الاستدمار الاستيطاني *

التعريف اللغوي والاصطلاحي:

الاستدمار أو الاحتلال: هو سيطرة دولة على أخرى بقوة السلاح، وتأسيس نظام سياسي وإداري جديد فيها. الاستيطان: هو استقرار مجموعة من الناس في مكان جديد وإقامة مستوطنات فيه. والاستدمار الاستيطاني: هو شكل من أشكال "الاستدمار" يهدف إلى السيطرة على أرض أجنبية واستبدال سكانها الأصليين بمستوطنين من الدولة المستدمرة، بهدف إقامة مجتمع جديد يحمل هوية المستدمر. ويعود مفهوم الاستدمار الاستيطاني إلى عصور قديمة، حيث مارسته العديد من الحضارات، مثل الإغريق والرومان. إلا أن هذا المفهوم شهد تطورًا كبيرًا خلال العصر الاستدماري الحديث، الذي شهد تقسيم العالم بين الدول الاستدمارية الأوروبية.

 

طبيعة الاستدمار الاستيطاني:

في كتابه "الاستعمار والاستيطان: دراسة في التاريخ الفلسطيني" يري د. عبد الوهاب المسيري أن الاستدمار الاستيطاني ليس مجرد احتلال عسكري، بل هو مشروع حضاري يهدف إلى تغيير الهوية الوطنية للبلد المحتل، واستبدال سكانها الأصليين بسكان جدد، في حين ركز عزمي بشارة على الشق السياسي والديموغرافي للاستدمار من جهة أن الاستدمار الاستيطاني هو مشروع سياسي يهدف إلى إقامة دولة أجنبية على أرض شعب آخر، وذلك بطرد السكان الأصليين أو تهميشهم، واستيلاء على أراضيهم ومواردهم. ويري إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" أن الاستدمار ليس مجرد سيطرة سياسية واقتصادية، بل هو أيضًا هيمنة ثقافية وبناء صورة للـ"آخر". ويري ألبرت ميمي في كتابه "المُستعمِر والمستعمَر" أن الاستدمار ليس مجرد استغلال لشعب من قبل آخر، بل هو نظام هيمنة يخلق تراتبية بين المستدمر والمستدمَر. ويقوم الاستدمار أو الاستدمار الاستيطاني على فرضية تأمين الأرض؛ أي الحصول على الأرض والحفاظ عليها. وهو يشكّل الدافع وراء استئصال السكان الأصليين. فطرد السكان الأصليين يوفّر الأساس لمواصلة المشروع الاستدماري الاستيطاني، ولذلك ترتبط الإبادة ارتباطًا وثيقًا بالتوسّع والسيطرة على الأرض. وهو "بنية وليس حدثًا". وتنخرط الدولة الاستدمارية الاستيطانية في "مشروع شامل يتمحور حول الأرض، وينسّق بين مجموعة متكاملة من الهيئات؛ بدءًا من المركز المتروبولي، وصولً إلى التخوم، بهدف محو مجتمعات السكان الأصليين". ولا يسع المرء إلا أن يتفق مع هذا التوصيف التحليلي. ومن المرجح أن هذا ما دار في خلد الباحثين الأكاديميين المذكورين، في مقدمة هذه الدراسة، الذين وصفوا المشروع الصهيوني بأنه استدمار استيطاني، قبل أن يكتب وولف ذلك.

الفرق الرئيس بين الاستدمار الكلاسيكي والاستدمار الاستيطاني من خلال الاختلاف بين عبارتين موجهتين إلى السكان الأصليين: "اعملْ من أجلي" (الاستدمار الكلاسيكي)، و"اذهبْ من هنا" (الاستدمار الاستيطاني). فالعبارة الأولى نابعة من "منطق الاستغلال"، في حين أن الثانية منبثقة من "منطق الإلغاء" الذي يسعى إلى طرد السكان الأصليين والحلول محلهم. ويقيس إليان بابي ذلك بالاستدمار الاستيطاني في فلسطين فيذكر في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" أن المشروع الصهيوني في فلسطين كان مثالًا كلاسيكيًا للاستدمار الاستيطاني، والذي يهدف إلى القضاء على السكان الأصليين وإنشاء دولة يهودية خالصة.

 

أهداف الاستدمار الاستيطاني:

يهدف الاستدمار الاستيطاني إلى السيطرة على الموارد الطبيعية حيث غالبًا ما تكون الأراضي المستدمرة غنية بالموارد الطبيعية التي تسعى الدول الاستدمارية إلى الاستفادة منها، بالإضافة إلي التوسع الجغرافي وزيادة مساحة الدولة المستدمرة ونفوذها، كما تسعى الدول الاستدمارية إلى نشر ثقافتها وقيمها في الأراضي المستدمرة، كما يدفع بعض المستوطنين إلى الهجرة إلى الأراضي المستدمرة هربًا من المشاكل في بلدانهم الأصلية.

 

الاستدمار الاستيطاني في العصر الحديث وآثاره:

على الرغم من انتهاء العصر الاستدماري العسكري المباشر (باستثناء الاستدمار الصهيوني لفلسطين تقريبًا)، إلا أن آثار الاستدمار الاستيطاني لا تزال موجودة حتى اليوم في العديد من المناطق حول العالم، وتشكل تحديًا كبيرًا لبناء مجتمعات عادلة ومتساوية. ويترك الاستدمار الاستيطاني آثارًا مدمرة على الشعوب المستدمرة، فهو يدمر الحضارات والثقافات الأصلية للبلدان التي يستدمرها، والتهجير القسري لملايين الأشخاص من أراضيهم، والاستغلال الاقتصادي للشعوب المستدمرة، كما عانى السكان الأصليون من العنصرية والتمييز.

 

أبرز الأمثلة على الاستدمار الاستيطاني:

الاستدمار الأوروبي للأمريكيتين: حيث قام الأوروبيون بتدمير الحضارات الأصلية واستبدالها بمجتمعات أوروبية.

الاستدمار البريطاني لأستراليا: حيث تم تهجير السكان الأصليين واستقدام مستوطنين بريطانيين.

الاستدمار الصهيوني لفلسطين: حيث قام اليهود بتأسيس دولة إسرائيل على أراضي الفلسطينيين، وطردوا الملايين منهم من ديارهم.

الاستدمار الفرنسي في الجزائر: حيث قام الفرنسيون بتغيير التركيبة السكانية للجزائر واستيلاء على أراضيها.

 

الاستدمار الاستيطاني والقانون الدولي:

يعتبر القانون الدولي الاستدمار الاستيطاني انتهاكًا صارخًا لمبادئه وقواعده الأساسية، إن ممارسة الاستدمار الاستيطاني، والتي تتمثل في استيلاء دولة على أراضي دولة أخرى بقوة السلاح وإقامة مستوطنات فيها، تتعارض بشكل مباشر مع مجموعة من المبادئ والقواعد الدولية، بما في ذلك:

  • مبدأ سيادة الدول: ينص هذا المبدأ على حق كل دولة في ممارسة سيادتها على أراضيها، والاستدمار الاستيطاني ينتهك هذا المبدأ بشكل صريح.
  • حق الشعوب في تقرير المصير: يكفل هذا المبدأ حق كل شعب في تقرير مصيره بنفسه، والاستدمار الاستيطاني يحرم الشعوب المستدمرة من هذا الحق.
  • حظر العدوان: يحظر القانون الدولي أي استخدام للقوة المسلحة ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة، والاستدمار الاستيطاني يمثل شكلًا من أشكال العدوان.
  • حماية المدنيين: يفرض القانون الدولي واجبات على الدول المحتلة لحماية المدنيين في الأراضي المحتلة، والاستدمار الاستيطاني ينتهك هذه الواجبات من خلال طرد السكان الأصليين وتغيير التركيبة الديمغرافية للأراضي المحتلة.

 

من قرارات الأمم المتحدة:

أصدرت الأمم المتحدة العديد من القرارات التي تدين الاستدمار الاستيطاني وتعتبره غير قانوني، من أبرز هذه القرارات:

  • القرار 242: الذي يطالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب عام 1967.
  • القرار 465: الذي يدين إقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة.

 

الشريعة الإسلامية والاستدمار الاستيطاني:

الشريعة الإسلامية، بصفتها نظامًا شاملًا للحياة، تتضمن مبادئ وقيم تحرم الظلم والعدوان والاستيلاء على أراضي الغير، وتعتبر قضية الاستدمار الاستيطاني من القضايا المعاصرة التي تتطلب الوقوف عليها من منظور شرعي. وقد أبدى علماء الشريعة الإسلامية آراءً واضحة في هذا الشأن، مستندين إلى مبادئ وأحكام الإسلام، ومن تلك المبادئ والأحكام:

  1. حرمة الاعتداء على الأراضي والأعراض: قال تعالى: ﴿وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: 87]، وهذا الآية الكريمة تحرم أي اعتداء على حقوق الآخرين، بما في ذلك الاعتداء على أراضيهم وأعراضهم. والاستدمار الاستيطاني يعد اعتداءً صريحًا على حقوق الشعوب الأصيلة.
  2. حق الشعوب في العيش بحرية: قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَكمْ﴾ [الحجرات: 13]، وهذه الآية تؤكد على حق كل شعب في العيش بحرية وكرامة على أرضه، دون أن يتعرض للظلم أو القهر. والاستدمار الاستيطاني ينتهك هذا الحق.
  3. العدل والمساواة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وفي الآية دعوة إلى العدل والمساواة بين جميع الناس، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو جنسهم. والاستدمار الاستيطاني يمارس التمييز العنصري ويؤدي إلى الظلم.

إن الاستدمار الاستيطاني عمل محرم في الإسلام، وهو ينتهك مبادئ عديدة من مبادئ الشريعة الإسلامية، مثل: حرمة الاعتداء على الأراضي والأعراض، وحق الشعوب في العيش بحرية، والعدل والمساواة، والسلم والتعايش.

ويعتبر من أهم الفروق بين الفتوحات الإسلامية والاستدمار الاستيطاني، أن الفتوحات الإسلامية لم تتضمن أبدًا طرد أصحاب الأرض الأصليين بل ظلوا في بلادهم يعيشون تحت شعار "لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"، يحميهم مبدأ لا "إكراه في الدين"، وتظللهم قيم البر والرحمة والعدل..، فقد كان هدف الفتوحات إصلاحي لا إحلالي، وكان القضاء العادل هو الحَكَم بين المتخاصمين، لا يفرق بين مسلم أو غير مسلم، بل يعطي كل ذي حق حقه دون تمييز ديني أو عرقي، فقد كانت العدالة مبصرة لا عمياء كما يحدث دومًا في البلاد المستدمرة استدمارًا إستيطانيًا إحلاليًا.

__________

* قرر موقعنا استبدال لفظ الاستدمار بلفظ الاستعمار، إذ لا يصح أن نُقر استخدام لفظ أخلاقي تنموي كالاستعمار، على اعتداء غاشم يصحبه غالبًا عملية إبادة جماعية للسكان الأصليين من جانب المحتلين... وقد استخدم لفظ الاستدمار قبلنا أكثر من باحث، مثل د. محمد شاويش (رحمه الله)، وأ. معمر حبار وآخرون.

المصادر:

  • عزمي بشارة، استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار، مجلة عمران، العدد 38، أكتوبر 2021، ص: 16.
  • ابتهال الخطيب، بين الاستعمار والاستيطان وأساليب الإبادة «اللايت»، القدس العربي، 22 فبراير 2024، https://2u.pw/ePF2hsKs
  • وليد حباس، مفهوم الاستعمار الاستيطاني: نحو إطار نظري جديد، قضايا إسرائيلية، العدد ٦٦.
  • د. محمد عمارة، الاستعمار الاستيطاني بين فقه الواقع وفقه النص، مقال يمكن الاطلاع عليه عبر هذا الرابط: بقلم: د. محمد عمارة(alsadrain.com).
  • سمير الأحمد، الاستعمار الاستيطاني، دنيا الرأي، ١٦ فبراير ٢٠١٠، https://2u.pw/ixQ7a5xE

 

 
Rate this item
(0 votes)
Last modified on السبت, 21 أيلول/سبتمبر 2024 12:30

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.