الحكم بعدم دستورية النص في القانون المدني المصري على منع الوالد من الرجوع في الهبة لأبنائه

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت التاسـع مـن أكتوبر سنة ٢٠٢١م، الموافق الثاني من ربيع الأول سنة 1443هـ.

برئاسة السيد المستشار/ سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة

وعضـوية السادة المستشارين: محمد خيـرى طـه النجار ورجـب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبد العزيز محمد سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد السيد نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين وحضور السيد / محمد ناجي عبد السميع أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم ٩٧ لسنة 30 قضائية "دستورية".

المقامة من

عبد الجليل محمد أحمد عبد العليم

ضـــد

1- رئيس الجمهورية 2- رئيس مجلس الوزراء

۳- وزير العدل 4- رئيس مجلس الشعب (النواب حاليا)

5- الممثل القانوني للهيئة القومية للبريد

6- داليا عبد الجليل محمد أحمد عبد العليم

7- دعاء عبد الجليل محمد أحمد عبد العليم

الإجـراءات

بتاريخ الثالث عشر من مارس سنة ٢٠٠٨، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص البند "هـ" من المادة (٥٠٢) من القانون المدني، فيما تضمنه من اعتبار الهبة لذي رحم محرم مانعًا من الرجوع في الهبة.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم أصليًا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًا: برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونُظـرت الـدعوى على النحـو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمـة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمـة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع تتحصل – علـى مـا يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - في أن المدعي كان قد أقام الدعوى 1360 لسنة ٢٠٠٦ مدني كلي، أمام محكمة بورسعيد الابتدائية، ضد المدعى عليهم الخامس والسادسة والسابعة في الدعوى المعروضة، طالبًا الحكم باعتبار الهبة كأن لم تكن، مع كل ما يترتب على ذلك من آثار قانونية بما فيها إلغاء التوكيل العام رقم 370/هـ لسنة ٢٠٠٥ توثيق بورسعيد، وقال بيانًـا لـدعواه، إنه وهب لنجلتيه المدعى عليهما السادسة والسابعة نصيبه في تركة زوجته – والدتهما – سعاد أحمد حسن عطية، ويشمل حصة في شقتين بالعقار المبين بصحيفة الدعوى، ومبلغـًا ماليًـا بـدفتر توفير لدى الهيئة القومية للبريد، وشقة يمتلكها بالعقار ذاته، وحرر لهما توكيلاً بالتصرف في تلك الأموال، إلا أنهما قد أغضبهما زواجه من أخرى، أنجبت له ولدين، فقدمتا ضده عدة بلاغات كيدية، كما أقامتـا دعـوى قُضي فيها بإلزامـه بـأن يـؤدى لهما نفقةً شهريةً، فضلاً عن أنه ملتزم بالإنفاق على زوجته وولديه، وكذا نفقة ومصروفات علاج شقيقه، مما أرهق كاهله، بعد أن زادت التزاماته المالية، الأمر الذي يوفر له العديد من الأعذار للرجوع في هبته، فأقام دعواه بالطلبات السالفة البيان، وأثناء نظر الدعوى بجلسة 19/1/۲۰۰۸، دفع بعدم دستورية نص البند "هـ" من المادة (٥٠٢) من القانون المدني، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى المعروضة.

وحيث إن المادة (٥٠٢) من القانون المدني الصادر بالقانون رقم 131 لسنة 1948 تنص على أنه "يرفض طلب الرجوع في الهبة، إذا وجـد مـانـع مـن الموانع الآتية:

(أ)........ (ب)........... (ج)........... (د) ..........

(هـ) إذا كانت الهبة لذى رحم محرم...................".

وحيـث إن مـن المقـرر في قضاء هذه المحكمـة أن منـاط المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى الدستورية – وهـي شـرط قبولها – أن يكون ثمـة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بـأن يـكـون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات المرتبطة بها المطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكان المدعى يبتغي من دعواه الموضوعية الترخيص له بالرجوع عن هبته لابنتيه، لقيام موجبات ذلك في حقه، وكان نص البند "هـ" من المادة (٥٠٢) من القانون المدني يحول دون تحقيق مبتغاه، الأمر الذي يوفر له مصلحة شخصية مباشرة في الطعن على هذا البند في مجال سريانه على هبـة أي من الوالدين لولده، وبها يتحـدد نطـاق هذه الدعـوى، دون سائر ما انطوى عليه نص هذا البند من أحكام لطبقات أخرى من ذوى رحم محرم.

وحيث إن المدعي ينعي على النص المطعون فيه مخالفة أحكام المادتين (۲، 40) من دستور سنة ١٩٧١، المقابلة لأحكام المادتين (٢، ٥٣) من دستور سنة ٢٠١٤، لمخالفته مبادئ الشريعة الإسلامية، التي حضت على البر بالوالدين وعدم عقوقهما، وأكدت معظم مذاهبها على أحقية الوالد في الرجوع عن هبته لولده، دون أية أعذار، فضلاً عن انطواء النص على تمييز غير مبرر بأن منع الواهب لولده من الرجـوع فـي الهبة، حـال أن غيـره مـن الواهبين يجـوز لهم الرجـوع في الهبة إذا توافر عذر يبيح لهم ذلك.

وحيث إن الرقابة الدستورية على القوانين مـن حيـث مطابقتهـا للقواعـد الموضوعية التي تضمنها الدستور إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً – على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – صـون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه لكون نصوصه تمثل دائمًـا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظـام الـعـام التي يتعين التزامهـا ومراعاتهـا وإهـدار مـا يخالفهـا مـن التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهها المدعى للنص المطعـون عليـه – في النطـاق السالف تحديـده – تنـدرج تـحـت المنـاعى الموضوعية، التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي معين لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم فإن المحكمة تباشر رقابتها على النص المطعون عليه – الذي مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه – من خلال أحكام دستور سنة ٢٠١٤، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.

وحيث إن القانون المدني الصادر بالقانون رقم 131 لسنة 1948، قد خصص الكتاب الثاني منه للعقود المسماة، وأورد في الباب الأول منه العقود التي تقع على الملكية، وأفرد الفصل الثالث منه لعقد الهبة، في المواد من (486) حتى (504)، مبينًا فيها أركان الهبة، وآثارها، والرجوع فيها، وموانع الرجوع، معرفًا في المادة (486) الهبة بأنها عقد يبرم بين الأحياء، بموجبه يتصرف الواهب في ماله دون عوض، مع جواز أن يفرض الواهب على الموهوب له القيام بالتزام معين، ووفقـًا للمـادة (487) لا تتم الهبـة إلا إذا قبلهـا الموهـوب لـه أو نائبـه، ومـن خصائص الهبـة – علـى مـا أوردت الأعمال التحضيرية للنص المطعـون فيـه والتنظيم التشريعـي للهبة – أنه يجـوز الرجوع فيها رضـاءً أو قضاءً إذا وجد عذر ولم يوجد مانع، وقد نظمها المشرع مراعيًا هذا الأصل، فأكد في المادة (500) من القانـون المدنـي على أنه "يجـوز للواهب أن يرجـع الهبـة إذا قبل الموهوب له ذلك، فإذا لم يقبل جاز للواهب أن يطلب من القضاء الترخيص له في الرجوع، متى كان يستند في ذلك إلى عذر مقبول، ولم يوجد مانع من الرجوع، وتأكيدًا على جواز الرجوع في الهبة وضع المشرع في المادة (501) من القانون ذاته أمثلة لهذه الأعذار تيسيرًا على القاضي، كما حدد في المادة (٥٠٢) من ذلك القانون حصرًا لموانع الرجوع في الهبة، ومن بينها حالة الهبة لذي رحم محرم، ومن ذلك هبة أي من الوالدين لولده، ومؤدى العبارة الواردة بصدر نص تلك المادة من أن "يرفض طلب الرجوع في الهبة"، نهي القضاة عن التعرض لموضوع الرجوع، أيًا كانت الأعذار التي بني عليها إذا توافر أحد موانع الرجوع الواردة في تلك المادة، عملاً بقاعدة جواز تقييد القاضي بالزمان والمكان والأحداث والأشخاص، وشرط صحة تلك القاعدة أن يكون النهى مؤسسًا على أسباب موضوعية ترتبط بالغاية المتوخاة منه.

وحيث إنه عن نعي المدعى مخالفة النص المطعون عليه – في النطاق السالف تحديده – لمبادئ الشريعة الإسلامية، ونص المادة الثانية من الدستور فمـن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن إلزام المشرع باتخاذ مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع طبقًا لنص المادة الثانية من الدستور الصادر سنة ١٩٧١، بعـد تـعـديلها بتـاريخ 22/5/1980 – وتقابلهـا المـادة الثانيـة مـن الدستور الحالي الصادر سنة ٢٠١٤ – لا ينصـرف سـوى إلى التشريعات التي تصـدر بعد التاريخ الذي فُرض فيه هذا الإلزام، بحيث إذا انطـوى أي منها على مـا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية يكـون قـد وقع في حومة المخالفة الدستورية، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ فلا يتأتى إعمال حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة لها، لصدورها فعلاً من قبله في وقت لم يكن القيد المتضمن هذا الإلزام قائمًا واجب الإعمال، ومن ثم فإن هذه التشريعات تكون بمنأى عن إعمال هذا القيد، وهو مناط الرقابة الدستورية، وهو القيد الذي يبقى قائمًا وحاكمًا لتلك التشريعات، بعد أن ردد الدستور الحالي الصادر سنة ٢٠١٤، الأحكام ذاتها في المادة الثانية منه.

وحيث كان ما تقدم، وكان نص البند (هـ) من المادة (٥٠٢) من القانون المدني الصادر بالقانون رقم 131 لسنة ١٩٤٨ لـم يلحقه أي تعديل بعـد تـاريخ 22/5/۱۹۸٠، ممـا كـان لـزامـه عـدم خضـوعه لقيـد الالتزام بمبـادئ الشـريعة الإسلامية، والمادة الثانيـة مـن الدستور، إلا أنه بالرغم من ذلك، وعلـى مـا ورد بالأعمال التحضيرية للقانون المدني فقد استقى المشرع الأحكام الموضوعية للهبة من أحكام الشريعة الإسلامية، وفي شأن مدى جواز الرجوع في الهبة أخذ بمذهب الفقه الحنفي الذي أجاز الرجوع في الهبة إذا توافر العذر المبرر، وانعدم المانع، ويشمل عدم جواز الرجوع في الهبة لذى رحم محرم، ومن ذلك هبة الوالد لولده على سند من أن الغاية من الهبة في هذه الحالة صلة الأرحام، وقد تحققت بصدور الهبة، وإذ كان الرأي الذي تبناه المشرع في هذا الشأن لا يخرج عن كونه اجتهادًا في الفقه الحنفي، فقد ذهب مالك والشافعي وابن حنبل وعلماء المدينة إلى جواز رجوع الوالد في هبته لولده، وهو ما يعرف باعتصار الهبة، أي أخذ المال الموهوب قسرًا عن الابن، مستدلين في ذلك بحديث طاووس من أن النبي ﷺ، قال "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيمـا يهـب لـولـده"، وفي رواية أخرى "لا يحل للرجل أن يعطى عطية أو يهب هبة ويرجع فيها إلا الوالد فيما يهب لولده"، وفي رواية ثالثة "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده"، وقد دل الفقهاء باختلافهم هذا على عدم وجود نص قطعي الثبوت أو الدلالة، أو بهما معًا في مبادئ الشريعة الإسلامية يحكم هذه المسألة، ومن ثم تعتبر من المسائل الظنية التي يرد عليها الاجتهاد، وتلك المسائل بطبيعتها متطورة، تتغير بتغير الزمـان والمكـان، وإذا كان الاجتهاد فيهـا وربطهـا منطقيًا بمصـالح النـاس حقـًا لأهـل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق لولي الأمر ينظر في كل مسألة بخصوصها بما يناسبها، وبمراعاة أن يكون الاجتهاد دومًا واقعًا في إطار الأصول الكليـة للشريعة لا يجاوزها ملتزمـًا ضـوابطها الثابتة، متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد الكلية للشريعة، بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال مستلزمًا في ذلك كله حقيقة أن المصالح المعتبرة هي تلك التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة ومتلاقيـة معها، ومـن ثـم كـان حـقـًا لـولـي الأمـر عنـد الخيار بين أمرين مراعـاة أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان واجبًا عليه كذلك ألا يشرع حكمـًا يضيق على الناس أو يرهقهم في أمرهم عسرًا، وإلا كان مصادمًا لقوله تعالى ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾.

وحيث إن نص البند (هـ) من المادة (٥٠٢) من القانون المدني، منع الرجوع في الهبة لذى رحم محرم، وقد ورد هذا النص بصيغة عامة ومطلقة، ليشمل هبة أي من الوالدين لولده، واستقى المشرع هذا المانع من المذهب الحنفي منتهجًا بذلك نهجًا مخالفًا لاجتهاد باقي المذاهب الإسلامية، معللاً ذلك المانع بتحقق غاية الواهب من الهبة ممثلة في صلة الرحم، وقد صدَّر المشرع نص تلك المادة بعبارة "يرفض طلب الرجوع في الهبة إذا وجد مانع من الموانع الآتية ....."، مما مؤداه، نهى القضاء عن بحث الأعذار التي قد تحل بالوالد الواهب وتستدعى رجوعه في الهبة، وإن كانت تلك الأعذار من بين الأمثلة التي ورد النص عليها في المادة (501) من ذلك القانون، ومن ذلك: "أن يخل الموهوب له بما يجب عليه نحو الواهب، أو نحو أحد أقاربه بحيث يكون هذا الإخلال جحودًا كبيرًا من جانبه، أو أن يصبح الواهب عاجزًا عن أن يوفر لنفسه أسباب المعيشة بما يتفق مع مكانته الاجتماعية، أو يصبح غير قادر على الوفاء بما يفرضه عليه القانون من نفقة على الغير"، ومؤدى ذلك أن النص المطعون فيه، وإن وقع في دائرة الاجتهاد المبـاح شرعًا لـولى الأمر، إلا أنه – فـي حـدود نطاقه المطـروح فـي الـدعوى المعروضة – يجعل الوالد الواهب في حرج شديد، ويرهقه من أمره عسرًا، ويعرضه لمذلة الحاجة بعد أن بلغ من العمر عتيًا، إذا ما ألمت به ظروف أحوجته لاسترداد المال الموهوب، وامتنع الابن عن إقالته من الهبة إضرارًا به، مستغلاً في ذلك المانع الوارد بالنص المطعون فيه الذي يحول بين الوالد والحصول على ترخيص مـن القضـاء بالرجوع في الهبـة، ضاربًا عـرض الحائط بالواجـب الشـرعي لـبـر الوالدين، والإحسان إليهما، وصلتهما، وطاعتهما في غير معصية، والامتناع عن كل ما يفضى إلى قطيعتهما. فضلاً عن أن ما توخاه المشرع من ذلك المانع بالحفاظ على صلة الأرحام، ينافيه مواجهة حالة جحود الأبناء، وعقوقهم لوالديهم، ومن ثم يكون منع القضاء من الترخيص للوالد بالرجوع في هبته لولده، ولو كان هناك عذر يبيح له ذلك، مصادمًا لضوابط الاجتهاد والمقاصـد الكلية للشريعة الإسلامية، ومخالفًا بذلك نص المادة (٢) من الدستور.

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن القيم الدينية والخلقية لا تعمل بعيدًا أو انعزالاً عن التقاليد التي تؤمن بها الجماعة، بل تعززها وتزكيها بما يصون حدودها ويرعى مقوماتها، ومن أجل ذلك جعل الدستور في المادة (١٠) منه، قوام الأسرة الدين والأخلاق والوطنية، كما جعل الأخلاق والقيم والتقاليد، والحفاظ عليها والتمكين لها التزامًا على عاتق الدولة بسلطاتها المختلفة، والمجتمع ككل، وغدا ذلك قيدًا على السلطة التشريعية فلا يجوز لها أن تسن تشريعًا يخل بها، ذلك أنه وفقًا لنص المادة (٩٢) من الدستور، وإن كان الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق والحريات أنها سلطة تقديرية، إلا أن المشرع يلتزم فيما يسنه من قوانين باحترام الأُطر الدستورية لممارسته اختصاصاته، وأن يراعى كذلك أن كل تنظيم للحقوق لا يجوز أن يصـل فـي منتهـاه إلى إهـدار هذه الحقوق أو الانتقاص منها، ولا أن يرهق محتواها بقيود لا تكفل فاعليتها، الأمر الذي يضحي معه النص المطعون عليه فيما تضمنه من رفض طلب رجـوع الوالد في هبته لولده، إذا وجد مانع مخالفًا أيضًا – نصي المادتين (۱۰، ۹۲) من الدستور.

وحيث إنه عن النعي بإخلال النص المطعون عليه – في النطاق السالف تحديده – بحق الواهب لولده، دون غيره من الواهبين لغير ذي رحم محرم، في الحصول على ترخيص من القضاء بالرجوع في الهبة عند توافر العذر، فإن ما نص عليه الدستور في المادة (٩٧) من أن "التقاضي حق مصون ومكفول للكافـة" قد دل على أن هذا الحق في أصل شرعته من الحقوق العامة المقررة للناس جميعًا لا يتمايزون فيما بينهم في مجال النفاذ إليه، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في سعيهم لرد الإخلال بالحقوق التي يدعونها ولتأمين مصالحهم التي ترتبط بها، مما مؤداه أن قصر مباشرة حق التقاضي على فئة من بينهم أو الحرمان منه في أحـوال بذاتها، أو إرهاقـه بعوائـق منافية لطبيعته، إنما يُعـد عملاً مخالفًا للدستور الذي لم يجـز إلا تنظيم هذا الحق، وجعل الكافة سـواء في الارتكان إليه، ومن ثم فإن غلق أبوابه دون أحدهم أو فريق منهم إنما ينحل إلى إهداره، ويكرس بقاء العدوان على الحقوق التي يطلبونها، وعدم حصولهم على الترضية القضائية باعتبارها الغاية النهائية التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على تلك الحقوق.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون المنصوص عليه في المادة (53) من الدستور الحالي، ورددته الدساتير المصرية المتعاقبة جميعها بحسبانه ركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها وأساسًا للعدل والسلام الاجتماعي، غايته صون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، باعتباره وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا تمييز فيها بين المراكز القانونية المتماثلة، وقيدًا على السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق التي لا يجوز بحال أن تؤول إلى التمييز بين المراكز القانونية التي تتحد وفق شروط موضوعية يتكافأ المواطنون خلالها أمام القانون، فإن خرج المشرع على ذلك سقط في حمأة المخالفة الدستورية.

وحيث إن الأصل في كل تنظيم تشريعي أن يكون منطويًا على تقسيم، أو تصنيف، أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض، أو عن طريق المزايا، أو الحقوق التي يكفلها لفئة دون غيرها، إلا أن اتفاق هذا التنظيم مع أحكام الدستور يفترض ألا تنفصل النصوص القانونية التي نظم بها المشرع موضوعًا محددًا عن أهدافها ليكون اتصال الأغراض التي توخاها بالوسائل المؤدية إليها منطقيًا، وليس واهيًا أو واهنًا بما يخل بالأسس الموضوعية التي يقوم عليها التمييز المبرر دستوريًا، ومرد ذلك أن المشرع لا ينظم موضوعًا معينًا تنظيمًا مجردًا أو نظريًا، بل يتغيا بلوغ أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا لمصلحة عامة لها اعتبارها يقوم عليها هذا التنظيم متخذًا من القواعد القانونية التي أقرها مدخلاً لها، فإذا انقطع اتصال هذه القواعد بأهدافها كان التمييز بين المواطنين في مجال تطبيقها تحكميًا ومنهيًا عنه بنص المادة (53) من الدستور.

وحيـث كـان مـا تقـدم، وكان الواهبـون لأموالهم على اختلاف حالاتهم، وأغراضهم منها في مركز قانوني متكافئ، وقد أجاز المشـرع – على ما سلف بيانه – للواهب الرجوع في الهبة إذا ألمت به ظروف وأعذار تستدعى هذا الرجوع، وامتنع الموهوب له عن إقالته من الهبة، وناط المشرع بالقاضي سلطة تقديرية في شأن بحث جدية الأعذار التي يبديها الواهب في هذا الشأن، ويقضى على ضوء ذلك، إلا أن المشرع خرج عن هذا الأصل، وأورد حالات لمنع الرجوع في الهبة، ضمنها نص المادة (٥٠٢) من القانون المدني، من بينها هبة الوالد لولده مانعًا القضاء من بحث الأعذار التي يسوقها الوالد في هذا الشأن، الأمر الذي يحول بينه والحصول على الترضية القضائية لمجرد توافر هذه القرابة بينـه والموهوب له، فضلاً عن أن الغاية التي توخاها المشرع من ذلك المنع، وهي الحفاظ على صلة الرحم لم يراع فيها مواجهة عقوق الابن الموهوب له إذ امتنع طواعية عن إقالة والده من الهبة في هذه الحالة بما يزكي هذا العقوق حال أن المشرع أجاز في المـادة (501) من القانون المدني الترخيص للـواهـب بـالرجوع في الهبة إذا أخـل الموهوب له بما يجب عليه نحو الواهب، أو أحد أقاربه، بحيث يكون هذا الإخلال جحودًا كبيرًا من جانبه، ومؤدى ذلك أن المانع الوارد بالنص المطعون فيه، فضلاً عن عدم ارتباط الوسيلة التي أوردها في ذلك النص بالغاية المتوخاة منها، فإنه يخل بمبدأ المساواة بين الواهبين المتماثلة مراكزهم في الحصول على الترضية الفضائية، وذلك لغير سبب موضوعي، بالمخالفة لنصى المادتين (53، ٩٧) من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص البند (هـ) من المادة (٥٠٢) مـن القانون المدني الصادر بالقانون رقم 131 لسنة 1948 في مجال سريانها على هبة أي من الوالدين لولده، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر رئيس المحكمة

 

Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.