مفهوم القانون الجنائي الدولي

أولًا: القانون الجنائي الدولي في التشريع الوضعي

القانون الجنائي الدولي هو مجموعة من القوانين التي تنظم محاكمة الأفراد المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية التي تؤثر على المجتمع الدولي ككل، ويهدف إلى ضمان تحقيق العدالة ومعاقبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم خطيرة، مثل جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية.

نشأ القانون الجنائي الدولي بشكل فعلي بعد الحرب العالمية الثانية، بعد تزايد التهديدات للسلم والأمن العالميين، حيث برز كأداة مهمة لحماية حقوق الإنسان ولمنع الإفلات من العقاب. ومنذ إنشاء محاكم جنائية دولية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب، وتحديدًا محكمة نورمبرغ، استمر هذا المجال القانوني في التطور ليشمل محاكم جنائية دولية دائمة، مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، والتي تأسست بهدف ضمان محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية حتى في غياب أنظمة قضائية وطنية فعّالة.

 

تطور القانون الجنائي الدولي

تعود أصول القانون الجنائي الدولي إلى الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية عندما قرر الحلفاء المنتصرون محاكمة قادة النظام النازي على الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب. تأسست محكمة نورمبرغ في عام 1945 وكانت أول محكمة جنائية دولية من نوعها، حيث حوكم فيها المسؤولون النازيون بتهم تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم ضد السلم، وكانت هذه المحاكمة الأولى التي اعترفت بمسؤولية الأفراد الجنائية في السياق الدولي.

تعتبر محاكمات نورمبرغ بمثابة حجر الزاوية في تطوير القانون الجنائي الدولي لعدة أسباب:

  1. إقرار مبدأ المحاسبة الشخصية: حيث تم التأكيد على أن الأفراد يمكن محاكمتهم على الجرائم الدولية، بغض النظر عن مناصبهم السياسية أو العسكرية.
  2. تعزيز مفهوم الجرائم الدولية: حددت المحاكم الجرائم التي يمكن اعتبارها جرائم دولية مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، مما ساهم في وضع الأسس للقانون الدولي الحديث.

 

محاكم ما بعد نورمبرغ

بعد محاكمات نورمبرغ، شهد المجتمع الدولي إنشاء محاكم أخرى للتعامل مع الجرائم الدولية التي ارتكبت في نزاعات معينة أو تمثل جرائم جنائية دولية بصفة عامة، حيث تمثل هذه المحاكم استجابة دولية فعّالة للتعامل مع الجرائم الدولية في غياب أنظمة قضائية وطنية قادرة على تقديم العدالة.

ومن بين هذه المحاكم:

  1. المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة: أُنشئت عام 1993 لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت خلال تفكك يوغوسلافيا، وكانت هذه المحكمة خطوة مهمة في محاكمة الأفراد المسؤولين عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سياق نزاع داخلي.
  2. المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا: أنشئت عام 1994 لمعالجة قضية الإبادة الجماعية التي ارتكبت في رواندا، وكانت هذه المحكمة تهدف إلى محاكمة المسؤولين عن قتل مئات الآلاف من المدنيين خلال فترة قصيرة، مما جعلها من أبرز المحاكم الجنائية الخاصة.
  3. المحكمة الجنائية الدولية (ICC):

تأسست المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بموجب معاهدة روما عام 1998، وبدأت أعمالها في عام 2002، وهي أول محكمة دولية دائمة تختص بمحاكمة الأفراد على الجرائم الدولية الكبرى، وتتمتع المحكمة بصلاحية محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجريمة العدوان.

وقد تعاملت المحكمة الجنائية الدولية مع عدة قضايا مهمة منذ إنشائها، بما في ذلك قضايا في الكونغو الديمقراطية وأوغندا والسودان (قضية دارفور)، وكانت المحكمة مفيدة في تقديم بعض القادة العسكريين والسياسيين إلى العدالة الدولية، على الرغم من التحديات التي تواجهها في بعض الحالات.

وتعرضت المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات من قبل بعض الدول والمنظمات التي ترى أنها تتعامل بشكل غير متوازن مع الدول الإفريقية، وتتهمها بالانحياز، كما أن بعض الدول، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، لم تصادق على معاهدة روما ولا تعترف باختصاص المحكمة.

 

المصادر القانونية للقانون الجنائي الدولي

يستند القانون الجنائي الدولي إلى مجموعة متنوعة من المصادر التي تضمن شرعيته وتطبيقه في المواقف المختلفة، وتشمل هذه المصادر:

  1. المعاهدات والاتفاقيات الدولية

تعد المعاهدات الدولية من أبرز المصادر التي يعتمد عليها القانون الجنائي الدولي. ومن بين أبرز هذه المعاهدات:

اتفاقيات جنيف (1949): تشكل هذه الاتفاقيات الأساس القانوني للقانون الدولي الإنساني، وتحدد القواعد التي يجب اتباعها في النزاعات المسلحة لحماية المدنيين والأسرى والجرحى.

معاهدة روما (1998): وهي المعاهدة التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، وتعد معاهدة روما الإطار القانوني الذي يستند إليه القانون الجنائي الدولي الحديث في محاكمة الجرائم الدولية.

  1. القانون الدولي العرفي

هو مجموعة من القواعد التي تتكون من ممارسات الدول التي تُعتبر ملزمة قانونًا حتى وإن لم تكن مكتوبة في معاهدات أو اتفاقيات، وينشأ هذا القانون من العادات والممارسات التي يتفق عليها المجتمع الدولي وتعد جزءًا من النظام القانوني الدولي.

  1. المبادئ العامة للقانون

تستند بعض أحكام القانون الجنائي الدولي إلى المبادئ العامة للقانون التي تعتبر جزءًا من القانون الدولي. هذه المبادئ تستمد من الأنظمة القانونية المختلفة للدول، وتُستخدم في الحالات التي لا توجد فيها معاهدات أو قوانين مكتوبة تغطي موضوعًا معينًا.

 

الجرائم المعترف بها في القانون الجنائي الدولي

يشمل القانون الجنائي الدولي الجرائم التي تعد من أخطر الجرائم التي يمكن أن يرتكبها الأفراد، وتشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، ومن بين هذه الجرائم:

  1. جرائم الحرب

تتمثل جرائم الحرب في انتهاكات خطيرة لقوانين الحرب، مثل الهجمات المتعمدة على المدنيين أو استخدام أسلحة محظورة، وعُرفت هذه الجرائم في اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية لها، وهي تشمل الجرائم المرتكبة ضد المدنيين أو المقاتلين الذين لم يعودوا يشكلون تهديدًا.

  1. الجرائم ضد الإنسانية

تشمل الجرائم ضد الإنسانية الأعمال التي ترتكب كجزء من هجوم واسع أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وتشمل هذه الجرائم القتل والتعذيب والاضطهاد والترحيل القسري.

  1. الإبادة الجماعية

تم تعريف الإبادة الجماعية بأنها أي عمل يرتكب بهدف تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية بشكل كلي أو جزئي، وتشمل الإبادة الجماعية القتل أو التسبب في أذى جسدي أو عقلي لأفراد الجماعة.

  1. جريمة العدوان

جريمة العدوان هي آخر جريمة أُدرجت ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وتتمثل في استخدام القوة العسكرية من قبل دولة ضد سيادة دولة أخرى، وحُددت هذه الجريمة في معاهدة روما، ودخلت حيز التنفيذ في عام 2018.

 

التحديات التي تواجه القانون الجنائي الدولي

  1. السيادة الوطنية:

من بين التحديات الرئيسية التي تواجه القانون الجنائي الدولي هو التوتر بين مبدأ السيادة الوطنية وضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية، حيث تتردد بعض الدول في التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية خوفًا من التدخل في شؤونها الداخلية.

  1. التأثيرات السياسية:

غالبًا ما تكون القرارات المتعلقة بمحاكمة الأفراد في المحاكم الدولية محاطة بتأثيرات سياسية، مما قد يعوق العدالة، العلاقات الدولية والنزاعات السياسية بين الدول قد تعرقل التعاون الدولي في مجال محاكمة الجرائم الدولية.

  1. عدم التزام بعض الدول:

عدد من الدول الكبرى لم تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما يقلل من فعالية المحكمة في محاكمة الجرائم الدولية، بدون تعاون الدول الكبرى، يظل القانون الجنائي الدولي محدودًا في نطاق تطبيقه.

 

مستقبل القانون الجنائي الدولي

من المتوقع أن يستمر القانون الجنائي الدولي في مواجهة تحديات كبيرة، خاصة مع تزايد النزاعات العالمية وتأثير المصالح السياسية، ومع ذلك، فإن تعميق التعاون الدولي وتوسيع نطاق المحاكم الدولية قد يسهم في تعزيز فعالية القانون الجنائي الدولي، ومن المتوقع أيضًا أن تتطور أسس قانونية جديدة للتعامل مع الجرائم الدولية الناشئة، مثل الجرائم الإلكترونية ذات الطابع العابر للحدود التي تشكل تهديدًا للأمن الدولي.

 

ثانيًا: القانون الجنائي الدولي في التشريع الإسلامي

الشريعة الإسلامية تعتبر نظامًا قانونيًا شاملًا يعتمد على مقاصد رئيسية تهدف إلى حماية الإنسان ومصالحه الأساسية، وهذه المقاصد الخمس، وهي: حفظ النفس، الدين، العقل، المال، والنسل، تمثل الركائز الأساسية التي تقوم عليها القوانين الجنائية في الإسلام، القوانين الجنائية الإسلامية تسعى إلى حماية هذه المقاصد من خلال فرض عقوبات رادعة تهدف إلى منع الجرائم الكبرى التي تهدد استقرار المجتمع.

 

الأسس العامة للقانون الجنائي في الإسلام

ركزت الشريعة الإسلامية منذ نشأتها على حماية النفس الإنسانية وحقوق الأفراد والجماعات من أي اعتداء، ويعتمد التشريع الإسلامي على تحقيق التوازن بين الحقوق الفردية والجماعية، وبين القصاص والرحمة، وبين الردع والإصلاح، لذا، فإن الجوانب الجنائية في الشريعة لا تنظر فقط إلى العقوبة بوصفها وسيلة للتأديب، بل كأداة لإعادة الحقوق وحماية المجتمع.

وحفظ النفس يمثل الركيزة الأساسية التي تسعى الشريعة إلى حمايتها من خلال تشديد العقوبات على الجرائم المتعلقة بالاعتداء على الحياة، مثل القتل، الشريعة تأمر بفرض القصاص في حالات القتل العمد، وذلك لضمان تحقيق العدالة وردع الجريمة، حفظ المال أيضًا يمثل ركيزة مهمة، حيث تتجلى العقوبات الصارمة في حالات السرقة والنهب، التي تهدد أمن الممتلكات وحقوق الأفراد.

أما العقوبات في الإسلام تُقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الحدود وهي الجرائم التي حدد القرآن والسنة عقوباتها، مثل السرقة والحرابة والزنا؛ القصاص وهو العقاب الذي يتعلق بالجرائم التي تُرتكب بحق الأفراد مثل القتل والاعتداء الجسدي؛ والتعزير وهو العقاب الذي يترك للقاضي تحديده بناءً على اجتهاده.

 

أهمية المسؤولية الفردية والجماعية

من المبادئ الجوهرية في التشريع الجنائي الإسلامي هو مبدأ المسؤولية الفردية، فلا يمكن تحميل الفرد مسؤولية جريمة غيره، وهذا ما يتضح في قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" (الأنعام: 164)، لكن الإسلام يتعامل أيضًا مع الجريمة باعتبارها أمرًا قد يؤثر على الجماعة، فإذا لم تُواجه وتُعاقب بالعدل، فإنها قد تُهدد المجتمع ككل، هذه الثنائية بين الفرد والجماعة تشكل جوهرًا مشتركًا بين الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الدولي.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن الإسلام يرى في الجرائم التي تهدد السلم العام أو تضر بالجماعة جرائم كبيرة تحتاج إلى عقوبات صارمة مثل جريمة الحرابة، التي تشمل الاعتداء على الأموال والأنفس وإحداث الفوضى والرعب في المجتمع، هذا التصنيف يمكن اعتباره معادلًا لما يعرف اليوم بـ الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب، وهي الجرائم التي يعالجها القانون الجنائي الدولي.

 

المسؤولية الجنائية للدولة ومسؤولياتها عن العمل غير المشروع في ظل الشريعة الإسلامية:

يعترف الفقه الإسلامي بفكرة المسؤولة التقصيرية، أي المسؤولية عن العمل غير المشروع، وتعويض الأضرار النشئة عن خطأ المسؤول سواء كان المسؤول شخصاً طبيعي أو اعتباري فيقول ﷺ «لا ضرر ولا ضرار» في الإسلام، ومن ثـمّ تكون الدول مسؤولة عن الأضرار التي تسبّبها للغير. ومن نـاحية أخرى، فقد عـرّف الفقه الإسـلامي فكرة المسؤولية الموضوعية، أي المسؤولية بدون خطأ -والمعروفة في القانون الدولـي- وأسّسها الإسلام على فكرة الضمان، وأن الضرر يُزال ومفاد ذلك، أن تتحمّل الدولة إزالة الضرر الذي سببّه فعلها للغير، حتى ولو لم يصدر منها ثمة خطأ. وبذلك فإن النظرية الإسلامية تستوعب المسؤولية القائـمة على الخطأ، وكذلك فكرة المسؤولية الموضوعية المعروفة في الفقه الدولـي، والتي لا تشترط وجود الخطأ، لاستحقاق التعويض ما دام فعل الدولة -ولو تجرّد عن الخطأ- قد سبّب أضراراً للغير.

وجوهر المسؤولية الدولية الجنائية يمكن في انتهاك الدولة بفعلها للمصالح العليا الأساسية للجماعة الدولية التي يجب حمايتها وصيانتها، فإذا وقـع عـدوان من الفـرد، كان مسؤولًا عنه مسؤولية جنائية، ويتحمّل العقاب في صورة حد، أو قصاص أو تعزير. أما إذا وقع هذا العدوان على أي من المصالح سالفة الذكر، وكان المعتدي هو الدولة والمجني عليه هو جماعة أو دولة أخرى فإن الإسلام يقرِّر المسؤولية الجنـائية على الدولة المعتــدية، لا سيما إذا كان هذا العدوان يشكّل جـريمة ضد الإنسانية، مثل الإبادة أو الطرد من الديار أو التعـذيب أو الاستـرقاق واغتصاب النساء، وسواء ارتكبت الدولة تلك الجـرائم ضد رعاياها أو رعايا دولة أخرى.

 

الجرائم الدولية في الفقه الإسلامي

يمكن تصنيف العديد من الجرائم التي يعالجها القانون الجنائي الدولي تحت مظلة الفقه الجنائي الإسلامي. فمثلاً، جرائم الإبادة الجماعية التي تُعد من أخطر الجرائم في القانون الدولي، تجد لها نظيرًا في الشريعة، حيث يحرم الإسلام القتل الجماعي أو الاعتداء على الأرواح بأي شكل من الأشكال، وقد أكد القرآن الكريم مرارًا على حرمة النفس البشرية، كما جاء في قوله تعالى: "من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا" (المائدة: 32). هذه الآية تؤكد على عالمية حرمة النفس الإنسانية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنسية. وفيما يتعلق بجرائم التعذيب والمعاملة القاسية، نجد أن الإسلام يرفض تمامًا أي نوع من أنواع التعذيب أو الإهانة، فقد ورد في الحديث الشريف: "لا ضرر ولا ضرار"، وهو مبدأ أساسي في الفقه الإسلامي يمنع أي نوع من الاعتداء الجسدي أو النفسي على الإنسان. هذه المبادئ الفقهية يمكن اعتبارها متوافقة مع القوانين الدولية التي تعاقب على التعذيب وغيره من الجرائم ضد الإنسانية.

 

التعاون الدولي في مواجهة الجرائم

من السمات البارزة في الفقه الإسلامي هو تشجيعه على التعاون الدولي لمواجهة الجرائم وحفظ الأمن. فقد أقرت الشريعة الإسلامية، منذ العصور المبكرة، مبدأ التعاون على البر والتقوى (المائدة: 2)، وهو مبدأ يحث على التعاون بين الأمم في تحقيق الخير ومنع الشر. ومن الأمثلة على ذلك، المعاهدات التي أبرمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع القبائل المجاورة، مثل صلح الحديبية، والتي تضمنت مبادئ حقوقية تُشابه في مضمونها المبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي الحديث.

إن مبدأ التعاون بين الدول لمحاسبة الجناة وملاحقتهم ليس غريبًا على الشريعة الإسلامية. فقد أكدت النصوص الشرعية على ضرورة حماية المجتمع من الأعداء والمجرمين، سواء كانوا داخل الحدود الإسلامية أو خارجها. الإسلام لا يعرف الحدود السياسية الحديثة التي تفصل بين الأمم، بل يتعامل مع العالم كوحدة متكاملة تقوم على أساس التكافل العالمي، وهذه الرؤية تنسجم إلى حد كبير مع مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يعد من الركائز الأساسية في القانون الجنائي الدولي.

 

المرونة والتطور في التشريع الجنائي الإسلامي

من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية هو مرونتها وقدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة عبر الزمن. فرغم أن النصوص القرآنية والسنة الشريفة قد وضعت الإطار العام للقانون الجنائي، إلا أن الفقهاء قد اجتهدوا على مر العصور في تطوير هذا القانون بما يتناسب مع التغيرات الاجتماعية والسياسية. هذا الاجتهاد الفقهي ساهم في تكوين منظومة قانونية مرنة، تستجيب لمختلف الجرائم والاعتداءات التي قد تنشأ في المجتمعات.

ومع ظهور الجرائم الدولية الحديثة، مثل الإرهاب، الاتجار بالبشر، وجرائم الحرب، نجد أن الشريعة الإسلامية قادرة على تقديم حلول فعالة لمعالجة هذه الجرائم التي يسعى القانون الجنائي الدولي لتحقيقها في سياق أوسع يتجاوز الحدود القومية.

 

النظام القانوني الإسلامي والعالمية

قد ينظر البعض إلى التشريع الإسلامي على أنه نظام قانوني محلي أو متعلق بالمجتمعات الإسلامية فقط، إلا أن الشريعة في جوهرها ذات طابع عالمي، فهي تستند إلى مبادئ أخلاقية وقانونية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، وتدعو إلى تحقيق العدل بين الناس جميعًا، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، مما يدل على عالمية القيم الإسلامية.

هذه الرؤية العالمية تتقاطع مع القانون الجنائي الدولي الذي ينظم العلاقات بين الدول ويحاسب المجرمين الذين ينتهكون حقوق الإنسان ويهددون السلم العالمي، الشريعة الإسلامية تدعو إلى إقامة العدل وتطبيقه دون تمييز، وهو ما ينعكس في آيات قرآنية عديدة تأمر بتحقيق العدالة حتى مع الأعداء: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة: 8).

في هذا السياق، يمكن القول إن الشريعة الإسلامية تضع الأساس لمنظومة قانونية عالمية تعزز التعاون بين الأمم لمواجهة الجرائم الكبرى، وهي نفس الرؤية التي تبناها القانون الجنائي الدولي في سياق محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية وحماية حقوق الإنسان.

 

التكامل بين الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الدولي

على الرغم من وجود فروق فلسفية وإجرائية بين الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الدولي والشريعة الإسلامية تُعتبر نظامًا مستقلًا ومنبثقًا من تعاليم الإسلام، إلا أن هناك العديد من المبادئ المشتركة التي تتلاقى فيها الشريعة مع القانون الجنائي الدولي، أبرز هذه المبادئ هو مبدأ حماية حقوق الإنسان، الذي يُعد من الأسس المشتركة بين النظامين، فالعقوبات التي تفرضها الشريعة الإسلامية على الجرائم الكبرى تتفق في فلسفتها مع العقوبات الدولية.

وبالنظر إلى الأهداف المشتركة بين الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الدولي، يمكن القول إن هناك إمكانيات للتكامل بين النظامين، فرغم الاختلافات في التفاصيل والإجراءات، إلا أن كلا النظامين يسعى إلى تحقيق العدالة، حماية الحقوق، ومنع الجرائم التي تهدد سلامة الأفراد والمجتمعات. التكامل هنا يمكن أن يظهر من خلال التعاون الدولي بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول لتطبيق العدالة الجنائية، سواء في الجرائم الجنائية العادية أو الجرائم الدولية الكبرى. فالدول الإسلامية يمكنها أن تعتمد على مبادئ الشريعة في إطار التعاون مع المؤسسات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة في حالات الجرائم الدولية، كما يمكن أن تلعب المؤسسات الإسلامية الفقهية دورًا هامًا في تقديم رؤى واجتهادات جديدة بما يضمن احترام مبادئ الشريعة مع الانفتاح على التجارب القانونية الدولية.

____________________

المصادر:

  1. الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، https://www.un.org/ar/preventgenocide/rwanda
  2. اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقيات جنيف، https://www.icrc.org/ar
  3. المحكمة الجنائية الدولية، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، https://www.icc-cpi.int
  4. أشرف توفيق، مبادئ القانون الجنائي الدولي، المجلة العربية للدراسات الأمنية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، https://bit.ly/3YQNjLB
  5. محمد صالح روان، مفهوم الجرائم الدولية في القانون الجنائي الدولي، مجلة الصراط، العدد 1، المجلد 6، 15 يناير 2004، https://bit.ly/48B6Dkb
  6. عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي، دار الكتاب العربي، بيروت، https://bit.ly/4fuOuqs
  7. عبد الرحمن اللويحق، الجريمة والعقاب في الإسلام، https://bit.ly/3Ajy1Xn  
  8. عوض محمد عوض، مقاصد الشريعة الإسلاميّة والمحكمة الجنائية الدولية، مؤسسة الفرقان، ضمن أبحاث كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية، https://bit.ly/4eao3W6
  9. الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الإنساني: المبادئ المشتركة بين النظامين القانونيين، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 25 نوفمبر 2020، https://bit.ly/3YK1RO6
  10. مؤيد السعود، المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، مجلة الميزان للدراسات الإسلامية والقانونية، العدد 1، المجلد 11، 2024، https://bit.ly/3NR7Dr4

أحمد عبد الله ويدان، موانع المسؤولية في القانون الجنائي الدولي والشريعة الإسلامية، مجلة البيان العلمية، العدد 12، مايو 2022، https://bit.ly/4fqoAnS

  1. محمد شكري الدقاق، موقف المنظمات الدولية من جرائم الدول ضد الإنسانية مع رؤية من منظور إسلامي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ضمن أعمال ندوة: حقوق الإنسان في الإسلام، https://bit.ly/3YL1TFr
  2. سياب حكيم، الـمسؤولية عن جريمة العدوان بين أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الجنائي، مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية، العدد 3، المجلد 8، 30 يونيو 2021، ص: 933-955، https://bit.ly/4fuq00I
Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.