مردها إلى الإرادة الإلهية فقط، ولأن النبي كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن نبيًا حينما جاء تاجرًا الى الشام بمال السيدة خديجة رضي الله عنها في عهد الشباب. ويلاحظ أن اتهامه بأخذ الشريعة من القانون البيزنطي شبيه بقرية أهل الجاهلية الذين كانوا يقولون: «إنما يعلمه جبر» وهو غلام للفاكه بن المغيرة، وكان نصرانيًا فأسلم، وكان المشركون إذا سمعوا من النبي الله ما مضى وما هو آت، مع أنه غير قارئ، قالوا: إنما يعلمه جبر، وهو أعجمي، فقال تعالى ردًا عليهم: «ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين» (النحل: ۱۰۳) والمعنى: عجبًا لكم أيها المشركون العرب، لسان الذي تشيرون إليه، وتقولون: أنه علمه، لسانه أعجمي، ولغته أعجمية غير عربية، وهذا القرآن الذي نزل على النبي عربي مبين.
أما التشابه بين نظامين قانونيين في بعض القواعد، فلا يدل على أن أحدهما قد أخذ من الآخر أو أنه قد تأثر به، بل يدل على أن مجتمعي هذين النظامين قد وصلًا الى درجة واحدة من المدنية والحضارة. وهذا التشابه في الأحكام القانونية أو في غيره من النظم المختلفة أمر مألوف بين الأمم، لا فرق بين المسلمين والرومان أو غيرهم من الأمم، ونجد هذا التشابه واضحًا في مجالات الفلسفة ونظرياتها ومناحي التفكير عامة، ولا نستطيع لمجرد هذا التشابه الزعم بأن هذه الأمة هي التي أخذت عن تلك، فالعقل البشري السليم يتشابه في كثير من ألوان التفكير، ويتشابه الشعراء والحكماء، ويكون ذلك من قبيل توارد الأفكار، دون إمكان إثبات الأخذ والتقليد أو المحاكاة.
وأما كون الشريعة الإسلامية قد طبقت في كثير من بلاد الرومان، وظهور نوع من الاقتباس في التنظيمات الإدارية كالدواوين والتقسيمات والمكاييل والموازين، فلا يدل على أن قواعد الشريعة الأصلية وأحكامها مأخوذة من أنظمة الرومان؛ لأن استقرار أحكام الشريعة ومعرفة ما نزل به الوحي الإلهي سبق فتح هذه البلاد التي انتزعت من الرومان، ووجود لون من التشابه محصور في نطاق الاجتهاد الذي فرضت عليه الظروف الجديدة أن يتطور وينسجم مع الحاجات ومتطلبات الناس، وكان على القاضي أو المجتهد إذا عرض عليه نزاع ما، ولم يجد له حكمًا خاصًا في نصوص الشريعة، أن يوجد حلا ملائمًا لهذا النزاع عن طريق الاجتهاد، مستلهمًا روح التشريع الإسلامي العامة، ومراعيًا مصالح الناس. وحينئذ قد يصل الى حل توصل إليه القاضي الروماني، فتتشابه القاعدتان.
ولكن طرق الوصول إلى كلتا القاعدتين مختلفة، إذ أن كل قاض يلتزم بالرجوع إلى أصول تشريعه، وبمقارنة أصول الاجتهاد بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، نجد اختلافًا واضحًا بين تلك الأصول والنظريات التي يعتمد عليها.
فالتشابه في بعض الأحكام لا يدل إطلاقًا على تأثر أحد التشريعين بالآخر، وقد رفض الفقيه الفرنسي لامبير نظرية ريفيو القائلة بأن قانون الألواح الاثني عشر الروماني قد أخذ عن مجموعة أمازيس المصرية، بالرغم من التشابه بين كثير من القواعد التي ضمها كلا القانونين. فلا يتصور أن الشريعة الإسلامية ذات المصدر الإلهي أخذت بالأولى أحكامها عن القانون البيزنطي؛ لأن التشابه في بعض الأحكام لا يعني شيئًا من ذلك.
وأما القول بأن الشريعة الإسلامية تأثرت بالقانون الروماني وأخذت منه قواعده القانونية، فهذا يتطلب إثبات أمرين:
أولهما: أنه لم يكن للعرب قانون خاص قبل الإسلام.
ثانيهما: إمكان الأخذ والانتقال من القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية.
لكن التاريخ عاجز عن إثبات هذين الأمرين، فقد كان للعرب مدنية مزدهرة ونظم خاصة بهم كشفت عنها البحوث الأثرية في القرن التاسع عشر، وكان يسودهم قانون عرفي قبل الإسلام. ويؤكد ذلك أن القانون البيزنطي الذي كان مطبقًا في الشام لم يصل الى الجزيرة العربية، ولم يعرفه العرب.
ومن المعلوم أن القرآن الكريم الذي تضمن القواعد القانونية ومثله السنة النبوية كانا يصدران بمناسبة حالات ووقائع تعرض على النبي r، ولم يعرف النبي عليه السلام اللغة الرومانية ولا غيرها؛ لأنه كان أميًا، وبعد وفاته نشأ القياس والإجماع. وأما ما أقره الإسلام من النظم القانونية أو أدخل عليه بعض التعديلات، فهو من الأنظمة التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قبل ظهورها دون ما عداها، وقد ألغى بعض الأنظمة لتعارضها مع التعاليم والمبادئ الجديدة الإسلامية ذات المصدر الإلهي فقط، فالقواعد القانونية الإسلامية تكونت تدريجيًا بمناسبة الحالات الاجتماعية التي كانت تعرض على الرسول والتي كانت تتطلب حلا لها.
وادعاء تأثر الشريعة الإسلامية في دور تكوينها بالقانون البيزنطي يتطلب إثبات كون الرسول عليه السلام يعرف أحكام ذلك القانون، ومن المعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أميًا، وأنه نشأ في بيئة عربية خالصة، وأنه لم يغادر الحجاز إلا في رحلتين قصيرتين للتجارة، فكيف يتعرف في تلك الظروف على القانون البيزنطي، وهو لم يكن نبيًا بعد.
إن تاريخ العرب قبل الإسلام وانطواءهم على أنفسهم، والتدرج في التشريع الإسلامي وتاريخ حياة الرسول يثبت لنا بنحو قاطع بأن الشريعة الإسلامية لم تتأثر عند نشأتها بالقانون الروماني، وكذلك لم تتأثر الشريعة بعد وفاة الرسول بأي قانون آخر؛ لأن القياس والإجماع اللذين ظهرا بعد الوفاة يتطلبان الاعتماد على أصل تشريعي في النصوص القرآنية أو النبوية، فالقياس عقد مماثلة بين أمر غير منصوص على حكمه وأمر منصوص فيه على الحكم، والإجماع يتطلب مستندًا شرعيًا من النصوص أو ما يؤول إليها. وإن واقع الفتوحات الإسلامية في الشام ومصر والعراق هو الذي أدى إلى ظهور حالات اجتماعية جديدة تتطلب حلًا، وقد تصدى لها المجتهدون المسلمون، ولم يعرف في تاريخ الاجتهاد أصلًا أن المجتهدين التمسوا الحلول من غير المسلمين، بل لم يجز لهم شرعهم أن يستقوا حكمًا من غير المصادر الشرعية المعروفة، وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس ونحوها من مصادر الرأي المردود في النهاية الى هذه الأصول الأربعة.
وأما ما قاله «كارزي» بأن القواعد البيزنطية انتقلت الى الإسلام عن طريق ترجمتها الى اللغة السريانية، فهو غير صحيح بتاتا؛ لأن هذه الترجمة لم تتم إلا في أواخر القرن الثامن الميلادي، أي بعد تكوين مدرستي أبي حنيفة (٦٩٨ - ٧٦٧ م) ومدرسة الإمام مالك (٧١٥ - ٧٩٥ م) فلا يقال بأن فقهاء هاتين المدرستين قد تأثروا بترجمة تلك القواعد.
ولا يمكن القول أيضًا بأن القواعد البيزنطية انتقلت عن طريق الثقافة الإغريقية؛ لأن مدرسة أهل السنة كانت متغلبة على مدرسة المعتزلة، والمدرسة الأولى لا تعرف غير فلسفة الإسلام ومبادئه، وأما المدرسة الثانية التي تأثرت بالفلسفة الإغريقية والفارسية، فكانت محصورة في علم الكلام أو علم العقائد، وقد اقتصر تأثرها على استخدام البراهين العقلية والأدلة الفكرية للدفاع عن عقائد الإسلام وفلسفته.
وكذلك لا دليل على أن انتقال القواعد البيزنطية إلى الشريعة الإسلامية قد تم عن طريق التشريع الموسوي؛ لأن هذا التشريع الذي كان سائدًا بين يهود يثرب (المدينة) لم يكن له أي دور في تكوين القواعد العرفية التي كانت تسود الجزيرة العربية بل إن العرب أنفسهم كانوا أمة أمية، فلم يتيسر للفقيه المسلم، الذي وإن سمع ببعض القواعد البيزنطية، أن يستفيد منها؛ لأن ذلك يتطلب معرفة دقيقة بالنظريات التي قامت عليها تلك القواعد، ولم ينقل تلك القوانين والأنظمة بدلا من صياغتها صياغة إسلامية معروفة لدى الفقهاء المسلمين.
ولو فرضنا أن فقيهًا عرف القانون البيزنطي، أو أن أحد الصحابة أو التابعين أو من بعدهم تعلم اللغة الروسية أو السريانية أو الفارسية، فإنه لا يستطيع أخذ حكم شرعي من ذلك القانون؛ لأن الفقيه المسلم ملزم شرعًا بالتقيد بأصول الشريعة الإسلامية، مقيد في بحثه بالرجوع إلى مصادر معينة، وملتزم في استنباط الأحكام بقواعد تفسيرية محددة أملتها طبيعة اللغة العربية، والمسلمات العقلية، وطبيعة التشريع في القرآن والسنة مما أدى الى نشوء علم قائم بذاته وهو علم أصول الفقه أي أدلة الاجتهاد والاستنباط، ذلك العلم الذي لا نجد له الى الآن مثيلا عند الأمم الأخرى.
ويؤكد كل ما ذكر أن أصول الاستنباط ومحتويات الشريعة، قد تحددت موضوعيًا منذ النصف الأول من القرن الهجري الأول، بحيث أصبحت قواعد بعيدة عن التأثر بأي مصدر أو قانون غير إسلامي.
والخلاصة:
لقد نشأت الشريعة الإسلامية (أدلة وأحكامًا أو أنظمة قانونية) نشأة مستقلة وبعيدة عن التأثر بالقانون البيزنطي، وعن الأخذ من أي شريعة سابقة، لاندِراس الشرائع واختلاطها، وعدم وجود مصدر موثوق عنها.
___________
* وهبة الزحيلي، مصادر التشريع غير المقبولة في الإسلام، التراث العربي، العدد:11-12، تاريخ الإصدار: 1يوليو 1983، https://bit.ly/3zGos4q
** وهبة بن مصطفى الزُّحَيْلي (1932 - 8 أغسطس 2015)، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة من سوريا في العصر الحديث، عضو المجامع الفقهية بصفة خبير في مكة وجدة والهند وأمريكا والسودان. ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في كلية الشريعة بجامعة دمشق. حصل على جائزة أفضل شخصية إسلامية في حفل استقبال السنة الهجرية الذي أقامته الحكومة الماليزية سنة 2008 في مدينة بوتراجاي.