عرض الرسالة:
موضوع رسالتي العلاقات الدولية العامة في الإسلام "قسم الحرب"، ذلك أني كتبتها واسم الحرب في كل سمع وعلى كل لسان والعالم جحيم يتلظى، فأحببت أن آخذ فيما يأخذ الناس، ولكن على نهج علمي مثمر يشبه العصر الذي نعيش فيه ويعالج أوضاع أهله على ضوء دراسات مقارنة من ذخائر الفقه الإسلامي الحافل ونظريات القانون الدولي الحديث، أردت أن أصنع من ذلك كله في حدود استطاعتي لسان صدق لو أتيح له أن يكون ذا صوت يسمع لأهاب بالناقمين على الحضارة الغربية الحاضرة ولأهاب بأرباب هذه الحضارة أنفسهم، أولئك الذين خلعوا شريعة الغابة، ولم يخلعوا نفوس وحوشها فلم يخفت للشكاة صوت أن هلموا، فهنا في الإسلام وتشريعاته وعند بنيه الغاية القصوى التي يرنو إليها الناس وتنبهر دونها الأنفاس، هنا العدالة الاجتماعية المطلقة، هنا دستور علوى مطرد الحياة يحكم القلوب والجوارح والخطرات أينما تولوا فثم قول الله ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾، وكنت أعلم أن الحرب لابد منتهية والسلام آت وأن الناس لابد متسائلون ماذا عساه يستقبل العالم من نظم الحياة بعد الحرب الضروس، وأنه لذلك ينبغى أن أجمع في دراستي إلى نظم الحرب نظم السلم، كما فعل رجال القانون الدولي الحديث وأن أنتهزها فرصة مواتية لأجعل من دراسة موضوع العلاقات الدولية بطرفيه حجة ماثلة على دحض فريتين كبيرتين، الأولى: أن الإسلام لم يعرض لهذا الفرع من فروع القانون والثانية: أن الإسلام عرض لهذا الفرع، ولكن تشريعه فيه متفاحش القسوة حتى ليعتبر خطرًا على المدنية، ولكن(١) كان الله أرحم بي وبالذين لابد أن يقرؤوا لي من أن يحمل علينا حمل بعير، فخار لي ألا أعدو قسم الحرب والخير فيما اختار الله..
كان لزامًا على الباحث في نظم الحرب باعتبارها من العلاقات الدولية أن يتعرف أولًا ما هذه الحرب، وأي أنواعها يدخل في نطاق البحث، وأيها لا يدخل، فبينا ذلك، وبينا أثر نظام الحكم الإسلامي فيه وكيف أقرت الحرب في الإسلام على أنها سنة طبعية وضرورة اجتماعية، ولكن مع نحو مهذب معقول، واكتفينا في التقديم للرسالة بهذا القدر، ثم قسمنا الرسالة نفسها إلى فصول أربعة ينتظم كل فصل منها عدة من مباحثها:
ففي الفصل الأول- وقد كنا تبينـا انحصار بحثنا في قتال دولة غير مسلمة - أثبتنا مشروعية هذا النوع من القتال وقارناها بمشروعية الحرب في القانون الدولي، ثم عقدنا بحثًا مبسوطًا لنعرف هل الحرب في الإسلام دفاع أو هجوم؟ وتخيرنا أنها دفاع، واستنتجنا أن الإسلام لم يقم بالسيف وإن كان يوجب التأهب الدائم للحرب حيطة وحذرًا وأنه أصلح النظام الحربي الذي يقوم على شهوة التسلط وقارنا هذا كله بحكم القانون الدولي وعمل غير المسلمين.
ثم لم ندع مشروعية القتال حتى حددنا نوعها مستخلصًا من مذاهب شتى ومقارنًا بنوع المشروعية في القانون الدولي، ولكن القتال المشروع في الإسلام لا يمكن أن يكون إلا في حدود مثله العليا، فهو لا ينشب قط من طريق الغدر واختيان المسلمين غيرهم، ولا يؤخذ الناس بشروره وبوائقه إلا من أجل الإصلاح، وبعد تعذر هذا الإصلاح في ظل السلام، ولذلك قامت في الإسلام نظريتا النبذ وإبلاغ المأمن قبل القتال على نحو أنبل من نظريتي "تغير الظروف" و"الإبعاد" المعترف بهما دوليًا، وقام في الإسلام مبدأ تبليغ الدعوة الذي يبدو مبدأ إعلان الحرب بجانبه مشوهًا مبتورًا ينقصه مـا في المبدأ الإسلامي من دقة، وضمان حتى أنه إذا ترك البلاغ فَعَلَى تاركه في الإسلام الجزاء الرادع، وضمان الأنفس والأموال، وإذا فعل فعلى فاعله إعطاء مهلة تتسع لتكوين رأى صحيح، ولا شيء من مثل ذلك قط في التشريعات الحديثة، وهذا هو ما تحدثنا عنه في بحث مقدمات القتال مقارنًا بتشريعات ابتداء الحرب عند الدوليين، وبذلك انتهى الفصل الأول.
وفي الفصل الثاني تناولنا بالبحث النظام الذي يتبع أثناء القتال فأثبتنا أن الإسلام هو واضع الأساس الخلقي في نظام الحرب، بينما ظلت الدول حتى بعد انبثاق فجر الإسلام بقرون طويلة تجرى في معاملتها على قاعدة أن الحرب لا قانون لها.
كما أثبتنا أن الإسلام سبق الشرائع كلها بتحديده المتحاربين بالقوى المتقاتلة فحسب دون العجزة والمدنيين، واستخلصنا ذلك من منازعات طويلة في كلام فقهائنا، وأبدينا ما نراه حكم الإسلام في طوائف تقوم بأعمال تتصل بالجيش المحارب كعمال مصنع الذخيرة وموظفي اللوازم ورجال البريد والأطباء والممرضين وبينا أحوالًا ستة يخرج فيها المدنيون من الأمن والعصمة المقررين لهم، قارنا ذلك كله بالتشريعات الحديثة.
ثم تناولنا وسائل القتال فقسمناها إلى شعبتين كبيرتين، الأولى: وسائل العنف الموجهة إلى الأشخاص، والثانية: وسائل العنف الموجهة إلى الأموال، ففي الشعبة الأولى فرقنا في الأشخاص بين المقاتلة وحدهم، والمقاتلة إذا اختلطوا بالمدنيين أو الأسرى المسلمين، وبحثنا ذلك كله بحثًا مقارنًا، وفي خلال هذا عقدنا بحوثًا مقارنة متتالية في طائفة صالحة من وسائل القتال المشروعة والممنوعة..
فتحدثنا عن السلاح الأبيض، القذائف الثقيلة، التفريق، قطع المياه الحرب البكتريولوجية والكيماوية(٢)، التجسس، وهنا بسطنا القول، فتحدثنا عن مظاهر اهتمام الشارع بالجاسوسية والمحاكمة على التجسس وعقوبة الجاسوس ومعينيه والاستعانة في الجاسوسية بغير المسلمين. ثم أردفنا ذلك ببحث القتل غيلة والاستئجار عليه وبينا اختلاف وجهة النظر فيه بين التشريعين الإسلامي والدولي الحديث وقضينا للإسلام، ثم نقلنا الحديث إلى وسائل الخداع الحربي فبينا مشروعية الخداع أثناء الحرب، وضربنا له الأمثال وعقدنا كلمة خاصة لكل مثال ذكرناه سواء كان الخدعة مشروعة أو ممنوعة.. فمن الخدع المشروعة إيقاع العدو في كمين واستعمال الألغام وهنا بينا ما نراه حكم الإسلام في مستحدثات أنواعها مقارنًا بحكم القانون الدولي.
ثم بحثنا مع المقارنة الحديثة من الخدع المشروعة أيضًا بذر بذور الشقاق في صفوف العدو والتحريض على الثورة وقيام حركات انفصالية وحرب الأعصاب، وما يتصل بها من الرقابة على الصحف وغيرها من وسائل النشر خلال الحرب.
ثم عطفنا إلى الخدع المحرمة فبحثنا من وجهتي نظر الشريعة والقانون التظاهر بالتسليم، أو بطلب المفاوضة، أو التزيى بزي العدو، أو اتخاذ شـاراته، أو محاكاة العدو في نداءاته الحربية، أعنى (استعمال البورى).
ثم تخطينا الخداع إلى غيره فتحدثنا عن الحصار ومشروعيته وتقسيمه إلى حربي وتجاري وعن استعمال النار والأسلحة النارية وافتراق النـاس فـي شأنها وحجاجهم، ومحصنــا مسألة القصاص الحربي، وبينا امتياز الإسلام في ذلك كله، وحكمه فيما تنص عليه لائحة الحرب البرية في المادة ٢٢ من تحريم استعمال المقذوفات وأدوات القتال التي تسبب آلامًا مبرحة لا داعي إليها، وقد اقتضانا ذلك تحقيق معنى المثلة وتوضيحه من غموض واضطراب، وتحقيق حكمها الشرعي، وتحكيمـه فـي موضوع البحث.
ثم انتقلنا إلى بحث الغازات السامة وسائر وسائل التسمم فمنعناهـا مـع المالكية، والتقينا بذلك مع التشريع الدولي الحديث، ولما فرغنا من بحث هذه الوسائل كلها في حالة انفراد المقاتلة عدنا إلى النظر في استعمالها إذا اختلط المقاتلة بالمدنيين، وانتهينا إلى أنه لا فرق بين الحالين، وبينا أن التشريعات الحديثة في ذلك أعنف، وحاولنا استخلاص حكم الإسلام في مسألتين عمليتين، الأولى: إنذار السكان المدنيين قبل الضرب، والثانية: تمكينهم من الجلاء إذا أرادوه.
ثم أعدنا النظر نفسه فيما يستعمل من الوسائل إذا اختلط العدو ببعض المسلمين أو توقى بهم كما يتوقى الفارس بترسه، فقدمهم بين يديه، ورأينا أن دم المسلم لا يباح إلا من ضرورة، وأن المكايد يجب إفسادها على مدبريها، وقارنا ذلك بأحدث النظم الدولية.
وهنا أخذنا في دراسة الشعبة الثانية أعنى وسائل العنف الموجهة إلى الأموال، فقسمناها إلى إتلاف ومصادرة، ثم بحثنا إتلاف الأموال الصامتة واختلاف الآراء فيه، وارتأينا منعه في غير حاجة حربية، وقارنا ذلك بنظرية "فاتيل" وبعض الاتفاقات الدولية، وكذلك فعلنا بإتلاف الحيوان، ثم تعرفنا على المصادرة وتتبعناها في مظانها من الفقه الإسلامي، واستخلصنا أن لا مصادرة في الإسلام بالمعنى المفهوم حديثًا أثناء الحرب على الإطلاق، غير أنا لما أتممنا دراستنا لمظــان المصادرة ببحث تملك غير المسلمين أموال المسلمين عليهم وهـو بحــث مستفيض خلصنا منه بحقيقتين كبيرتين:
الأولى: أن من حق الدولة الإسلامية أن تصادر أموال الأجانب التي حصلوا عليها في بلادهـا مـن غير الوجه المشروع.
والحقيقة الثانية: أن المصادرة بالمعنى الحديث إنما تسوغ في الإسلام على سبيل القصاص فحسب.
ثم التفتنا بعد ذلك إلى أثر الحرب في العلاقات السلمية من سياسية وتجارية وغيرهما، وأثرها في تملك أموال العدو..
ورأينا أن إيضاح أثر الحرب في العلاقات السلمية يحتاج إلى دراسة وافية لنظام التأمين في الإسلام، فدرسناه، وعرفنا كيف يقوم وكيف ينتقض، ومن ذا الذي يملك حق التأمين أو الإشراف عليه، ومن الذي يصح أن يحصل على مزايا الأمان وحصانته، وأين وإلى متى ثم لم ندع هذه المزايا وتلك الحصانة حتى حددناها تحديدًا يقوم على أساس البرهان والحجة، ويأخذ السبيل علــى العابثين بالإسلام وأهله، وقارنا ذلك ببعض أوضاع التأمين في القانون الدولي كجوازات السفر وجواز الأمان وورقة التأمين، ثم أفضنا في دراسة بعض أوضاع التأمين الهامة، فصورنا أولًا: أثر الحرب في العلاقات السياسية وما قرره الإسلام من تأمين الرسل والسفراء وما على المسلمين عامة من احترام هذا التأمين والتزام آثاره مهما تبدل حكامهم، وبينا كذب (جوانفيل) وخطأ (نيس) فيما زعما من أن صيانة الرسل والسفراء لم تكن القرن الثالث عشر الميلادي قائمة على أساس شرعي، وتعرفنا على حكم الإسلام في الامتيازات الواسعة التي يضفيها القانون الدولي على الممثلين السياسيين الدائمين، وفي التمثيل الدبلوماتي الدائم نفسه وفي تعطيل هذا التمثيل بمجرد نشوب الحرب..
ثم صورنا بعد ذلك أثـر الحـرب فـي العلاقات التجارية من جهتين، (الأولى): تجارة الصادرات، (والثانية) ضرائب الجواز (أي الضرائب الجمركية) ففي الناحية الأولى بينا أنه يمتنع تصدير آلات الحرب، بل وسائر تجارة الصادرات إلى بلاد العدو ورددنا على المتسامحين فيما عدا آلة الحرب، وقارنا ذلك بالمذاهب الدولية الحديثة..
وفي الناحية الثانية: تعرفنا على أساس فرض هذه الضرائب، وكيف تقررت في الإسلام وبينا هل تلزم الضريبة بلا شرط؟ وكم يكون مقدارها؟ ومن أي جنس هي؟ وهل تتقاضى عـن جميع أنواع المتاجر؟ وكمياتها؟؟ أو عن نوع دون نوع وكمية دون كمية؟ واخترنا منع دخول الخمر وسائر المناكر إلى بلاد الإسلام، وبينا المدة التي تجزئ الضريبة فيها وتفاوت الآراء في تقديرها، واختيارنا نحن، والفروق في شأن ضرائب الجواز بين أهـل الحـرب وأهل الذمة بما يصور الأثر الحربي فيها، ولم نخل شيئًا من ذلك من المقارنة بالتشريعات الحديثة ما وسعنا..
أما أثر الحرب في تملك أموال العـدو فقد دعانا الكشف عنه إلى بيان افتراق التشريعين الإسلامي والدولي الحديث في معنی الغنيمة، وضرورة عدم التقيد بمدلولها الضيق فيما نحن بسبيله. ثم قسمنا الأموال التي يستولى عليها المسلمون إلى عقار ومنقول، وجعلنا من العقار ما فتح عنوة وقهرًا، ومـا فـتـح تراضيًا وصلحًا، وما جلا عنه أهله، وبينا انتقال الملك في كل من هذه وبحثنا في جواز رده على أهله أو وجوبه كما يرى بعضهم، واخترنا على غير ما نهوى ﴿ومن أضل ممن اتخذ إلهه هواه﴾ أن قسمة المغانم عقارها ومنقولها شيء محتوم إلا أن تسخو عنها نفوس الغانمين في بحث فضفاض أودعناه ردودنا على أفذاذ من أهل العلم كأبي عبيد والفـذاري والقرافي وابن القيم، كما أودعناه مناقشتنا للإمام الشافعي فيما رتبه على الرأي المختار من وجوب نقض القسمة إذا هو وقع باجتهاد بعض ولاة الأمر، وقارنا ذلك كله بالتشريع الدولي الحديث، ونبهنا على تفرد الإسلام برعاية أثر العقيدة الصحيحة في حماية أموال أهلها التي تصادف في البلاد المحاربة، وبينا اختلاف الناس في ذلك، وما يصنع بمال المتجدد في الإسلام إذا قتله ذووه غضبًا لدينهم.
ثم دحضنا الوصمة التي لم يزل أعداء الإسلام يصمونه بها في شأن الكتب والمكاتب التي تصاب في بلاد العدو وما لاقت من تلف وضياع أضر بالحياة العلمية، وعاق نموها، وزيفنا التهم الموجهة في ذلك إلى المسلمين الأولين..
ثم ختمنا الفصل الثاني بكلمة قصيرة عن الهدنة إلى أجل قصير(۳) ثم عقدنا الفصل الثالث لانتهاء الحرب والآثــار المترتبة عليه، وقدمنا له بتمهيد وتعداد جملى لنهايات الحرب، وهي الإسلام والصلح والفتح والتحكيم والانصراف عن القتال..
ثم تناولنا هذه النهايات وآثارها بالبحث المقارن واحدة واحدة. فذكرنا الإسلام وحفظه حرمات المسلم كاملة حتى فيما يتعلق بزوجته وصغاره، وانتزعنا ذلك من محاورات استدلالية سريعة. ثم ذكرنا انتهاء الحرب بالصلح وحكمه في الإسلام، وكيف يتـم مـن طريق المفاوضات ويقبل الانضمام اللاحق، وتكون له قوة الإلزام على أي نحو ابرم وكيف تحتوي الوثيقة المأثورة فيه على أجزاء المعاهدة الأربع المعروفة في التشريعات الحديثة، وكيف ينقسم إلى صلح لإنهاء الحرب إنهاء مؤقتًا وصلح لإنهائها إنهاء دائمًا..
وتحدثنا عن القسم الأول والشروط المعتبرة لصحة عقده فيما يتعلق بالأهلية وبموضوع العقد وبصُلب المعاهدة وبأجلها ومدتها(٤)، وقارنا ذلك كلـه بالتشريعات الدولية الحديثة..
ثم تناولنا بالحديث الصلح الدائم وحددنا عقد الجزية الذي يمثله، وتلمسنا أشبه الأوضاع الدولية الحديثة. وعقدنا بحثًا مطولًا لتعريف الطوائف التي يمكن أن تصالح على الجزية صلحًا دائمًا، وهنـا تسامعنا فيه حجاج الناس، ثم تخيرنا أن نظام الصلح الدائم أعني نظام الذمة سماحة عامة لجميع الطوائف المخالفة. ثم تبينا أثار هذا الصلح الدائم، ومتى يسقط عن المسلمين واجب الحماية الذي يفرضه، وحكم الإسلام في التعويضات الحربية(٥) بالمرونة الحازمة التي أبداهـا فقهاؤنا عند ضعف المسلمين وقوة عداتهم..
ثم ذكرنا انتهاء الحرب بالفتح وآثاره وما ينحو نحوه من النظم الحديثة، وفرغنا بعدئذ للتحكيم فأثبتنا مشروعيته شريعة وقانونًا ورددنا على منكريه من الخوارج وتعرفنا المحكمين وأهليتهم وعددهم وانتخابهم والقواعد التي يطبقونها وأصول الإجراءات التي يتبعونها، وقرار التحكيم الذي يصدرونه، وماله من قوة الإلزام، كل أولئك مع المقارنة بالتشريعات الحديثة، ثم لاحظنا أن في نظام التحكيم الإسلامي مخالفات ينبـو بها عن التحكيم بالمعنى الدولي الحديث، وتساءلنا هل يمكن أن يكون في الإسلام تحكيم بهذا المعنى الحديث، وأجبنا بالإيجاب.
ثم ختمنا نهايات الحرب ببحث الانصراف عن القتال شريعة وقانونًا..
وبذلك خلصنا إلى الفصل الرابع والأخير وموضوعه معاملة الأسرى والجرحى والقتلى..
ففي معاملة الأسرى بينًا من وجهتي نظر التشريع الإسلامي والدولي الحديث علاقة الأسير بأسره، ومعتقلات الأسرى وإقامة أودهم وكسوتهم ومحاكمتهم واستكراههم على إفشاء الأسرار الحربية، وتفريق الإسلام بينهم وبين الأهليين في البلاد المفتوحة وإجماله في معاملة هؤلاء الأهليين وتأمينه إياهم تأمينًا اجتماعيًا فعالًا بما يتضاءل بجانبه ما تعمله الدول الظافرة اليوم من حمل بعض المؤن إليهم، ثم تعرفنا نهاية هؤلاء الأسرى، فتناولنا بالبحث الاستدلالي المقارن مصايرهم فيما يرى فقهاؤنا مصيرًا مصيرًا، فذكرنا القتل ورفضناه بالحجة الناطقة إلا في حالات القصاص الحربي، وذكرنا الاسترقاق واعتراف الأديان والشعوب به في أصقاع الأرض، وكيف عالجـــه الإسلام بالإصلاح والتهذيب وضيق من نطاقه إلى حد أنه لم يعترف به إلا على أن يكون نظامًا من نظم القصاص الحربي، وعمدنا إلى الطعنات الطائشة الحمقاء التي وجهها الكاردينال (لافيجرى) إلى الإسلام في تشريع الرق فرددنا سهامه في نحره..
ثم استعرضنا مقالات أهل العلم في إطلاق سراح الأسرى بلا مقابل، وتخيرنا مشروعيته على ما يسمى بكلمة الشرف أو لا على شيء أصلًا. وقارنا ذلك وقارنا ذلك بالتشريعات الحديثة..
وكذلك فعلنا بتبادل الأسرى أو إطلاق سراحهم بفدية مالية أو مــا يشبهها فاستخلصنا جواز ذلك كله من منازعات طويلة، وبينا فيما يتعلق بتبادل الأسرى هل يجوز التفاضل العددي أولا..
ثم عرضنا لبحث اتخاذ الأسرى ذمة للمسلمين وانشعاب أراء الناس فيه، وقررنا جواز الدخول في معاهدة دولية لتحديد معاملة الأسرى بنوع خاص من أنواع المعاملة المشروعة كالإطلاق بلا مقابل، وأن الأسير الذي يعتنق الإسلام يتأثر مصيره بإسلامه، حتى ليصير حرًا طليقًا إذا تبين خلوص نيته وصدقه، وقارنا ذلك كله بالتشريعات الحديثة..
وهنا عقدنا بحوثًا تكميلية ثلاثة:
الأول: في الاستسلام للأسر، بينـا فيه دقة التشريع الإسلامي وتوفيقه المحكم بين مصلحة الجند ومصلحة القتال نفسه ووقوفه موقفًا وسطًا، بينما ذهبت الدول الحديثة إلى طرفي الإفراط والتفريط.
الثاني: في بيان التعاليم التي يأخذ بها الإسلام بنيه إذا وقعوا في أسـر العـدو فيما يتعلق بالإفضاء بأسرار الدولة والاشتراك مع العـدو فـي عمل مــا، والفرار من الأسر والخطة التي يتبعها الأسير المسلم إذا أطلق العـدو ســـراحه بشرط أو بلا شرط..
الثالث: في واجب المسلمين نحو من يقع منهم في أسر العدو، واحتججنا لذلك كله، وناظرنا فيه وقارناه بالمذاهب الدولية الحديثة .. ثم أفردنا لمعاملة الجرحى والقتلى في الإسلام مقالتين رحيمتين اقترنت فيهما الإنسانية المعقولة بالدليل الناطق، وبحثنا بنوع خاص انتشال الغرقى وإسعاف الجرحى وتشويه القتلى ودفنهم ووقف القتال لنقلهم وتبادل المعلومات عنهم وانتهاب ما على جثثهم، وقارنا تشريع الإسلام في ذلك كله بالنظم الدولية الحديثة..
ثم ختمنا الرسالة بكلمة مفردة وجيزة أشرنا فيها إلى وعورة الطريق الذى سلكنا ومبلغ العناء الذى تجشمنا، وإخلاصنا للحقيقة التي عنينا بالبحث عنها في غمار الأشتات والمفارقات، والتمسنا لأنفسنا في ذلك كله من هذه الإطالة عذير صدق؛ بل شاهد اضطرار.
رابط تحميل ملف العرض
___________
* نُشر هذا العرض في مجلة المسلم المعاصر، في السنة التاسعة عشر، العددان 73-74. والعرض للرسالة العلمية التي حصل مؤلفها د. إبراهيم عبد الحميد عنها على درجة الدكتوراة عام 1945، وهي لم تنشر إلا قريبا عبر دار الإفتاء المصرية (ضمن أعمال المؤلف الكاملة) بعد سعي دؤوب من الأستاذين الجليلين: د. جمال الدين عطية، ود. محمد كمال الدين إمام (رحمهما الله)!
** ولد د. إبراهيم عبد الحميد سلامة بمحافظة الدقهلية بمصر سنة 1910م، وحصل على ليسانس الشريعة من كلية الشريعة جامعة الأزهر عام 1936م، وعين مدرسًا بالكلية حتى حصل على درجة الدكتوراه عام 1945م، وكان موضوع الرسالة: "العلاقات الدولية في الإسلام". واستمر في التدريس بالكلية حتى سافر في بعثة الأزهر عام 1951م إلى جامعة كمبردج بإنجلترا، وحصل منها على الدكتوراه الثانية وكانت بعنوان: "موقف الزوجة في الفقه الإسلامي"، وعُين على إثرها مديرًا للمركز الثقافي الإسلامي في لندن. ثم عاد للقاهرة عام 1956م، واختير سنة 1963م مديرًا للمركز الثقافي الإسلامي بواشنطن، إلى أن اعتزل بعد ذلك المناصب وتفرغ للتدريس بالكلية حتى سافر إلى الكويت 1968م باحثًا في الموسوعة الفقهية الكويتية، وأنجز لها العديد من الأبحاث المتخصصة في فقه المعاملات، ثم عاد أستاذًا بالدراسات العليا بكلية الشريعة والقانون قسم السياسة الشرعية حتى أحيل للتقاعد سنة 1975م، وعمل خمس سنوات كأستاذ غير متفرغ حتى 1980م. توفي بعد مغرب يوم الجمعة الأول من رمضان سنة 1989م عن عمر يناهز 79 عامًا، وترك عددًا من المؤلفات أكثرها في أبواب الفقه والسياسة الشرعية. نقلا عن موقع تفسير للدراسات القرآنية، عبر هذا الرابط: https://2u.pw/uxzBqWdd.
- لم أكد أفرغ من قسم الحرب حتى بدا لي أن دراسة قسم السلم ستضاعف حجم الرسالة مضاعفة فاحشة وسيتطلب من الوقت مالا أملك.
- نسبة إلى الكيمياء كيماء، ويجوز فيها زيادة ياء قبل المد أو القصر والهمزة ليست أصلية حتى يجب إبقاؤها كما قال (وغير ما ذكر صحح) لأنهما من كوم وسوم.
- بعدما أشرنا إلى أن فترة الجند في الإسلام بإزاء الأغراض في البلد المفتوح عن تلك المخازي التي ترتكبها اليوم جنود الدول الظافرة وبذلك انتهى الفصل الثاني.
- ثم تحدثنا عن الآثار المترتبة عليه.
- التي كادت تلتحق في العرف الحديث بالشروط الأساسية لكل صلح. ولم ننس التنويه بعد.