ترادف كلمة عدالة كلمة Justice في اللغة الإنجليزية وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Jus بمعني حق أو قانون، وفي اللغة العربية العدالة تعني الاستقامة، والعدالة هي إحدى الفضائل الأربع الكبرى التي سلم بها الفلاسفة في العصور القديمة. وهذه الفضائل هي الحكمة والشجاعة والاعتدال والعدالة.
ولقد قدم كل من أفلاطون وأرسطو تحليلًا لمفهوم العدالة أضحى ذا تأثير بالغ في تحديد مسار الفكر السياسي حول هذا المفهوم حتى يومنا هذا. ولقد جاء تحليل أفلاطون لمفهوم العدالة ردًّا على قول السفسطائيين على لسان تراسيماخوس بأن العدالة هي مصلحة الأقوى. فلقد دحض أفلاطون مقولتهم هذه ورفضها تمامًا في الجمهورية مؤكدًا أنه لا يجب ولا يجوز أن يكون هناك تواز بين الحق من جانب والقوة من جانب آخر. فالقوة في رأيه، لا تبرر الحقوق ولا تفرضها ثم مضى أفلاطون يعلن رأيه في ماهية العدالة فأعطاها صيغة سياسية عندما شرح أن العدالة هي أن يحصل كل فرد على ما هو حق له بمعني أن يعرف كل فرد وأن يؤدي ما هو مؤهل له بالطبيعة وألا يتدخل فيما هو حق للآخرين أي من هم مؤهلون للقيام به. فالعدالة عند أفلاطون هي السبيل الوحيد لتحقق المدينة الفاضلة حيث يؤدي كل فرد العمل المؤهل له تحت إمرة الفلاسفة الحكماء. وبتأثير هذا التحليل الأفلاطوني لمفهوم العدالة ما زال المفكرون السياسيون المنتمون إلى مدارس سياسية عديدة يؤمنون بأن العدالة هي السمة الأساسية المميزة للنظام السياسي الفاضل، بل ويعتبرها البعض الفضيلة السياسية الجامعة التي تنطوي تحتها وتترتب عليها كافة الفضائل السياسية الأخرى.
أما أرسطو فلقد اعتبر العدالة القضية المحورية للفكر السياسي كله ولقد عرفها بأنها حد وسط بين الظلم المتمثل في الاعتداء على ما يخص الآخرين والظلم المتمثل في اعتداء الآخرين على ما يخصك.
ولقد ميز أرسطو بين ما أسماه عدالة التوزيع وترجع إلى الدولة حيث تعمل على ضمان حصول كل فرد على نصيب عادل من موارد الدولة وعدالة التعويض وترجع إلى القضاء حيث يعمل على تعويض المظلوم من الظالم إما في المعاملات الارادية مثل البيع والإقراض وغير ذلك، أو في المعاملات غير الإرادية مثل السرقة والاعتداء وما إلى ذلك.
ورغم أن أرسطو يؤكد أن المبدأ المراعي في النوعين هو المساواة، إلا أن كثيرًا من المفكرين فهموا أن عدالته في التوزيع تراعي فضل الأفراد فتعطي كلًا على قدر فضله، في حين أن العدالة التعويضية تأخذ الظالم بما أخذ به المظلوم.
ولقد أثر هذا التقسيم الأرسطي لمفهوم العدالة في الفكر السياسي حتى يومنا هذا، وإن كان المفكرون المعاصرون لا ينظرون إلى العدالة التوزيعية والعدالة التعويضية بوصفهما نوعين من أنواع العدالة بل بوصفهما تطبيقين لنفس المفهوم. وعادة ما يبرز التركيز على مفهوم العدالة التعويضية عند الحديث عن القانون وعلاقته بالعدالة، في حين تعظم الإشارة إلى مفهوم عدالة التوزيع عند الحديث عن العدالة الاجتماعية.
إذا أخذنا فكرة عدالة التعويض أولًا وجدنا أنها كانت الفكرة المسيطرة على الفكر السياسي الخاص بمفهوم العدالة وحتى الثورة الصناعية. فقبل هذه الثورة ساد الفكر السياسي اتجاه قوي يربط بين العدالة من ناحية والقانون من ناحية أخرى ذلك أن القانون كان يعتبر الجسد الذي يتضمن مجموعة القواعد والمبادئ التي تحدد أشكال العلاقات بين الأفراد وتعين حقوق الأفراد المالية وغير المالية، وكان هذا الجسد القانوني مكونًا هامًا من مكونات البناء الاجتماعي في عصور ما قبل الثورة الصناعية. والعدالة وفقًا لهذا الاتجاه، هي احترام هذه المبادئ والقواعد والحقوق، فهذا الاتجاه يعتبر أن العدالة هي الفضيلة التي تحمي النظام الاجتماعي القائم حيث لكل فرد مركزه ووضعه القانوني المحدد. أما فيما يتعلق بالجانب العقابي المفهوم العدالة التعويضية فقد أكد أنصار هذا المفهوم أنه لابد من توافر ثلاثة شروط حتى يمكن أن نتكلم عن عدالة العقاب؛ الشرط الأول هو ان العقاب لا بد أن يقع على هؤلاء الذين أثبتت الإجراءات القانونية أنهم مذنبون دون النظر لاعتبارات العفو أو الرحمة أو تخفيف العقاب. الثاني أن العقوبات لابد أن تختلف باختلاف الجرائم. والثالث أنه لا بد أن يتناسب العقاب مع الجريمة.
وجنبًا إلى جنب مع مفهوم العدالة التعويضية هذه بدأت تظهر شيئًا فشيئًا مناقشات حول العدالة تذكر بمفهوم أرسطو عن عدالة التوزيع وهو ما مهد لظهور مفهوم العدالة الاجتماعية وتسيده للفكر السياسي في العصر الحديث خاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر. ويرتكز مفهوم العدالة الاجتماعية على افتراضين أساسيين: الأول هو أن العمليات الاجتماعية تخضع لقوانين بشرية يمكن صياغتها وبالتالي فإنه يمكن عن طريق إعادة صياغة تلك القوانين إعادة تشكيل المجتمع، والثاني أن الحكومات كمصدر قوة وصاحبة سلطة يمكنها أن تنفذ إعادة تشكيل المجتمع هذا.
والمفكرون السياسيون الذين يتحدثون عن العدالة الاجتماعية ينقسمون إلى فريقين؛ الفريق الأول يناقش مفهوم العدالة الاجتماعية من جهة الاستحقاق والتقدير. أما الفريق الآخر فيناقشها من جهة الحاجة والمساواة.
أما العدالة الاجتماعية من جهة الاستحقاق والتقدير فتعني أن المركز الاجتماعي والدخل المادي لكل فرد لا بد أن يكون متناسبًا، بقدر الإمكان، مع مهاراته وكفاءاته.
ولقد ظهر هذا المفهوم أساسًا ليجابه مفاهيم مثل الامتياز بالوراثة ولينادي بمجتمع مفتوح، الفرص فيه متساوية للجميع حتى يبرز من يستأهل الصعود والتألق اعتمادًا على قدراته الذاتية. ولكن ثارت مشكلات عدة تتعلق بمفهوم الاستحقاق وكيف يمكن تحديد التقدير عمليًا حيث أكد بعض المفكرين أن القول بأن قيمة الفرد تحددها مهاراته وقدراته قول غير منطقي، لأن هذه القيمة لا بد أن يحددها ما يبذله من مجهود فعلي ويقف وراء هذه المناقشات الاتجاهان الليبرالي من جانب والاشتراكي من جانب آخر، ففي حين أن الفلسفة الليبرالية تؤكد أن السوق الحرة هي معيار تحديد قيمة الفرد وما يستأهله حيث يعرض كل فرد قدراته فتحدد قيمته وفقًا للعرض والطلب المفتوح، إلا أن المفكرين الاشتراكيين ينتقدون هذا الاتجاه الليبرالي مؤكدين أن السوق يتأثر بعوامل غير العرض والطلب مثل الحظ والبيئة الاجتماعية للعارض وغيرها من العوامل التي ليس لها أي علاقة بمهارات العارض وكفاءته فاقترحوا بالتالي أن تحدد قيمة ما يستأهله الفرد بوسائل مباشرة تقوم عليها الدولة مثل نظام تحديد الأجور في ظل اقتصاد موجه حيث تتولى الدولة مهمة التوزيع بين الأفراد حسب كفاياته ووفقًا للمصلحة العامة.
أما العدالة الاجتماعية من جهة الحاجة والمساواة فتؤكد أن العدالة لا تتحقق إلا بإعادة توزيع الموارد وفقًا لمدى حاجة الأفراد إليها. ويؤكد أنصار مفهوم العدالة هذا إلى أنه يؤدي إلى سيادة مفهوم المساواة حيث إن إشباع حاجات الأفراد بتنويعاتها المختلفة تجعلهم متساوين بمعنى من المعاني، ولكن الصعوبة الأساسية التي تواجه أنصار هذا المفهوم تكمن في تحديد معنى الحاجة.
فهل الحاجة هي الرغبة والتفضيل، بمعنى أن كل من يرغب أو يفضل الحصول على شيء يكون بالفعل في حاجة إليه؟ وينبع من هذه الصعوبة صعوبة أخرى هي كيف يمكن تحديد ماهية الحاجة مع الاختلاف الشديد في حاجات الأفراد وفقًا للأنماط الحياتية المختلفة؟
وفي مواجهة هذه الصعوبات تبلور اتجاهان فكريان رئيسيان الأول هو الاتجاه الشيوعي الذي يرى أن كل فرد أقدر على تحديد حاجاته وأن على الدولة أن توفر بالفعل الموارد اللازمة لإشباع كل الحاجات بغض النظر عن مدى تباينها، ثم هناك الاتجاه الديمقراطي الاشتراكي الذي يرى أن السلطة العامة في الدولة لا بد أن تكون هي المناطة بتحديد حاجات الأفراد وفقًا للمستويات المعيشية السائدة في المجتمع.
أما أنصار النظرية النفعية فيرفضون مفهوم العدالة الاجتماعية القائم على توزيع الموارد وفقًا للحاجة، كما أنهم يرفضون التوزيع القائم وفقًا للاستحقاق والاستئهال ويؤكدون أن توزيع الموارد في المجتمع يكون عادلًا بالنظر إلى النتائج التي يحققها فإذا ترتب على توزيع تحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأفراد فهو توزيع عادل بغض النظر عن المبدأ الذي اتبعه.
وربما بسبب هذه الصعوبات التي يثيرها مفهوم العدالة الاجتماعية المستند إلى مفهوم العدالة التوزيعية ظهر اتجاه حديث يرفض أصحابه التمسك بأفكار العدالة الاجتماعية ويطالبون بالعودة إلى المفهوم التقليدي للعدالة بمعنى احترام القانون والحقوق التي يحميها.
المصدر: إسماعيل مقلد ومحمد ربيع (محررين)، موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، الجزء الأول، ص: 295-296.