تعد السياسة الشرعية جزءًا لا يتجزأ من الفقه الإسلامي، فهي التطبيق العملي لقواعده وأحكامه. وهي بمثابة الفقه السياسي الذي يربط بين النظرية والتطبيق، بين الأحكام الشرعية والواقع المعاش.
تعريف السياسة لغة:
السياسة لغة مشتقة من الفعل ساس يسُوس سياسة، جاء في تاج العروس في مادة سوس: "سست الرعية سياسة" أمرتها ونهيتها، وفي لسان العرب في المادة نفسها: السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء، وترجع في معناها اللغوي إلى ثلاثة أصول: "الأول فسادٌ فِي شَيءٍ، ومن ذلك سَاسَ الطّعامُ يَسَاسُ، وَأَسَاسَ يُسِيسُ، إِذَا فسَد بِشَيْءٍ. والثاني: جِبِلَّةٌ وَخَلِيقَةٌ، فالسُّوسُ هو الطَّبعُ. وَيُقالُ: هذا مِن سُوسِ فلانٍ، أَيْ طبعهِ"، والثالث: "حُسنُ القيام على المال"، "والدّواب وغير ذلك، ومنه يُقال: الْوَالِي يَسُوسُ الرّعيةَ سِياسةً؛ أيْ يَلِي أَمرَها" "وسَاس الأَمرَ سِياسةً: قَام بهِ، ورجل ساسٌ مِن قومٍ سَاسةٍ وسُوّاس؛ والسَّوس: الرِّياسة، يُقالُ سَاسُوهُم سَوْسًا، وإِذا رَأَّسوه قِيلَ: سَوَّسُوه وأَساسوه. وَفِي الحديث: (كَانَ بَنُو إِسرائيل يَسُوسُهم أَنبياؤهم)، أَي تتولّى أمورَهم، فالسّياسة بهذا المعنى هي القيامُ على الشّيء بما يُصلحُه"، والمعنى الأخير هو الأقرب إلى المعنى الاصطلاحي الآتي ذكره.
ولمصطلح "السّياسة" عند علماء السّياسة الوضعية تعريفات كثيرة، ومنها أنّها: "الجهد لإقامة النّظام والعدل وتغليب الصالح العام والمصلحة الاجتماعية المشتركة في وجه ضغوط المصالح الفئوية"، وفي تعريف آخر للسياسة أنها: "علم دراسة المصالح المتضاربة وانعكاسها على تكوين السّلطة والحفاظ على امتيازات الطبقة الحاكمة" وفي تعريف آخر أن السّياسة هي: "النشاط الاجتماعي الفريد من نوعه، الذي ينظم الحياة العامة، ويضمن الأمن ويقيم التوازن والوفاق من خلال القوة الشّرعية والسيادة بين الأفراد والجماعات المتنافسة والمتصارعة في وحدة الحكم المستقلة على أساس علاقات القوة، والذي يحدد أوجه المشاركة في السّلطة بنسبة الإسهام والأهمّية في تحقيق الحفاظ على النّظام الاجتماعي".
تعريف السياسة الشرعية اصطلاحًا:
كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. وقد يتخذ البعض من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يهتم بالسياسة ولا يلتفت إليها. وهذا غير صحيح، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه منتشر متفرق في القرآن. كما أنه لم يكن هناك الفصل بين مصطلحي "السّياسة" و"السّياسة الشّرعية" عند الفقهاء المتقدمين؛ انطلاقا من أنّ السّياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيا إلا بالشّرع"، وفي هذا مقولة: "لا سياسة إلا ما وافق الشّرع"، "فإطلاق لفظ "السّياسة" بدون قيد "الشّرعية" كافٍ لإفادة المطلوب، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد بسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند بعض الولاة صارت السّياسة تُخالف الشّرع، فاحتيج إلى تقييد "السّياسة" بـ"الشّرعية"، لإخراج السّياسة الظالمة".
وقد عُرِّفت السياسة الشرعية في الاصطلاح الشرعي بتعاريف متعددة منها:
"ما يتعلّق بتدبير شؤون الدولة داخليا وخارجيا من القوانين والنّظم التي تتفق وأصول الإسلام؛ وإن لم يقم على كلّ تدبير دليل خاص". فالسّياسة الشرعية تشمل كل "الأحكام الشّرعية المتعلقة بشكل الدولة ونُظمها ووظائفها، والحكومة وسلطاتها، والمتعلقة بالرأي العام ومكوناته، والجماعات والهيئات ذات الأثر في السّلطة، كما تشمل الأحكام المتعلقة بالعلاقات الدولية والقوانين الحاكمة لها"، ويخرج بقيد "الشرعية" السّياسة الوضعية التي ليست الشّريعة الإسلامية هي المرجع الأول لها. ويُعرّف علم السّياسة الشّرعية بأنه: علم يبحث فيما تُدبر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص. وموضوعه: النظم والقوانين التي تتطلبها شؤون الدولة من حيث مطابقتها لأصول الدين وتحقيقها مصالح الناس وحاجاتهم. وغايته: الوصول إلى تدبير شؤون الدولة الإسلامية بنظم من دينها. والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة وتقبله رعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان.
وعرفها علاء الدين الطرابلسي (ت 844 ه): حيث عرفها بأنها: "شرع مغلظ". ويقصد بذلك أن السياسة الشرعية إنما تكون بتغليظ العقوبات بالتعزيز ونحوه للقضاء على الفساد ومواجهته. ويؤخذ عليه أنه قصر السياسة الشرعية على جزء من أجزائها وهو العقاب للمخالف، كما أنه حصر معنى السياسة الشرعية في الجانب الجنائي أو ما يسمي بفقه العقوبات، والسياسة الشرعية أعم من ذلك بكثير، فهي تدخل في جميع الجوانب ولا تخص جانبا بعينه.
وعرَّف ابن نُجيم الحنفي (ت 970 ه) السياسة الشرعية بأنها: "فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بهذا الفعل دليل جزئي". فالسياسة الشرعية حسب هذا المفهوم تصرف من الحاكم وفق مصلحة يراها أنها مناسبة لرعيته وإن لم يرد دليل خاص من القرآن أو السنة على هذا التصرف. وعرفها ابن عقيل الحنبلي (ت513 ه) رحمه الله بأنها: "ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول الله ﷺ ولا نزل به وحي". وهو قريب من تعريف ابن نجيم السابق.
ويؤخذ على التعريفيين أنهما يشملان تصرفات ولي الأمر التي صدر بشأنها من الشارع المتعلقة بالنص فقط، ولكن السياسة الشرعية متعلقة بالأمور والتوجهات التي تصدر من ولي الأمر فيما لم يرد فيه نص، ويقصد بها إصلاح المجتمع وتنظيم سلوك أفراده، وبالتالي إذا أضيف للتعريفيين السابقيين جملة (بما لم يرد فيه نص)، كان التعريف صحيحًا، بأن أصبح: (فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها في شؤون أمته مما لم يرد به دليل جزئي).
أما الماوردي فقد عاصر وقت عانى فيه الخلفاء من الفوضى والمواجهات بين السنة والشيعة، مما جعله يضع مصطلح الأحكام السلطانية ليعبر به عن الحياة السياسية وهو " الاحكام المتعلقة بولاة الأمور مما يحسن فيه التقدير ويحكم به التدبير، وهي الأحكام المتعلقة بالولايات التي تصدر عنها".
وعرف د. عبد العال عطوة السياسة الشرعية بأنها: «فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، فيما لم يرد فيه نص خاص، وفي الأمور التي من شأنها ألا تبقى على وجه واحد، بل تتغير وتتبدل تبعًا لتغير الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة والمصالح».
أما الشيخ عبد الوهاب خلاف فقد عرف السياسة لشرعي بأنه: "تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين".
ويعتبر هذا التعريف من أشمل وأوضح التعريفات لمفهوم السياسية الشرعية، لأنه:
١- عرّف السياسة الشرعية كوظيفة عامة دون اختزالها بفعل الحاكم، وهو أليق حيث هي صلاحيات موزعة بين الحاكم وسلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأجهزتها ومؤسساتها، وبهذا يخرج عن إطار الواقع القديم الذي ألقى بظلاله على التعريفات جميعا، ويقترب من وظيفة علم السياسة بواقعه الحديث.
٢- جعلها شاملة محتملة لما ورد فيه نص وما لم يرد فيه نص، وهو حقيقة السياسة الشرعية، حيث ترتبط بالمصلحة المعتبرة شرعًا بشروطها، وإن لم يكن هناك نص، ولم تخالف القواعد الكلية والمقاصد الشرعية؛ وكذلك ما ورد فيه نص لكنه مرتبط بعلة تتغير حسب الظروف فتيتغير الحكم تبعًا لها.
عناصر السياسة الشرعية:
يتضمن مفهوم السياسة الشرعية ثلاثة عناصر رئيسية وهم كالتالي:
أولًا: الرياسة والقيادة:
وهو أن يكون الرئيس أو الحاكم قادرًا على القيام بأعباء المهمة الموكلة إليه، رجوعًا لقوله تعالى ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:47].
حددت الآية شرطين أساسَيْن في اختيار الإمام هما: العلم، الجسم. ويقصد به سلامة حواسِّه من النقص وجسدِه من العاهات المؤثرة في الرأي والعمل بالإمامة أو التي تعيب صاحبها، وأضاف العلماء شرط الذكورة والحرية والعقل والبلوغ والشجاعة، وهذه كلها صفات جِبِلِّيّة، وأما الصفات المكتسبة فهي: العلم والورع.
أما العلم فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين، وهذا أمر مجمع عليه، عند المتقدمين، ويقدم الأعلم من مستوفي الصفات في حال فقد هذا الشرط ويجب أن يتسم الحاكم بالتقوى والورع ، إذا استجمع الإمام هذه الصفات الحسية والمعنوية، الجبلّيّة والمكتسبة، كان أهلًا لذلك المنصب، وجَمَعَ الناسُ أمرهم عليه، ونزلوا عند رأيه؛ ذلك أن الغرض الأعظم من الإمامة جمعُ شتات الرأي واستتباعُ رجل أطياف الشعب على اختلاف إراداتهم وأخلاقهم وحالاتهم، فإذا لم يكن المتبوع بالمكانة التي يخضع لها المجموع فسيكون ذلك سببًا للخروج عليه وإثارة الفتن في ولايته.
ثانيًا: القيام على الشيء بما يصلحه: فإنه يستلزم أن يكون القائم عليه مستجمعًا الصفات التي وردت في الإمام، فيتفرع عن هذا المبدأ العنصر الثالث في مفهوم السياسة الشرعية.
ثالثًا: الأمر والنهي: وهو الأمر والنهي أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف: كل ما أمر الله تعالى به، والمنكر: كل ما نهى الله تعالى عنه؛ ذلك أن القيام على الشيء بما يصلحه يقتضي معرفة هذا الشيء معرفةً دقيقةً بماهِيَّتِه وأسباب صلاحه وفساده، فإذا تحصلت هذه المعرفة استطاع القائم عليه أن يُشَرِّع له ما يُصلحه ويؤدي إلى الاستفادة منه على الوجه المطلوب، وهذا أمر عام يشمل عظائم الأمور وصغائرها.
مصادر السياسة الشرعية:
السياسة الشرعية عبارة مكونة من لفظ منعوت بصفة فهي سياسة مقيدة بكونها شرعية، وهذا يعني أن مصادرها هي المصادر التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية، ومصادرها نوعان:
أولًا: مصادر نصية:
- وهي الكتاب ويقصد به القرآن الكريم الموحى به إلى رسول الله محمد ﷺ والمدون بين دفتي المصحف، وإفادته لأحكام السياسة الشرعية يأتي على وجهين: أحكام منطوقة مباشرة وأحكام تدرك بالاجتهاد.
- السنة النبوية ما أثر عن الرسول ﷺ من قول أو فعل أو تقرير بشرط أن يصل إلينا من طريق تقوم به الحجة وهو أن يكون الحديث صحيحًا أو حسنًا حسبما بيَّن علماء الحديث ذلك. وهي تشريع واجب الاتباع بنص القرآن لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول﴾ [النساء: 59].
- الإجمــــــــــــــــــاع: هو اتفاق جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة الرسول ﷺ على حكم شرعي.
- العُرف: ما استقرت عليه نفوس الناس، وتلقته طباعهم السليمة بالقبول وصار عندهم شائعًا، في جميع البلاد أو بعضها قولا كان أو فعلًا.
ثانيًا: مصادر اجتهادية: وهي مصادر تعتمد على المصادر النصية يجمعها كلها لفظ الاجتهاد:
- القياس: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. ومذهب جمهور علماء المسلمين أن القياس حجة شرعية على الأحكام العملية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية.
- المصلحة المرسلة: من الأمور المقررة عند أهل الإسلام أن الفقه في مجمله قائم على اعتبار مصالح الناس، وتصحيح أفعالهم على مقتضى الشرع ما أمكن. ذهب جمهور العلماء إلى حجية العمل بالمصالح المرسلة، أي بناء الحكم عليها واعتبارها أصلًا تثبت بها الأحكام السياسية الشرعية إذا توفرت فيها الشروط الآتية: أن يتحقق من بناء الحكم عليها جلب مصلحة أو درء مفسدة. أن تكون المصلحة التي يبنى الحكم عليها كلية لا جزئية. ألا تعارض المصلحة حكمًا أو قاعدة تثبت بالنص أو الإجماع.
- الاستــحسان: عرف أبو الحسن الكرخي الاستحسان بقوله: العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى.
- سد الذرائع: هي ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة، ومعنى سد الذريعة: المنع منها، والحيلولة بينها وبين ما تفضي إليه.
أنواع السياسية الشرعية في الفقه الإسلامي
هناك العديد من الأنواع والتصنيفات للسياسية الشرعية ويمكن إجمالها كالتالي:
القسم الأول: أنواع السياسة الشرعية باعتبار مصدرها وهي على نوعين:
- السياسة الدينية وهي قواعد وفروض ربانية قد أقرها الله عز وجل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما ورد عن الصحابة والتابعين في حل المسائل السياسة المختلفة.
- السياسة العقلية: وهي التي يستخدمها السياسي في دفع المضار وجلب المنافع لعموم المسلمين واستخدام العقل والحكمة والمنطق والشواهد والظواهر والمشورة ودفع الضرر.
ومن الجدير بالذكر أن السياسة العقلية لا يمكن فصلها عن السياسة الدينية حيث أن السياسة العقلية تستمد أهميتها من السياسة الدينية، ومن جانب آخر فإن التعرف على التجارب التي مر بها المسلمون وزيادة الخبرة في التعرف على أحوال المسلمين تؤدي إلى المساهمة في النجاح باتخاذ القرار الملائم لصالح الإسلام والمسلمين وهو ما يعبر عنه بالسياسة العقلية. كما ويفهم من هذا التقسيم، أن مرد السياسة الدينية يرجع إلى النص الجزئي، بينما تراعي السياسة العقلية الاستنباط من النص الجزئي.
أما القسم الثاني: السياسة الشرعية باعتبار العمل بها: وهي على نوعين:
- السياسة الشرعية التأصيلية المعيارية: وهي سياسة تقوم على مراعاة الشريعة الإسلامية والتقيد بها والعمل عليها واجتناب نواهيها، حيث تتخذ الشريعة الإسلامية مدخلًا لتحقيق أهداف الفرد والمجتمع المسلم على السواء حيث أن الشريعة الإسلامية هي عبارة تشريعات إلهية منضبطة بالقدر الذي يحقق مصالح الأفراد في الدنيا والآخرة.
- السياسة الشرعية التطبيقية: وهي سياسة لا يمكن أن تستغني عن الأسس والمبادئ التأصيلية والمعيارية حيث تستقي منها روح التشريع ومنها تتعرف على ما وافق الشرع وكان فيه مصلحة الأمة الإسلامية. ولقد تميز ابن خلدون عن غيره في اعتبار أن المحدد في السياسة الشرعية التطبيقية هي تمييز المصلحة في حد ذاتها فما ورد فيه نص يشهد لها بالاعتبار أو اللجوء إلى إلغاء المصلحة إذا لم يرد نص واضح أو بعبارة أخرى إن من بين أبرز مرتكزات السياسة الشرعية التطبيقية هي وجود المصلحة في المقام الأول وأن عدم وجود المصلحة قد يدفع إلى تعطيل أداء السياسة الشرعية التطبيقية.
والقسم الثالث: السياسية الشرعية باعتبار توفر العدل فيها: وهي على نوعين:
- السياسة العادلة حيث تقوم على أساس الاعتماد على ما أمر الله به من التعرف على مصلحة الأمة الإسلامية وتطويع السياسة الشرعية للحصول على المنافع التي أمر الله عز وجل بها، وتعتمد على رؤية الواقع واكتشاف الحقائق كاملة والظروف والملابسات التي تمر بها المجتمعات الإسلامية. ويرى الإمام ابن القيم أن السياسة الشرعية العادلة ترتكز أيضًا على دفع الأضرار وتتبع المصالح والبعد عن المهالك واللجوء إلى المداهنة خشية الوقوع في الظلم، وبالتالي فإن السياسة الشرعية العادلة تنتهج بالشريعة الإسلامية وتلتزم بأوامرها ونواهيها.
٢. السياسة الظالمة وهي السياسة التي تحيد عن الحق وعن منهج الله عز وجل البعيدة تمامًا عن المنهج الذي أقره الله عز وجل في كتابه.
ويرجع السبب الرئيسي للتفريق بين السياسة العادلة والسياسة الظالمة من وجهة نظر ابن القيم كثرة المشكلات والتحديات التي تحيط بالعالم العربي والإسلامي والرغبة في حماية الضرورات الخمس التي أمر الله عز وجل من حفظ للدين والنفس والمال والنسل.
أهم الفروق بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية
لمعرفة الفروق بين السياسة الشرعية والوضعية من المهم الإشارة أولًا: إلى السياسات القائمة في الواقع من حيث اتصالها بالشرع من عدمه ثم بيان أهم الفروق بينهما:
أولًا أنواع السياسات في الواقع: بالنظر إلى السياسات المطبقة في الواقع نجد أنها إما وضعية، أو مختلطة أو شرعية، وذلك بحسب مصدر قواعد ومبادئ هذه السياسة:
فـــــ "السياسة الوضعية البحتة" وهي التي يكون مصدرها البشر، يضعون قواعدها بحسب ما يرونه محققا لمصالحهم يستندون في ذلك إلى خبراتهم وتجاربهم وما يهتدي إليه زعماؤهم، ويطورون هذه القواعد ويخضعونها للتغيير والتعديل والتبديل بحسب نظرتهم ومفهومهم لمصالحهم، وما يدينون به من عقائد، وما يقدسونه من موروثات وما تفرضه عليهم المواقف لاستغلالها، ويستخدمون في سبيل ذلك كل ما هو ممكن ومتاح من الأدوات والنظريات والوسائل لتحقيقها. والسياسة التي تكون منبعها من البشر تنحصر غاياتها في تحقيق المنافع والمصالح الدنيوية فقط بحسب نظرة الناس إليها بعيدا عن الشرع، وينطلق الناس من هذا المنطلق في وضع القواعد والقوانين التي تكفل تحصيل هذه المصالح وسبل المحافظة عليها، ولذلك تسمى بأنها وضعية لأنها من وضع البشر، وإن توافق رأيهم في بعض الأحكام أو المصالح مع رأي الشرع فليس أخذا بما قرره الشرع في ذلك وإنما لأنها تحقق غاياتهم الدنيوية فحسب من غير أن يكون لهم قصد في امتثال الشرع وهذه السياسات قائمة في غير بلاد المسلمين.
أما "السياسة الشرعية": فهي التي تطبق أحكام الشرع النصية، وتعتمد فيما لا نص فيه على قواعد الشرع، وتهدف إلى تحقيق مقاصد الشرع الدينية والدنيوية وتعود بالنفع العام للناس في دنياهم وآخرتهم، وهذه السياسة موجودة في بعض بلاد المسلمين.
أما "السياسة المختلطة": وهي التي تطبق بعض أحكام الشرع النصية، وتخلط بين المنهج الشرعي في جلب المصالح المقصودة شرعًا وبين المنهج الوضعي في جلب المصالح التي يراها الناس، وتهدف لتحقيق غايات مختلطة دينية ودنيوية، فتأخذ بالسياسة الشرعية في مواضع، وتأخذ بالسياسة الوضعية المخالفة لأحكام الشرع في مواضع أخرى فتصبح خليطًا بينهما، تطبق أحكام الشريعة مثلًا في الأحوال الشخصية، وتطبق السياسة الوضعية مثلًا في التعاملات البنكية، وتوجد هذه السياسة في بعض البلدان الإسلامية.
ومما سبق نجد أن أهم الفروق بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية تتمثل في التالي:
1- الاختلاف في المصدر: فمصدر السياسة الشرعية هو الشرع بأدلته الجزئية والعامة وبمبادئه وأصوله ومقاصده بينما الوضعية مصدرها الأعراف والعادات والتجارب البشرية وما تستحسنه عقول زعمائهم وقادتهم ومفكريهم. قال ابن خلدون: "فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العملاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عملية، وإذا كانت مفروضة من الله تعالى بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك، وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط، فالملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به فافهم ذلك. ويترتب على الاختلاف في المصدر فروق جوهرية كبيرة من حيث الثبات والشمول والغايات ومفهوم المصلحة.
2- الاختلاف في الغايات: فالسياسة الشرعية لها غايتان رئيستان، هما: إقامة شرع الله في الأرض، ورعاية الناس وتدبير شؤونهم وفق هذا الشرع، تطبيقًا لقوله سبحانه وتعالى: "الذين إن مَكَّنَاهُمْ فِي الْأَرْض أقاموا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمرُوا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" سورة الحج الآية (41). وقد ذكر الفقهاء أن الغاية من منصب الخلافة والإمامة هي حراسة للدين وسياسة الدنيا به، بينما الغاية في السياسة الوضعية تحصيل المصالح الدنيوية فقط.
3- الاختلاف في مفهوم المصلحة المراد تحقيقها: فمفهوم المصلحة في الشرع يتمثل في خمسة أشياء: المحافظة على الدين، ثم المحافظة على النفس، ثم المحافظة على العمل، ثم المحافظة على العرض ثم المحافظة على المال، وتكون المحافظة على هذه المقاصد بالترتيب عند تعارضها، ويشترط في المصلحة أن تكون عامة وليست خاصة بفرد أو بمجموعة على حساب آخرين، كما يشترط فيها ألا تخالف حكمًا شرعيًا. بينما مفهوم المصلحة في السياسة الوضعية يتمثل في المحافظة على النفس وعلى المال، أما المحافظة على العمل والعرض فهي بصورة محدودة، ولا يوجد اهتمام كبير بالمحافظة على الدين، ولذلك يضعون قوانين تخالف الشرع والفطرة والذوق الإنساني لعدم وجود وازع من دين.
4- الاختلاف من حيث الثبات فالسياسة الشرعية تتسم بالثبات في المبادئ والأصول التي تراعي مصالح الناس، ولا تختلف باختلاف الزمان ولا المكان وتسلك وسائل شرعية في تحقيق تلك الغايات، ولا تتأثر بتغير شخص الحاكم لأنها تقوم على أحكام ومقاصد الشرع وهو باق وثابت، بينما السياسة الوضعية -لأنها من صنع البشر- سريعة التغير والتقلب لا تحتكم المبدأ ثابت، بل تسير مع لغة المصالح التي يقررونها، وتتأثر بأهوائهم وتسعي دوما لتحقيق المصالح الدنيوية بأي وسيلة كانت.
5- من حيث الشمول فالسياسة الشرعية تشمل مجالات كثيرة، فهي سياسة في الدين والدنيا معا، تنظم حياة المسلم وفق عقيدة ربانية راسخة، وعبادات محددة وتيسر معاملاته بما تتحقق به مصالحه على أساس من الشرع وتسعى لتحصيل المنافع الدنيوية والأخروية معا، فهي استصلاح للخلق وإرشادهم إلى الطريق المنجى لهم في العاجل والأجل. بينما السياسة الوضعية قاصرة على مجال المعاملات بين الأفراد، وبالقدر الذي تنتظم به حياتهم وتتحصل به مصالح الدنيا فقط.
6- الاختلاف في الاهتمام بالأخلاق والقيم: فالسياسة الشرعية تعتمد على مراعاة مجموعة من الأخلاق والقيم التي أمر بها الدين، ورتب أجرا عليها كي يسموا بها الإنسان في تعاملاته مع غيره، كالصدق والأمانة والحياء، والإحسان إلى الآخرين، والرحمة بالضعفاء ومساعدة المحتاجين، ونصرة المظلومين إلخ..... بينما السياسات الوضعية تهتم بوضع القوانين بما تنظم حياتهم وتعاملاتهم المادية وتترك للأفراد حرية كبيرة في مجال الأخلاق.
_____________
المصادر:
- شيماء أبو عيد، السياسية لشرعية، الموسوعة السياسية، 12 يناير 2021، https://bit.ly/3WSkxug
- عبد الله العلوي، لماذا تخلف علم السياسة الشرعية عن الرّكب؟، الجزيرة نت، 9 يونيو 2017، https://bit.ly/46AoZkA
- عمر أنور لزبداني، فقه السياسية الشرعية: الجويني نموذجًا، كتاب الأمة، المجلد 31، العدد 144 (31 يوليو 2011)، ص 1-171، 171ص.
- حمود غالب، مفهوم السياسية الشرعية وعلاقته بالفقه والقانون، مجلة الدراسات الاجتماعية، العدد: 43، يناير-مارس، 2015، ص 161-165.
- تأصيل السياسة الشرعية وفق مقاصد الشريعة الإسلامية، مجلة الرسالة العدد الخامس، مارس 2021، ص 119-121.