يُستخلص من المعاجم اللغوية أن السيادة تنطوي على معنى الرفعة والمكانة العليا؛ فهي في اللغة "تدل على رفعة القدر وشرف المنزلة… وهي مفهوم يدل على الغلبة والقوة". وهذا يعكس صورة الشخص أو الجهة التي تنفرد بالسيطرة أو المقدرة على غيرها، وعليه يطلق لقب «سيد» على من يُقدم على الناس شرفًا وقدرة.
أما في الاصطلاح فتعُرّف السيادة بطرق متعددة حسب المنظور القانوني والسياسي. في الفكر القانوني الغربي، يعتبر مصطلحًا حديث النشأة [مُترجمًا عن الفرنسية (Souveraineté) المشتقة من اللاتينية (superanus) بمعنى «الأعلى»] يرتبط أساسًا بفكرة «السلطة العليا للدولة». ويعكس هذا الطابع الحديث اهتمام فلاسفة العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، حيث كان جان بودان (Jean Bodin) أول من وضع أسس نظرية السيادة في القرن السادس عشر. فعرف بودان السيادة بأنها «السلطة العليا المطلقة الأبدية التي يخضع لها الأفراد رضاءً أو كرهًا»، مقرًا بأنها غير خاضعة لأي قانون سوى القانون الإلهي أو الطبيعي. ووضع بذلك إطارًا للدولة ذات الشخصية القانونية المستقلة.
على ضوء هذا التقليد، يُعرّف بعض علماء القانون السيادة بأنها «السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة أخرى في النظام»، أو بصيغ أخرى مثل «سلطة أصلية مطلقة غير محددة تهيمن على الأفراد والجماعات»، أو بـ«سند الحكم الذي يكسب القانون أو الرئيس حق الطاعة». تركز هذه التعريفات على هيمنة الدولة (أو الأمة) في إطارها الداخلي ومع ناخبيتِها بشكل مطلق، لا تخضع لجهة عليا سوى ذاتها. وفي المقابل، ركّز فلاسفة الاجتماع السياسي على مصدر السيادة. فمثلًا، أكد جان جاك روسو أن الإرادة العامة للشعب هي مرادفة لسيادته؛ وعلّق بأن "السيادة ليست سوى ممارسة للإدارة العامة" أي إن مصدرها هو الإرادة الجماعية للمواطنين. وعلى النمط نفسه، عرّف فلاسفة القانون الوضعي مثل جون أوستن السيادة بأنها «السلطة المطلقة للدولة في تنظيم شؤونها»، حيث تكون سلطة التشريع العليا هي مصدر كل القوانين والأوامر.
من منظور مدارس الفكر المختلفة، تُلخّص المفاهيم السابقة وجهتي نظر رئيسيتين: الأولى تؤكد سيادة القانون (أو الدستور) كقاعدة عليا في الدولة، والثانية ترى سيادة الشعب كمصدر للسلطة. ففي التقليد المستمد من مدارس الكونستيتوشنالية والليبرالية، تُنسب السيادة إلى الأمة أو الشعب بشكل كامل (سيادة الشعب)، بينما يرى التوجه التقليدي المطلق (بما في ذلك بودان وهوبز) أن السيادة تقتضي سلطة مُركّزة عليا للدولة لا تحدّها قواعد تشريعية خارجية. وهناك تيارات أخرى (كالماركسية مثلًا) رفضت مفهوم السيادة على أساس أن انقسام العالم الحديث وإقامة المنظمات الدولية تجعل مفهوم السيادة المطلقة قابلًا للنقد.
بصفة عامة، يجمع المحللون على أن السيادة تعني في جوهرها السلطة العليا المستقلة، لكنها تحتمل صيغًا مختلفة بحسب النظرية السياسية: فبينما يعتمد مفكرون كبودان وهوبز على فكرة «السلطة العليا غير المقيدة»، يرى روسو وآخرون ديمقراطيون أن «السيادة للشعب» بمعنى أن السلطة الفعلية في النهاية تعود إلى مجموع المواطنين من خلال مؤسساتهم.
نشأة وتطور السيادة في الفكر القانوني الغربي
ظهر مفهوم السيادة بمعناه الحديث في أوروبا نسبيًا متأخرًا، إذ ارتبط بفكرة الدولة الحديثة. فقبل عصر النهضة كان يُنظر إلى «الملك» أو «السلطان» كمصدر أحادي للسلطة، ثم تبنّت الكنيسة فكرة شرعية السلطة المطلقة للمؤسسة الدينية. ثم ما لبث الفكر الفرنسي في القرن السادس عشر (خلال صراعات السلطة مع الإمبراطور والبابا) أن بلور نظرية السيادة الحديثة للدولة، وأسسها بودان في كتابه «الكتب الستة للجمهورية» سنة 1577. بعد ذلك، شهدت القرون التالية تحولات هامة: فقد نص إعلان حقوق الإنسان الفرنسي (1879م) على أن «السيادة للأمة، وغير قابلة للتقسيم ولا للتنازل»، فأصبح مفهوم السيادة الوطنية أو الشعبية راسخًا في الفكر الدستوري الحديث. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، كرّس ميثاق الأمم المتحدة مبدأ تكافؤ السيادة بين الدول، واستُبدِل لفظ «استقلال الدول» عادةً في القانون الدولي الحديث بلفظ "السيادة" حفاظًا على المساواة القانونية.
إذًا، فقد شهدت السيادة الغربية انتقالًا من حق ملكي مطلق في العصور الوسطى إلى مفهوم حديث يجمع بين سيادة الأمة (أو الشعب) وتحكيم الدستور. يشير ذلك إلى أن النظرة الغربية تطورت نحو الفصل بين الحكومة الدائمة والسلطة السيادية ذاتها، وجعلت التعبير الدستوري (الدستور) هو القاعدة العُليا التي تحكم هذه السيادة.
العلاقة بين السيادة والدستور والسلطات الثلاث
في النظم الدستورية الحديثة، يصبح الدستور النص القانوني الأعلى الذي يستمد منه المشرع ومؤسسات الدولة شرعيتهم. بمعنى آخر، يكتسب الحاكم وحكوماته سلطاتهم من الدستور الذي يجسّد إرادة الشعب وحفظ حقوقه. ولهذا، اهتمت الفلسفة السياسية بآلية توزيع هذه السلطة لتفادي الاستبداد، فظهرت نظرية فصل السلطات. فقد أكد كتاب ودساتير الثورة الفرنسية عام 1791 مبدأ عزلة كل سلطة عن الأخرى لضمان مراقبتها المتبادلة؛ فأصبحت السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية مستقلة كل في مجال اختصاصها، لا يسلّم فيها أي حكم أو قانون لموافقة الحاكم وحده. ويترتب على ذلك أن السيادة في الدولة الدستورية هي في نهاية الأمر للشعب أو الأمة باعتباره مصدر السلطات جميعًا، لكن يُمارَسُها ممثّلون منتخبون وفق قواعد دستورية.
وبذلك، لا تتجسّد السيادة بشكل مباشر لدى أي شخص بعينه بل عبر إطار تشريعي ومؤسسات يُلزَمُ الجميع بالامتثال لها. فالسلطة التشريعية تُولِّد القوانين باسم الأمة (السياسية)، والسلطة التنفيذية تنفّذها، والقضاء يُراقب التزام الجميع بهذه القوانين. أي إن السيادة في القانون الوضعي تستمد قوتها من التوزيع المنظّم للسلطات وفق الدستور، وهي إنما تظهر في الضمانات والحريات التي يكفلها هذا الدستور. وعليه، فإن العلاقة بين السيادة والدستور في النظم الوضعية علاقة تكاملية: فالدستور يحدّد نطاق السيادة ويقيّدها بقاعدة عليا ملزمة، كما يؤدي مبدأ فصل السلطات إلى توزيع هذه السيادة على هيئات متعددة متزاحمة رقابيًا، بما يمنع تركزها وإساءة استعمالها.
السيادة الوطنية مقابل السيادة الشعبية
يُميّز فقهاء القانون بين مفهومَي السيادة الوطنية والسيادة الشعبية في الفكر السياسي المعاصر. فمفهوم السيادة الوطنية يرى أن السلطة العليا قائمة للدولة أو الأمة ككيان جامع، وهي غير قابلة للتجزئة أو التنازل. فوفق هذا المفهوم «السيادة الوطنية» تمثل في الدولة مجتمعة، إذ تكون «الدولة هي الحاملة الأولى للسلطة، وهي الضامن لوحدة البلاد وسلامة أراضيها». في هذه الحالة تُمارس السيادة باسم الأمة أو الدولة عبر مؤسساتها؛ وتُتخذ القرارات الكبيرة (كالدفاع عن الوطن أو تغيير الدستور) في إطار الحفاظ على وحدة الكيان وشعبه.
أما مفهوم السيادة الشعبية فيركّز على أن المصدر الأصلي للسلطة هو الشعب ذاته. فبمقتضى هذا المفهوم، لا تنفصل السيادة عن إرادة المواطنين: «السيادة الشعبية» هي السلطة التي يمتلكها الأفراد مجتمعين، وتمارس إما مباشرة عبر صناديق الاقتراع أو عبر ممثليهم المنتخبين. وبذلك، فإن الحق في وضع القوانين وتقرير السياسات يُنسب إلى إرادة الناس، وتُعتبر الأمة مأمورة بخدمة مصالحها وتطبيق ما تلتئم عليه من قرارات.
يمكن تبيين الفروق العملية بينهما كالتالي:
- مصدر السلطة: في السيادة الوطنية يكون مصدرها «الدولة/الأمة»، بينما في السيادة الشعبية يكون «الشعب» مصدر السلطة.
- ممارسة القرار: في الأولى تتخذ الدولة القرارات القومية بتوجيه من قيادتها أو مؤسساتها، أما في الثانية فالقرار يرتبط بمشاركة المواطنين المباشرة (كممارسة الديمقراطية أو الاستفتاء).
- العلاقة بين الحاكم والمحكوم: في السيادة الوطنية تكون السيادة منحصرة في كيان الدولة الذي يمثل الأمة، أما في السيادة الشعبية فالحكام موظفون لخدمة الشعب ويخضعون لإرادته.
هذه التمييزات تجلّت عمليًا بعد الثورة الفرنسية؛ فقد نصت أغلب الأنظمة الحديثة على أن الأمة أو الشعب «هو مصدر السلطات جميعًا»، ثم وضعت آليات دستورية لممارسة تلك السيادة. وفي خضم النقاشات الفقهية، احتدم الجدل أيضًا حول ما إذا كانت سيادة الأمة تؤول للدولة الجامدة أو للشعب ككل.
مفهوم السيادة في الشريعة الإسلامية
السيادة لله: المفهوم العقدي والسياسي
في الفكر الإسلامي، يُؤكَد في العقيدة أن السيادة المطلقة لله تعالى. فمركزية التشريع والأمر في الإسلام تعود لله وحده ــــ كمُشرّعٍ أعظم ومشرّفٍ ــــ ولا تكون للإنسان سلطة تشريعية مستقلة من جانبها؛ فالرسول ﷺ نفسه قال إنّه «سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَومَ الْقِيَامَةِ»، والدين الإسلامي يبشّر بأن «الحكم لله» (مستندًا لآيات قرآنية مثل "قُلِ اللَّهُ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ” وغيرها". غير أن هذه السيادة الإلهية ليست نُصًّا وراثيًا ولا ذريعةً لجبرية طاغية: فقد أوضح علماء المسلمين أن فكرة أن ينصب الحاكم نفسه من عند الله دون رضا الأمة «فكرة غريبة كل الغرابة عن التصور الإسلامي». فقد رفض الخلفاء الراشدون تسمية أنفسهم «خلفاء لله»، وقال أبو بكر الصديق مثلًا «أنا خليفة رسول الله»، ولم يدخل مفهوم الحق الملكي المطلق إلا مع بعض الخلفاء العباسيين الذين ادّعوا أنهم يحكمون بتفويض من الله (كما في قول المنصور العباسي: «إنما أنا سلطان الله في أرضه»).
من الناحية العقدية، يؤكد الإسلام أن لا سلطان مطلقًا للبشر على خلق الله، وأن السلطات التي يحوزها الحاكم هي إذن من الأمة تُمارَس في نطاق شريعة الله. ولذلك يرفض الفقه السني العام فكرة «الوصاية الإلهية المطلقة» على الحاكم، بل يعتبر الإمامة (الحكم) مصلحة مَرْسَلَة من الله: أي هو تكليف يشرّعه الله لحفظ حياة الناس بإقامة حدود الشريعة، على أن تُمارَس هذه الصلاحيات بقبول الشعب وتراضيه. وبالتالي، فإن القول التقليدي «الحكم لله وحده» يعني أن المبادئ والقوانين العليا من عند الله عزّ وجل؛ لكن التطبيق الفعلي للسلطة التنفيذية في مجتمع المسلمين لا يكون تلقائيًا من السماء، بل عبر اختيار الأمة لمن تُبايعهم وتوليهم (شورى أهل الحل والعقد)، مع التقيد بنصوص الشريعة كأساس التشريع ومقياس قبولهم.
العلاقة بين الحاكمية والشريعة
حَا كَميّةُ الله في الإسلام تعني بالتالي أن الشرع الإلهي هو المصدر الأعلى للتشريع، وأن أي سلطة بشرية مرخّصة يجب أن تظلّ مُقيّدة بما جاء به القرآن والسنة. فالحاكم في النظرة الإسلامية ليس مبدعًا للقانون، بل مُطبّق لمنهج الله. وبناءً عليه، يذهب بعض العلماء إلى أن مجرد تطبيق القوانين الوضعية من دون مرجعية شرعية «لا يحقق العبودية التامة لله». فقد بيّنوا أن الخضوع التشريعي والقانوني وحده لا يكفي ما لم يصاحبه رضًا تامّ وولاء داخلي لشرع الله. بمعنى آخر، لا تتحقق حَاكَمِيّةُ الصراع السياسي إلا إذا كان الناس "يحكمون ويتحاكمون" إلى أحكام الله طوعًا، لا قهرًا. ولهذا، لا يمكن فصل مبدأ السيادة –أي ممارسة الإرادة- عن مقوله التحكيم الشرعي: فالسلطة السياسية ــ من منظور إسلامي ــ لا تزال مُقيَّدة بالشرع، ويُعتبر الحكم بغير شرع الله انحرافًا وشذوذًا.
وفي الواقع التاريخي، كان لهذا المبدأ أثره في العلاقة بين الحاكم والمحكوم: يُؤكد القرآن والسنة أن لولايـة الله في التشريع مطلقة، وأن الحاكم يُكلَّف بتنفيذ شريعة الله (كما في «وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ»). كما بيّنت الآيات أن المسلمين يُلزَمون بأنْ «يَحْكُمُوا» ويُحَكَّموا إلى شرع الله، وتحذرهم من التحاكم إلى الطواغيت. وتتلمّس النصوص العلاقة المتبادلة: فبقدر ما يُحكّم الحاكم في الناس بما أنزل الله، يجب على الناس أن يسلموا سيادتهم لإرادة الله وحكمه، دون استعجال أو إكراه، بل عن إيمان وقناعة. وهذه المعاني تعني ضمنيًا أن الدولة والمؤسسات تُشرّع وتحكم وفقًا لشريعة الله، ليست بدونها أو تجاورها، وبذلك تظل كلمـة الله العليا هي الحاكمة في المجتمع.
تطبيقات السيادة في نماذج الحكم الإسلامي التاريخية
تجسّد مفهوم السيادة في الشريعة الإسلامية تاريخيًا عبر نماذج الحكم الإسلامي التي قامت بعد عهد النبوة. أبرزها الخلافة الراشدة حيث بُني النظام على مبدأ المشـورة و«البيعة»؛ فقد كان اختيار الخلفاء بمبايعة من الأمة، فمبايعة أبي بكر الصديق مثلًا (في سقيفة بني ساعدة) كانت انعكاسًا لاختيار جماعة المسلمين لوكيلهم في الحكم، ولم يترك القانون الإسلامي نصًا يمنح الخليفة حقًا إلهيًا خاصًا فوق الجماعة. وكما أشار الباحث أبو يعرب المرزوقي، إن "الخلافة في السياسة لا تستند شرعيتها إلى النبوة بل إلى إجماع الجماعة التي تبايع الشخص"؛ فالرسول ﷺ طلب البيعة من الأنصار بعد هجرته إلى المدينة ليُوضّح أن شرعية الحاكمية تُستمد من رضا الأمة. وأكد المرزوقي أيضًا أنه لو كان القرآن مصدر السلطة السياسية لما طالب بالبيعة ولم يطلب من المسلمين أن يبايعوه، كما صار مع الخليفة الراشد. فالدولة الإسلامية الأولى كانت إذًا موكلة إلى الخليفة من الشعب، ومحمية من أعظم شريعة.
ومع توسع الخلافة وظهور نظم ملكية لاحقة، فرض بعض الخلفاء مَركَزة أقوى على السلطة، لكن حتى في عهود الأمويين والعباسيين ظل الخطاب الرسمي يشير إلى أن حكم الإمبراطور إنما هو مِن الله بمشيئة الأمة. إلا أن مظاهر التمايز ظهرت؛ فقد حدث مثلًا أن بعض الخلفاء العباسيين زعموا أنهم «حكماء بقرار ربّاني»، كما في مقولة أبي جعفر المنصور العباسي: «إنما أنا سلطان الله في أرضه». وكان تأثر نظرية السيادة بالنظرة الدينية متفاوتًا عبر العصور، حيث أدخلت بعض الفروق الثقافية والمذاهب الى مفاهيم السلطة.
وعلى النقيض من المفهوم الإلٰهي في بعض الأنظمة، ظهرت أيضًا دعوات للفلسفة السياسية الإسلامية تعبّر عن السيادة الشعبية. فقد اعتبرت المدارس الفقهية أن الخليفة وولاة الأمر في النهاية وكلاء الأمة، «تولِّيهم ينبع من الأمة ويعود إليها حق عزلهم». وبناءً على ذلك، رأت بعض الحركات المعاصرة (مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير) أن الخلافة هي «نظام حكم» يمكن إحياؤه وتعديل مفهوم السيادة فيه لتوافق الإرادة الشعبية مع الشرعية الدينية، لكن الاختلاف بقي على كنه الكيفية. وهناك الذين يقترحون أن «سيادة الأمة» تُراعى في إطار دستوري إسلامي بحيث تكون شرعية الدستور منبثقة من توافقه مع الشريعة، كما هو سائد في كون معظم دساتير الدول الإسلامية تنص على أن الشريعة هي مصدر رئيس للتشريع.
مقارنة تحليلية بين السيادة في القانون الوضعي والسيادة في الشريعة الإسلامية
تظهر المقارنة بين المفهومين عدة فروق منهجية رئيسية:
- مصدر السيادة ومرجعيتها: في القانون الوضعي المعاصر تُنسب السيادة غالبًا إلى الأمة أو الشعب كوحدة سياسية، فتتحول إلى قاعدة دستورية (أي إرادة الأفراد التي «بحكم الدستور»)، ويمكن تعديل القوانين بتوافق شعبي أو عبر الهيئات المنتخبة. أما في النظرة الإسلامية، فمصدر التشريع والخطاب الملزم هو الله سبحانه وتعالى، ولا يُشرع قانون إلا بما يتوافق مع شريعته. وبذلك، تصبح الإرادة الشعبية مرهونة بالضوابط الشرعية؛ فلا يمنح الإسلام أي فئة بشرية سلطات تشريعية مطلقة خارج حدود الشريعة. وهذا يعني أن الشعب أو الأمة في الإسلام ليسوا أسيادًا مطلقين لسن القوانين، بل عباد لله ملزمين بأمره ومنتهين عن نواهيه سبحانه، كما جاء في الآية: «أَمْ لَهُم سُلْطَانٌ يَنطِقُونَ بِهِ» (الشورى: 21).
- طبيعة التشريع والحقوق: يقر النظام الوضعي أن الإنسان مصدر الحقوق ويحمل السيادة، مما يدعم فكرة الحرية الفردية والمشاركة السياسية (مؤسسة على حقوق الناس ومصالحهم). في المقابل، يستمد الإسلام نصوصه التشريعية من الوحي، وتُعتبر الحقوق والواجبات في النهاية منحة إلهية (كحق الحياة والأمن والعدالة)، وليس من حق البشر إصدارها على هواهم. ومن ثمّ، يفرض الإسلام على أي قانون أن «يتوافق مع الشريعة»، خلافًا للقوانين الوضعية القابلة للتغير والنقاش دون إسناد ديني صريح.
- تنظيم توزيع السلطة: تتجلى السيادة في القانون الوضعي من خلال المؤسسات الدستورية وأدوات الرقابة (فصل السلطات، انتخابات، برلمانات، محاكم دستورية، وهكذا). أما في الفكر الإسلامي، فمفهوم الحاكمية القانونية مقترن بتحكيم الشرع؛ إذ لا تكفي شرعية إجراءات الحكم إن لم تكن ضمن أحكام الله طوعًا. ولهذا يتعارض فصل الدين عن السياسة (كما في العلمانية) مع مفهوم الحاكمية الشرعية، لذا لا يمكن فصل الديمقراطية وسيادة الشعب عن مسألة الحاكمية؛ فحكم الشعب يعني رعاية مصالحه التي هي في نظر الإسلام خضوع له ثم للمصلحة العامة.
- السيادة الوطنية مقابل الشعبية: يتيح القانون الوضعي التوفيق (نظريًا) بين مفهومي السيادة الوطنية والشعبية بأن الدولة تأخذ شرعية سيادتها من الشعب (كما في الديمقراطيات البرلمانية)، بينما يؤطرها الدستور. أما في الفكر الإسلامي، فالأساس العقدي يضع السيادة النهائية لله، ولكن عمليًا يقرّ بعض الفقهاء أن الأمة هي «مصدر السلطات» في دولة إسلامية بشرط التقيّد بضوابط الشريعة. لذلك، يبرز التباين في سؤال «لمن تُخوّل شرعية سنّ قانون جديد؟»؛ فالقانون الوضعي يجيز ذلك للشعب أو ممثليه طبقًا لإرادته وطرحه الدستوري، بينما يرد الإسلام بأن شرعية القانون مرتبطة بتوافقها مع الشريعة الإسلامية (برضا الأغلبية المنضبطة بها).
باختصار، يمكن القول إن السيادة في القانون الوضعي قائمة على فكرة السيادة الإنسانية (للشعب/الدولة) المحدودة بدستوريات الوضع، أما السيادة في المنظومة الإسلامية فتقوم على السيادة الإلهية التي تفرض على البشر طاعة ضوابط السماء. إلا أن هناك محاولة تحليلية تبحث عن نقاط التلاقي: فقد لاحظ بعض المحدثين أن الإسلام لا ينكر مشاركة الأمة في الحكم، لكنه يشترط أن تكون كل ممارسة للسلطة ملتزمة بالشرع. من هذا المنطلق، يرى بعض المختصين أن شرعية أي سلطة سياسية في المجتمع المسلم تعود بالأصل إلى الشعب في إطار «الدستور الأعظم» وهو القرآن؛ فالأنظمة السياسية الإسلامية «لا تأخذ شرعيتها إلا بمدى تطابقها مع الدستور الأعلى (القرآن)».
إن مفهوم السيادة يحمل في طياته أبعادًا مشتركة وخاصة في كلٍّ من النظامين الوضعي والإسلامي. فلغويًا واصطلاحيًا يشترك النموذجان في الإقرار بوجود «سلطة عليا» ذات مبادئ تميّزها عن باقي السلطات الأخرى؛ لكنهما اختلفا في المَنْبَت العقدي لهذه السلطة وكيفية ممارستها. في القانون الوضعي، هيبة الدولة أو الأمة تعلو فوق الأفراد، ويُنتزع من الحاكم التفويض عبر شرعية ديمقراطية دستورية، ما يعني أن الشعب/الدولة، ببرلماناتها ودساتيرها، هو صاحب السيادة النهائي. أما في الشريعة الإسلامية، فمصدر هذه الهيبة الحقيقية هو الله، وشريعته تمثل «الدستور الأعظم»، الذي لا تتعداه سلطة بشرية. ومع ذلك، وجدت مقولات فقهية تؤكد دور الأمة في وضع الحاكم (بيعة أهل الحل والعقد)، وهذا يضع الأساس لرؤية إسلامية يمكن أن توازن بين سلطة الله المطلقة ومسؤولية البشر.
أما في ضوء الواقع المعاصر، فالحوار حول السيادة يجري بين مدرستين: إحداهما تنادي بفصل الدين عن السياسة لصالح سيادة الأمة (كما في النظم العلمانية)، والأخرى تؤكد ارتباط الحكم بالمرجعية الدينية (كما تبلور في فكر الحركات الإسلامية وبعض النظريات الفقهية الحديثة). ورغم هذه التباينات، ثمة اتجاهات تؤيد إمكانية صياغة أنظمة سياسية إسلامية دستورية توافقية: بحيث تُعبر الصيغ الدستورية عن هوية الأمة الإسلامية وعقيدتها، ويُحافظ في الوقت نفسه على سلطة الأمة كمصدر للتفويض السياسي. فثمة من يرى أن الدساتير التي تؤكد السيادة الشعبية مع تقدير الشريعة «حاضرة في أعرق الدول التي اعترفت بالإسلام».
ختامًا، تُظهر المقارنة أن التوفيق بين النظامين يحتاج إلى رؤية توافقية تجعل إرادة الشعوب الإسلامية تندمج مع التزام الشريعة، لا أن تتقاطع معه. بمعنى آخر، لا تكمن المصالحة في إسقاط مفهوم إلهي أو شعبي على الآخر، بل في بناء إطار دستوري يظلّ الشارع الإسلامي هو المعيار النهائي (الذي يتناول حياة الناس ومصالحهم)، بينما تُمثل مؤسسات الأمة سلطة منوط بها التنفيذ والإدارة.
_________
المصادر:
- حنان عماد زهران، تشريح مفهوم السيادة، المركز الديمقراطي العربي، 27 مارس 2019، https://bit.ly/3TdOMJp
- سلام المقداد، السيادة بين المفهوم والعوائق، محكمة، 3 مارس 2025، https://bit.ly/447UF0T
- نجم الأحمد، مبدأ فصل السلطات، الموسوعة القانونية المتخصصة، https://bit.ly/3I6eNbh
- محمد المقدمي، السيادة والحاكميّة في الأنظمة الديمقراطيّة، الجزيرة نت، 9 مايو 2017، https://bit.ly/3InlB48
- نظام الحكم الأمثل للمسلمين.. الخلافة أم نموذج الدولة الحديثة؟، الجزيرة نت، https://shorturl.at/xwIvV
- عبد الله الكيلاني، وظائف الدولة في ضوء الفكر السياسي للإمام الجويني، إسلام ويب، https://shorturl.at/FI51Z
- مصطفي كمال وصفي، الشريعة الإسلامية وسيادة القانون، المسلم المعاصر، 1 أبريل 1975، https://shorturl.at/vLIIw