مفهوم الدولة الدينية

مفهوم الدولة الدينية يشير إلى نظام حكم يكون فيه لرجال الدين السلطة العليا في إدارة شؤون الدولة وسن القوانين. يُعرف هذا النظام بالثيوقراطية، وهي كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين: “ثيو” وتعني الإله، و"قراطية" وتعني الحكم، مما يعني أنها الدولة التي يحكم فيها شخص أو أكثر أو مؤسسة معينة (الكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا مثلا) باسم الله أو بتفويض من الله أو بشرع الله، وتفرض على رعاياه حق الطاعة والتقديس بأمر الله.

وبنظرة أعمق إلى مفهوم الحكم والدولة الثيوقراطيين لدى علماء السياسة؛ فإن الثيوقراطية نظرية سياسية تقوم على أن شرعية الحكم والحاكم تتأسس على كون من يمتلكها ويمارسها يفعل ذلك انطلاقا من حق إلهي، وأنه في تصرفه وممارسته السياسية يصدر عن تفويض من الإرادة الإلهيّة. إن الحكم الثيوقراطي تبعا لذلك هو بطبيعته حكم مطلَق، يجعل للسيادة مصدرا واحدا هو الحاكم بأمر الله وباسمه.

والحكم الثيوقراطي يوظِّف نظرية "الحق الإلهي" من أجل ممارسة حكم وضعي مطلق، يمنع أي نوع من أنواع المساءلة أو الرقابة، ويصادر سيادة الشعب وسلطته وحقه الأصلي في تفويض الحاكم في تدبير شؤونه، بناء على تعاقد اجتماعي محدَّد المعالم، واضح الواجبات والمسؤوليات. والحاكم في النظرية الثيوقراطية هو فوق المساءلة والمحاسبة، إذ إنّه ليس منتخَبا، ولا يمكن عزله أو إسقاطه لسقوط شرعيته أو نقصانها بسبب إخلاله بمقتضيات العقد الاجتماعي، لأنه هو صاحب السيادة المطلقة وليس الشعب، فهو غير مسؤول أمام أي إنسان آخر ولا أي مجلس ولا أمام الشعب نفسه، وهو فوق القانون، ولا يقبل النقد والاعتراض والنصح، لأنّه يحكم بإرادة إلهيّة.

وبذلك تكون الثيوقراطية -التي تعني التصرف السياسي وفق تفويض أو حق إلهي- أكثر تعارضا مع روح الدين ومقاصده العامة من أشد العلمانيات تطرفا.

 

أصل فكرة الدولة الدينية:

تعود أصول فكرة الدولة الدينية إلى الفيلسوف اليوناني جوزيفوس فلافيوس، الذي قارن بين أشكال الحكم المختلفة في اليونان، مثل الأرستقراطية والملكية والفوضوية. تطورت الفكرة بشكل كبير خلال عصر النهضة الألمانية، حيث عارضها العديد من الفلاسفة مثل هيجل. وهناك عدة أنماط من النظريات الثيوقراطية، نذكر منها: النظرية القائلة بالطبيعة الإلهيّة للحكّام، ويعود ظهورها إلى الحضارات القديمة في روما وإيران ومصر والصين واليابان. وتتلخّص النظرية في تقديس الإمبراطور أو الملِك باعتباره الإلهَ نفسَه أو مَظهراً للإلهِ أو ابنَه أو ربيبَه، ولأنه صاحب سيادة وسلطة مطلقتين.

ثم جاءت النظرية القائلة بالحقّ الإلهي المباشر والتي ظهرت بعد المسيحية؛ فلم تعد للحاكم طبيعة إلهية، بل إنّه إنسان لكن الله اختاره واصطفاه ومنحه السيادة والسلطة على البشر. وبذلك فهو صاحب سلطة مطلقة أيضاً، لأنّه يحكم بإرادة إلهية ويستمدّ سلطته من الله مباشرة. وقد اعتنقت الكنيسة المسيحية هذه الفكرة، واستطاعت من خلالها بسط نفوذها وسلطتها على أوروبا، وإن كان الإمبراطور والملِك أو الأمير هو الذي يحكم في الظاهر. وبهذا الشأن يقول القديس بوسيه المعاصر كما قال ملك فرنسا لويس الرابع عشر: "إن الله هو الذي يعيّن الملك ويضعه على العرش"، وبعض ملوك أوروبا: "إننا لم نتلقَّ التاج إلاّ من الله، ولنا وحدنا سلطة القوانين ولا نخضع في عملنا لأحد".

ثم هناك نظرية الحقّ الإلهي غير المباشر، وقد ظهرت في أعقاب الصراع بين الكنيسة المسيحية وملوك أوروبا، وهو ما دفع مفكّرين سياسيّين -من أبرزهم القديس توما الأكويني- إلى القول بأنّ الله تعالى يختار الحاكم بواسطة الشعب. أي أن الإرادة الإلهيّة تتدخّل لتختار الإمبراطور أو الملك، ولكن ليس بشكل مباشر، بل من خلال اختيار الشعب له بتوجيه إلهي. وهذه النظرية تتمسّك بالفكرة العامّة للثيوقراطية، ولكنّها تحاول أن تعطي لنفسها مظهراً ديمقراطيا.

 

أشكال الحكم الديني عبر التاريخ:

عرفت الإنسانية أشكالًا مختلفة من الحكم الديني في عدة دول. على سبيل المثال، كانت الصين في عهد مملكة شانغ تُحكم من قبل حكام كانوا أشبه برجال الدين. كذلك، شهدت الإمبراطورية البيزنطية أشكالًا من الحكم الديني، وكذلك حكم مقاطعة فلورانسا في إيطاليا في عهد الراهب جيرولامو سافونارولا.

وفي اليونان القديمة: كان الفيلسوف جوزيفوس فلافيوس أول من استخدم مصطلح “ثيوقراطية” لوصف الحكومة القائمة عند اليهود. في ذلك الوقت، كانت الثيوقراطية تُعتبر نوعًا فريدًا من الحكم لا يندرج تحت أي من الأنظمة المعروفة مثل الملكية أو الأرستقراطية.

وخلال العصور الوسطى كانت الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا تتمتع بنفوذ كبير في الشؤون السياسية. كان الباباوات والأساقفة يمتلكون سلطة كبيرة، وكانوا يتدخلون في تعيين الملوك والأمراء، مما جعل الحكم الديني جزءًا لا يتجزأ من الحياة السياسية في أوروبا.

أما في عصر النهضة فقد بدأت فكرة الثيوقراطية تأخذ دلالة سلبية بشكل كبير، خصوصًا على أيدي الفيلسوف الألماني هيجل، وشهد هذا العصر تحولًا نحو العلمانية وفصل الدين عن الدولة، مما أدى إلى تراجع نفوذ الحكم الديني في أوروبا.

وفي العصر الحديث لا تزال بعض الدول المعاصرة تحتفظ بسمات الحكم الثيوقراطي. على سبيل المثال، الفاتيكان يُعتبر دولة ثيوقراطية حيث يكون البابا هو رأس الدولة. كذلك، هناك دول أخرى تعتمد على الشريعة الإسلامية كأساس للحكم، مما يجعلها تحمل سمات الحكم الديني.

 

مفهوم الدولة الدينية في الإسلام:

لم يعرف تاريخ المسلمين الدولة الثيوقراطية ضمن نطاق واسع في تجاربها ولم يكن له أي أصل ضمن الشريعة الإسلامية، فقد عرف المسلمون أساليب الحكم المدنية التي ارتقت بالدولة الإسلامية. في فترة الخلافة الراشدة، كان المسلمون يبايعون رجلًا من عامة الناس لما يتمتع به من صفات العدالة والنزاهة، وليس بالضرورة أن يكون رجل دين. في هذا النظام، تكون الحكمة والسياسة عناصر مهمة في أسلوب الحكم، ويكون هناك مجال للاجتهاد الإنساني والحكم المدني بما لا يتعارض مع الشريعة.

فالدولة في الإسلام دولة أقرب إلى مفهوم الدولة المدنية لكن بمرجعية إسلامية، لأن الشرعية فيها ومصدر السلطات هو البيعة (بيعة الجمهور): أي العقد رضائي بين الطرفين (الحاكم والمحكوم) وليس للحاكم حق التشريع، فالرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان نبيا رسول ليس في غير دائرة ما يوحى اليه، فتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم كإمام (حاكم) غير ملزمة للجمهور (المحكوم)، مثلا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"، بعض العلماء قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحدث بصفته رسولا بل بصفته إماما، وهذا ما يزكي طرح أن الدولة الاسلامية هي دولة مدنية وليست بدولة دينية حيث أن اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيوية كلها اجتهادات من غير مصدر الوحي.

كانت شرعية الرسول صلى الله عليه وسلم كحاكم تستند على البيعة كأساس للإمامة، وتعتبر بيعة العقبة الثانية هي ذلك العقد الاجتماعي الذي أعطى لنبي صلى الله عليه وسلم المشروعية كحاكم وقائد سياسي، عكس بيعة العقبة الأولى التي استندت على أساس عقدي (ايديولوجي )، ومن هنا يمكن القول أن بيعة العقبة الثانية كانت بمثابة عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الرسول الحاكم والقائد السياسي والجمهور (الأنصار) أو موطني دولة المدينة بشكل عام (المهاجرين والأنصار)، وبعد الهجرة سيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم (القائد السياسي) بتأطير قانوني (إعلان دستوري) لدولة المدينة بصحيفة المدينة (دستور المدينة)، والتي جاءت لتنظم العلاقة بين غير المبايعين (المعارضين: المنافقين واليهود) والمبايعين (الجمهور من المهاجرين والأنصار) والنظام السياسي الحالي (الإمام صلى الله عليه وسلم) ويضمن لهم حقوقهم الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

وبالعودة إلي مفهوم الدولة الدينية التفويضية فإنها ليست موجودة في الإسلام بل هي نقيض ما أقر من ممارسات سياسية من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أنه نقيض مبدأ الشوري وهو من المبادئ السياسية الأساسية في الشريعة الإسلامية، لذا يمكن القول بالإطلاق ألا دولة دينية بالمعني الثيوقراطي في الإسلام.

فالدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة، تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة ـ مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها ـ أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم، بل كل مواطن، أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكرًا، أو ضيَّع معروفًا، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأي كفرًا بَوَاحًا عنده من الله برهان.

أما الدولة الدينية "الثيوقراطية" التي عرفها الغرب في العصور الوسطى والتي يحكمها رجال الدين، الذين يتحكَّمون في رِقاب الناس ـ وضمائرهم أيضًا ـ باسم "الحق الإلهي" فما حلُّوه في الأرض فهو محلول في السماء، وما ربطوه في الأرض فهو مربوط في السماء؟ فهي مرفوضة في الإسلام، وليس في الإسلام رجال دين بالمعنى الكهنوتي، إنما فيه علماء دين، يستطيع كل واحد أن يكون منهم بالتعلُّم والدراسة، وليس لهم سلطان على ضمائر الناس، ودخائل قلوبهم، وهم لا يزيدون عن غيرهم من الناس في الحقوق.

__________________________

المصادر:

  1. محمد يتيم، الدولتان الدينية والمدنية.. أيهما أقرب لمقاصد الإسلام؟، الجزيرة نت، 8 مارس 2020، https://bit.ly/3MacJxK
  2. عبد الرحمن حسنيوي، الدولة المدنية في ميزان الإسلام، الجزيرة نت، 30 أبريل 2018، https://bit.ly/4dmvcmy
  3. يوسف القرضاوي، الدولة المدنية والدولة الدينية... تحديد مفاهيم، موقع د. يوسف القرضاوي، 26 ديسمبر 2004، https://bit.ly/3WOCQz8
  4. إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، سلسة عالم المعرفة، الكويت، 1994، العدد 183.
  5. حسام حسين، نقد النظرية الثيوقراطية السياسية، أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، عمان، 2015.
Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.