مقدمة:
لا تزال “الدولة القومية” واحدة من أهم الإشكاليات التي تواجه العالم بأسره، إذ لا تزال موضوعًا بحثيًّا يشغل الباحثين والمفكرين باختلاف انتماءاتهم وثقافاتهم وحضاراتهم. وإذا كان السياق الثقافي والتاريخي هو المحدد الرئيس للمشكلة التي تمثلها الدولة بالنسبة للباحث، فإن ذلك هو ما يفسر التباين الواسع في مناهج النظر وأشكال التناول لهذه الظاهرة. إن الناظر إلى الكتابات التي تناولت ظاهرة الدولة القومية الحديثة لا يكاد يجد اتفاقًا بين دارسيها على ماهيتها فضلًا عن مفهومها أو تعريفها وكذا وظائفها وأدوارها، ويمكن القول في هذا السياق إن دراسة “الدولة القومية” قد تنازعتها مجموعة من الاتجاهات والمداخل المتباينة والمختلفة؛ ففي دراسة الدولة كانت هناك نماذج كبرى Paradigms، وكانت هناك مدارس فكرية ومذاهب نظرية أو اتجاهات مذهبية، وكان هناك تيارات، كما كانت هناك نظريات وأطر نظرية، وكانت هناك مفاهيم عديدة، ونماذج Models متنوعة، ورؤى متعددة، ومنهجيات وأيديولوجيات وأدوات تحليلية، وقضايا جوهرية، وموضوعات فنية، ومعارك فلسفية.. وغير ذلك كثير. ومعنى ذلك أنه كانت هناك -في دراسة الدولة- تشابكات وتداخلات، كما كانت هناك تناقضات وتعقيدات. والحقيقة أن الدولة في واقعها العملي والتطبيقي لم تكن أبدًا أقل سوءًا من حال دراستها، سواء كان ذلك في تناقضاتها أو اضطراب حالتها ومشكلاتها(1).
إن الحديث عن الدولة كمفهوم دائمًا ما يُقصد به ظاهرة الدولة القومية كما تطورت في الفترة من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، وكما نظَّر لها مفكرون من قبيل مكيافيلي وبودان وهوبز وهيجل. وقد تعدَّدت وتنوَّعت تعريفات هذا المفهوم بين التيارات الفلسفية والمدارس الفكرية المختلفة، ولا يمكن القول بأن هناك اتفاقًا على تعريفها بين الدارسين، وهذا التعدُّد والتنوُّع يمكن إيجازه في اتجاهات أربعة هي الأكثر شيوعًا لفهم وتعريف الدولة الحديثة(2):
- الدولة باعتبارها الحكومة، أي مجموعة القيادات والأفراد الذين يتولون مواقع اتخاذ القرار وسلطاته في النظام السياسي.
- الدولة باعتبارها نظامًا قانونيًّا مؤسَّسيًّا أو باعتبارها بيروقراطية عامة أو جهازًا إداريًّا ينظر إليه ككل متجانس.
- الدولة باعتبارها الطبقة الحاكمة أو التعبير المؤسِّس عن مصالحها.
- الدولة باعتبارها نظامًا معياريًّا متكاملًا للقيم العامة.
ومن ثم؛ فمما لا خلاف عليه بين المفكرين والدارسين أن الدولة القومية ظاهرة ومفهوم يمكن تحديد أصولهما ومؤشرات نشوئهما. فهي من الناحية الجغرافية والتاريخية ظاهرة أوروبية تطوَّرت بين القرنين السادس عشر والعشرين. وهي من الناحية القانونية مبنية على أساس فكرة القانون بصفته أنظمة عامة لا شخصية. والدولة من الناحية التنظيمية مقترنة بالوحدة والمَرْكَزَةِ والتمايُز الوظيفي (ما يُسَمَّى بـ ”النمط القانوني – العقلاني” مع جهازه البيروقراطي وموظفي الخدمة المدنية فيه). أما من الناحية الاقتصادية، فقد جاء صعودها بوجه عام مصاحبًا لتطوُّر الرأسمالية وصعود البورجوازية، بما في ذلك الحاجة إلى توسيع السوق والسيطرة عليها، والحاجة إلى نشر عملية التسليع وتوحيدها قياسيًّا داخلها، بحيث شملت العمل البشري كذلك(3).
أمَّا عن انتقال هذه الدولة إلى العالم العربي والإسلامي فيمكن تحديده مع بزوغ القرن التاسع عشر، إذ اصطدم الفكر العربي لأول مرة بنموذج حديث للدولة والنظام السياسي قادم من أوروبا، لا عهد له به في تجربته السياسية التاريخية الخاصة، ولا في الصورة التي تكوَّنت لديه عن أوروبا طويلًا قبل ذلك الصدام العظيم الذي أطلقته حملة نابليون على مصر عقب ثورة فرنسا السياسية الكبرى. كان -أي الفكر العربي- قد تعرَّف بأوروبا في الماضي في مناسبات كثيرة مختلفة: إبان الحروب الصليبية، وفي الأندلس بعد سقوط مملكة غرناطة، وفي المغرب مع احتلال إسبانيا لمدينتي سبتة ومليلية بدءًا من القرن السادس عشر، وفي حروب المغرب والبرتغال أيام الدولة السعدية، وفي سواها من سوابق الاحتكاك والصراع. غير أن أوروبا القرن التاسع عشر كانت شيئًا آخر مختلفًا تمامًا. كانت قد أنجزت ثورتها الصناعية الأولى، وامتلكت المدفع، وبنت الجيش القوي الضارب، وبدأت تقضم العالم جغرافيًّا، ومنها بلاد العرب والمسلمين(4).
حمل اكتشاف هذه الأوروبا الجديدة من طرف النخب العربية، واكتشاف دولتها ونظامها السياسي الحديثين بخاصة، بكيفيَّتين مختلفتين من خلال معاينة إدارتها العسكرية والسياسية والإدارية في البلاد العربية الواقعة تحت احتلال جيوشها، ثم من خلال معاينتها في عقر دارها، وتدوين تلك المعاينة في نصوص انتهى معظمها إلى الأدب السفاري أو أدب الرحلة. والمعاينتان اللتان ذكرنا كانتا أول مظهر للعلاقة المباشرة بها، قبل أن تبدأ النخب الفكرية في تأليف صلات ببعض نصوص مفكري الغرب الأوروبي، وفي تكوين صورة عن الخلفيات الفكرية (= الوجه الآخر لأوروبا) التي صنعت لها أسباب انتهاضها الحضاري وعوامل الشوكة والغلبة(5). وهذه الحالة في مجملها هي ما أطلق عليه الكثير من المفكرين، الصدمة الحضارية.
وعلى هذا لا بد أن نوضِّح أن العقل العربي والمفكرين المسلمين لم يتعرَّفوا بادئ الأمر على الدولة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة. ولم يكن شأنهم هنا سوى رد فعل لما كان قد وقع فعليًّا؛ ذلك أنه كان قد بدأ عمليًّا إدخال تنظيمات، وعلى فترات متباعدة (تتعلق بالجيش أو بالتعليم أو بالقضاء أو غيرها) مبتورة من جهاز متكامل (الدولة)؛ أضف إلى ذلك عدم إدراكهم لمنطقه المتكامل (نظرية الدولة) وهو ما حدث في فترة حكم محمد علي في مصر، وبداية من عصر محمود الثاني في الدولة العثمانية، وكان لهذا البتر المزدوج نتائجه فيما بعد. وهذه التنظيمات حين إنشائها -كما يرى طارق البشري- خضعت لمنطق الدفاع والشعور بالخطر الداهم المتمثل في الاستعمار والغزو الأجنبي لبلاد المسلمين. فالنظم الغربية كما يقول: “صممت فكرًا ونماذج وأجهزة في عصور أمن تام من أي خطر خارجي، وقد صار إعمالها في المجتمعات العربية الإسلامية في عهد المخاطر وفي عصر السيطرة الأجنبية على هذه المجتمعات”(6). وهوما انعكس وأثر بالضرورة على آليات عملها ومنطق تكوينها وبنائها ووظائفها.
واتساقًا مع رأى البشري، يرى مفكر عربي آخر هو علي أومليل، أنه إذا كان وراء نشأة الدولة الوطنية في البلاد الأوروبية حركة اجتماعية، فإن البلاد الإسلامية تطلعت إلى إقامة هذه الدولة كرد فعل دفاعي ضد التدخُّل الأجنبي. وكان وراء هذا التطلُّع سؤال أساسي: ما مصدر قوة البلاد الأوروبية؟ وما السر في انحطاط المسلمين؟ هذا السؤال الذي صار المسلمون يطرحونه منذ أواخر القرن الثامن عشر لم يُطرح بمجرد أن كان هناك غزو أجنبي لبلادهم، بل لأن هذا الغزو من طينة لم يعهدوها. فالمسلمون قديمًا لم يطرحوا مثل هذا السؤال حين غزتْهم أوروبا وحين أخرجهم المسيحيون من الأندلس. ولذا نجد الغزالي مثلًا وهو يرد الفعل على الغزو الصليبي يرجع إلى البضاعة المأثورة؛ فيقيم مشروعًا لإصلاح إسلامي مكتفٍ بذاته دون حاجة إلى الالتفات إلى ما عسى أن يكون عند الغير. أما في عصر الإسلام الحديث، وإذا استثنينا بعض الحركات الإصلاحية الدينية التي ترعرعت خارج المناطق الحضرية كالوهابية والمهدية والسنوسية، فإن اقتباس تنظيمات الغرب -أو على الأقل ما عسى أن يكون مصدر قوته المادية- صار دعوةً مألوفةً عند دعاة الإصلاح سواء أقروا بالاقتباس أو برَّروه بتبريرات مختلفة(7). وعلى هذا بدأ الاستيراد وأخذنا في النقل.
من هنا تتحدَّد الإشكالية الرئيسة وسؤال هذه الورقة، وهو هل يمكن تبيئة الدولة القومية الحديثة في تربة العالم العربي – الإسلامي، وإخضاعها بتكويناتها وهيكلها للشريعة الإسلامية بحيث يصح وصفها بالدولة الإسلامية، أم أن هذا غير ممكن وخاصة في سياق التعارض الحاد بين الإسلام الذي يفرض شريعته حاكمة لحياة الإنسان وبين الدولة التي لا تقبل أن تكون محكومة بغير ذاتها، والتي وصفها الكثيرون في هذا السياق بأنها قد تألهت وأصبحت إله العصر الحديث(8). اختلفت الآراء والأفكار حول هذه الإشكالية بين اتجاهات متباينة يعنينا منها في هذا المقام اتجاهين؛ الأول: يقول باستحالة الأسلمة وأن الدولة القومية لا يمكن أن تكون إسلامية خاضعة لشريعة الإسلام وقيمه الحاكمة. بينما يرى الثاني أن الدولة هي أداة في يد من يحكم، ويمكن أن تتبنَّى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع وصياغة القوانين، ومن ثم يكون نظام الدولة السياسي ونظام الحكم إسلاميًّا. يمثِّل الاتجاه الأول وائل حلاق، بينما يمثل الثاني المفكر المصري الراحل طارق البشري.
وعلى هذا فإن الورقة تعتمد المنهج المقارن، والمقارنة هنا ستكون بين اتجاهين في تناول مسألة “أسلمة الدولة القومية”. وتعد المقارنة بالنسبة للعلوم الاجتماعية جزءًا أساسيًّا من البحث العلمي، بل هي بؤرة وجوهر المنهج العلمي -على حد تعبير ألكسي دي توكفيل- فالتفكير بصورة مقارنة أمر بديهي، تقوم عليه أسس معرفة الإنسان منذ طفولته، ومن ثم فقد مارسه علماء الاجتماع والباحثون في العلوم الإنسانية على مدار التاريخ، فالمقارنة هي بديل عن التجربة في العلوم الطبيعية وتؤدِّي كثيرًا من أهدافها(9). ويمكن تحديد أهداف عملية المقارنة في التالي(10):
- الأهداف المعرفية: المقارنة طريقة عامة في التفكير لنعرف ونميِّز ونقوِّم أفعالنا وأفعال الآخرين كأمم وأفراد، وبها يبدأ البشر خطوات تعليمهم الأربع الأولى من حب استطلاع، وإدراك أنماط، وحصر حالات وتصنيفها، وتحديد التشابهات والاختلافات. ومن ثم فأول أهداف المقارنة تحقيق المعرفة وتوسيعها.
- الأهداف العلمية والمنهجية: تتعدد أهداف المقارنة ذات الطبيعة العلمية والمنهجية طبقًا لتعدد مراحل البحث العلمي، ونوعية وطبيعة الإشكالات التي تواجه العلوم الاجتماعية عامة.
وعليه يمكن القول إن المقارنة في هذه الدراسة تسعى لتحقيق النوع الأول من الأهداف، فهي تسعى لسبر أغوار مشروعين فكريين متقابلين، لتحقيق المزيد من الفهم حول ظاهرة معقَّدة ومشكِلة، لا تزال تواجه العقل العربي المعاصر. ونروم من وراء ذلك الإسهام في الجدل القديم المتجدد حول الدولة وعلاقتها بالإسلام، وهو جدل يهدأ ثم لا يلبث أن يشتعل باستمرار مع كل حدث يصيب العالم الإسلامي؛ من قبيل ثورات الربيع العربي 2011، أو حتى الانتكاسات والهزائم كالهزائم المتكررة للدولة العربية أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى طوفان الأقصى وما تلاه من عدوان إسرائيلي سافر على غزة ولبنان وسوريا 2023/2024. وأخيرًا تنقسم الدراسة إلى مبحثين؛ يتناول الأول طرح وائل حلاق بينما يتعرض الثاني لفكر البشري ثم خاتمة نعرض فيها الاستنتاجات والخلاصة.
المبحث الأول: الدولة الإسلامية دولة مستحيلة.. أطروحة وائل حلاق
تنطلق أطروحة حلاق من مقولة رئيسة مفادها: “أن مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثِّله الدولة الحديثة”(11). فالدولة الحديثة تمتلك بنيتها الخاصة المتفرِّدة بطبيعتها، حيث تمثِّل كيانًا سياسيًّا مجهولًا للإسلام في كل الأزمنة والأمكنة إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، إلى أن فُرِضت على العالم الإسلامي من خلال المشروع الاستعماري. وإضافة إلى كونها أجنبية، ثمة معطى آخر زاد من درجة غُربة الدولة عند المسلمين: ذلك أن الدولة نشأت في سياق عام وشامل للفصل بين الرؤية الكونية الأخلاقية والأخلاق الوجودية من ناحية، وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي البارد من ناحية أخرى، هذا الواقع الذي تلعبُ فيه الأخلاق دورًا ثانويًّا في أحسن الأحوال(12).
يعتمد حلاق في دراسته للدولة على مجموعة من المفاهيم والمناهج النقدية وكذا إسهامات بعض الفلاسفة كميشيل فوكو وكارل شميت وجورجيو أجامبين. ولعل أبرز المفاهيم التي يعتمدها حلاق هو مفهوم “النطاق المركزي” الخاص بكارل شميت. ويعني هذا المفهوم أنه عندما يصبح نطاقٌ ما مركزيًّا، فإن مشكلات النطاقات الأخرى تحل في إطار النطاق المركزي، وتُعد هذه المشكلات ثانوية، إذ يأتي حلها بصورة تلقائية عندما تحلُّ مشكلات النطاق المركزي. ومن ثم إذا كان المشروع المركزي للتنوير / الحداثة كان استبدال الأخلاق المحلية والعرفية والتقليدية وكل أشكال الإيمان المتعالي بأخلاق نقدية وعقلانية قُدِّمَتْ كأساس لحضارة كونية. وهذه الأخلاق الجديدة العلمانية والإنسانية الملزمة لكلِّ البشر تضع معايير كونية لتقويم المؤسسات الإنسانية. هذا هو المشروع الذي تشكَّلت على أساسه الماركسية والليبرالية بكلِّ ما فيهما من تنوُّعات، وهو ما يشكِّل أساسًا لكلٍّ من الليبرالية الجديدة واتجاه المحافظين الجدد، كما يشترك فيه مفكرو عصر التنوير كافة، على الرغم من تشاؤمهم بخصوص الاحتمالات التاريخية لنجاحه، أو نظرتهم إليه على أنه شيء بغيض. وقد شكل هذا المشروع النطاق المركزي الذي تُحل من خلاله المشكلات الرئيسة والفرعية كافة، وهو الذي وجَّه طرائقنا الحياتية ولا يزال، سواء كان ذلك إلى الأفضل أم إلى الأسوأ(13).
ومن خلال هذا المفهوم يوضِّح حلاق أن النطاق المركزي لمشروع الحداثة الذي نتجت عنه الدولة القومية يتنافى تمامًا مع نمط الحكم الإسلامي حيث تكون الشريعة فيه هي النطاق المركزي، وهي التي يجري على أساسها تقويم النطاقات الفرعية (العلمي – الاقتصادي – السياسي – الاجتماعي). ومن ناحية أخرى يوظف حلاق توليفة أخرى يجمع فيها بين نظريات عديدة ليصنع بها سردية متماسكة تعبر عن تصوُّره للدولة؛ فيجلب بيروقراطي فيبر، وقانوني كلسن، وسياسي شيمت، واقتصادي ماركس، وهيمني جرامشي، وثقافي فوكو، ليضع أسس تصوُّر لماهية الدولة. وعلى هذا يمكن التعرُّض لأطروحة حلاق حول الدولة من خلال فهمه لماهية الدولة أولا، ثم علاقتها بالشريعة ثانيًا.
أولًا: ماهية الدولة عند وائل حلاق:-
لا يمكن فهم الدولة وفقًا لحلاق بدون إدراك نشأتها التاريخية وأصلها، فتاريخ الدولة هو السيرورة التي تتكشَّف من خلالها الدولة كمفهوم مجرَّد وكمجموعة من الممارسات. وتمتلك الدولة الحديثة خصائص خمسًا لا يمكن تصوُّر هذه الدولة بدونها، هي: (1) تكوين الدولة كتجربة تاريخية محددة ومحلية إلى حد بعيد (2) سيادة الدولة والميتافيزيقيا التي أنتجتْها (3) احتكار الدولة للتشريع وما يتعلَّق بذلك من احتكار ما يسمَّى العنف المشروع (4) جهاز الدولة البيروقراطي (5) تدخُّل الدولة الثقافي الهيمني في النظام الاجتماعي، بما في ذلك إنتاجها الذات الوطنية. وعليه فإن الأمة باعتبارها جماعة سياسية ومفهومًا سياسيًّا، إضافة إلى نظم تعليمها ومؤسساتها التعليمية، هي أجزاء أصيلة من هذه الهيمنة الثقافية(14) وبشيء من التفصيل نتعرض لهذه الخواص الخمسة.
وفقًا لحلاق؛ فالاسم المعياري للجهاز الحاكم في الحداثة هو (State) في اللغة الإنجليزية و(Etat) في اللغة الفرنسية و(Stato) في اللغة الإيطالية و(Staat) في اللغة الألمانية. وكما هو ظاهر فإن هذه المصطلحات لها جذر مشترك، كما أن هذه مصطلحات لم تظهر قبل القرن الخامس عشر في أوروبا لتدلَّ على نظام حكم معيَّن. وبوضوح فإن هذا النظام كان أوروبيًّا محضًا، وكان محصلة ونتيجة لتطوُّرات خاصة وفريدة حدثت في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وكانت هذه التطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، والأهم من ذلك أنها كانت ربما عسكرية، كان انهيار النظام الإقطاعي وصعود المُلك المطلق أمرًا ضروريًّا لهذا التطوُّر، بالإضافة إلى ظهور المدن والنقابات والأشكال الجديدة للتبادل الاقتصادي والإدارة البيروقراطية(15).
إن المؤسسات السياسية الحديثة التي طوَّرتها أوروبا كانت نتيجة مقاومة قوية ضد السلطة المطلقة والمطالبات الإلهية لملوك أوروبا، كما كان ذلك أيضًا نتيجة لردود الفعل ضد الإساءات طويلة الأمد التي أحدثتها الكنيسة الكاثوليكية، والإساءات التي ارتُكبت بحق أعداد كبيرة من سكان أوروبا باسم الله. ولكي تُكبح سلطات الملك والكنيسة الشريرتين فقد كان من الضروري بناء نظام يحد سلطات الملكية ويسلب من الكنيسة أحقية دعواها بالتدخل في السياسة نيابة عن الله، وكانت الحريات الجديدة المكتسبة ضد هاتين القوتين المتعاظمتين سياسية في البداية، ولكنها تُرجمت فيما بعد إلى حريات اقتصادية خلقت أشكالًا جديدة من تكوين الثروة، وهي الأشكال التي أنشئت للعمل جنبًا إلى جنب مع السياسة، وهذا هو السبب في أن الدولة الحديثة بحكم تعريفها تُشكِّل بشكل حتمي دولة كولونيالية(16).
وهكذا خلقت هذه التحولات كيانًا سياسيًّا يُعَدُّ انعكاسًا للمسيحية الكاثوليكية ضمن أشكال علمانية، وهو ما يتوافق مع طرح كارل شميت الذي مفادهُ أن جميع المفاهيم والمؤسسات السياسية المهمة التي بحوزتنا الآن داخل منظومة الحداثة هي صيغ مسيحية معلمنة، أي إن كل هذه التطوُّرات خلقتْ أشكالًا علمانية فريدة للسياسة المسيحية، التي أمسيْنا نطلقُ عليها اسم الدولة الحديثة، ومن هنا فإن الدولة هي تجربة أوروبية متفرِّدة لا تمتُّ بصلة للتجارب السياسية أو الاجتماعية التي عرفها الإسلام(17).
يعد مفهوم السيادة أحد المكونات الضرورية للدولة الحديثة. تنبني السيادة سياسيًّا وأيديولوجيًّا حول المفهوم المتخيَّل الخاصِّ بإرادة التمثيل. وتنهض فكرة السيادة على فكرة أن الأمة التي تجسِّد الدولة هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها. من ناحية، تتأسَّس السيادة داخليًّا على العنف المؤسَّس قانونيًّا؛ بمعنى أنها تتحقَّق من خلال دستور سياسي – قانوني، فالسيادة بهذا المعنى تقوم وتسقط بالعنف “القوة” المؤسَّس قانونيًّا، لأنها لا تسقط إلا إذا قامت ثورة أو تغيير عنيف يحدِّد سيادة جديدة عبر تغيير دستوري وقانوني كامل، كما أن هذا التغيير يحتاج إلى القوة كي يحافظ على بقائه. ومن ناحية أخرى لا تصبح السيادة ذات قيمة إلا إذا حصلت على اعتراف الدول الأخرى، وهي تعني دوليًّا اعتراف الدول بسلطة كل واحدة منها ضمن حدودها، وبأن لكل منها شرعية تمثيل أمتها في تعاملاتها مع الدول الأخرى، سواء كان ذلك بصورةٍ فردية أم جماعية. وقد أثبت هذا التخييل أنه من النجاح والقوة إلى درجة أن نظامًا يعلم الجميع أنه لا يمثِّل شعبه، بل يضطهده، يظلُّ مُخَوَّلًا بالتحدث بصورة شرعية بالنيابة عن مواطنيه / شعبه. ولا يمكن إلا لثورة أو تغيير دستوري جوهري في البلد أن يتجرَّأَ على إحلال حكومة مقبولة دوليًّا كصاحبة للسيادة محل استبداد سابق(18).
إن السيادة كما يطرحها حلاق هي التي تُعطي الدولة ألوهيَّتها، فلا نظام أعلى من الدولة داخل حدود الأمة، وقانونها هو قانون الوطن، ولا يمكن أن تَبطل أو تستأنف أحكامها سلطة أعلى، فهي في النهاية التعبير عن الإرادة السيادية. ومن ثم لكي تظهر السيادة إلى حيِّز الوجود فهي لا تحتاج إلى دولة فحسْب، بل شرطًا عامًّا مسبقًا يتيح قيام بناء متخيَّل هو الأمة، ومن هناك فإن الدولة ذات السيادة هي التي تخلق أمتها، وبهذا المعنى يرى حلاق أن السيادة تشترك مع التوحيد في بعض الصفات(19):
أولا: هي كلية القدرة، فكل الأشكال السياسية متاحة لها.
ثانيًا: أنها تملأ الزمان والمكان تمامًا، فهي حاضرة بالقدر نفسه في كل لحظة من حياة الأمة وفي كل موقع ضمن حدودها.
ثالثًا: أننا لا نعرفها إلا من خلال ما تنتجه، فنحن لا ننتبه أولا إلى السيادة الشعبية ثم نسأل عن إنجازاتها، ونحن نعرف أن الدولة يجب أن توجد لأننا ندركها كتعبير عن إرادتها، ونستنبط حقيقة الذات من اختبارنا ما تخلَّق من منتجات.
رابعًا: نحن لا نقدر على إدراك تلك الدولة ذات السيادة من دون اختبارها كقضية معيارية تقدم نفسها كتأكيد للهوية، لذا نحن نفهم أنفسنا كجزء وكمنتَج لتلك الدولة ذات السيادة، ونرى أنفسَنا فيها؛ أي هي التي تحدِّد وتشكِّل هويَّتنا.
وبهذا تصبح الدولة إلهًا يخلق الذوات الحديثة (المواطنين) من خلال الإرادة السيادية التي تدرك بكونها مصدرًا لكلٍّ من القانون والأمة. فالقانون الذي يعكس الإرادة السيادية وبالتالي الإرادة التي تخلق الذات وتشكلها على صورتها، لا يزيد كثيرًا عن كونه إحلالًا واستبدالًا للتصور المسيحي للإرادة. وكما هو الحال مع كثير من الأفكار الحديثة، أبقي على أشكال السلطة المسيحية السابقة على عصر التنوير من خلال مجموعة بديلة من المصادر ذات القدرة السلطوية المساوية لها. وفي هذا الفهم يستند حلاق على كارل شميت وقوله: “إن كل المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة عن الدولة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة ليس بسبب تطورها التاريخي فحسب -حيث تحوَّلت من اللاهوت إلى نظرية الدولة التي أصبح بها الله القادر على كل شيء على سبيل المثال، هو المشرع القادر على كل شيء- بل أيضًا بسبب بنيتها النظامية”(20). والخلاصة هنا أن مبدأ السيادة جعل الدولة هي مرجعية ذاتها ولا يمكن لها أن تخضع لأي شيء يتجاوزها (أي جعلها إلهًا في ذاتها وعلى من يخضعون لها).
إذا كانت الدولة الحديثة تؤسِّسها الإرادة السيادية، وإذا كانت الإرادة السيادية تتجلَّى من خلال القانون، فإن فرض القانون يصبح تحقُّقًا لتلك الإرادة. فإرادة من دون أداة قسْر تدعمها ليستْ قوةً أو سلطةً على الإطلاق؛ وهي لا شيء من وجهة النظر السياسية. لقد رأينا أن الدولة (وكذا القانون) هي غاية نفسها، وأنها لا تعرف، بفضل دستورها ذاته، سوى نفسها وميتافيزيقيَّتها فحسْب. هكذا ترسم الدولة وحدها حدود العنف، كما أن معيارها هو الذي يحدد نوع ومستوى العنف الذي يطبَّق على الخارجين على إرادتها. بعبارة أوضح؛ الدولة هي الفاعل الأعلى في تشريع العنف، ذلك أنه حتى لو افترضنا أن بعض العقوبات المشروعة إلهيًّا يجب تطبيقها أو تبنِّيها، فإنها تُتَبَنَّى كخيار للدولة وكتعبير عن إرادتها. فالدولة هنا هي التي تقرُّ الإرادة الإلهية وليس العكس. وبعبارة أكثر وضوحًا، فهي تتعامل باعتبارها رب الأرباب. وإذا كانت الإرادة السيادية هي الإله الجديد كما رأينا، فلا إله إذن إلَّا الدولة. ولذلك فإن الحق الحصري في ممارسة العنف والتهديد به لإنفاذ الإرادة القانونية السيادية هو أحد أهمِّ سمات الدولة الحديثة. والتركيز هنا ليس على الأسلوب القديم لقدرة الحاكم على إنفاذ العنف، بل على العلاقة الفريدة بين العنف وميتافيزيقيا الإرادة السياسية(21).
- الجهاز البيروقراطي العقلاني:
وفقًا لماكس فيبر الذي يعتمده حلاق في هذه النقطة، فمن الخصائص الرسمية للدولة الحديثة أنها تمتلك نظامًا إدرايًّا وقانونيًّا قابلًا للتغيير بالتشريع، وهذا النظام البيروقراطي يمتلك سلطة ملزمة، وتلك السلطة الملزمة تسيطر على كلِّ ما يقع داخل إقليم الدولة السيادي، ويتميَّز النظام الإداري للدولة بأنه جزءٌ سياسيٌّ من النظام القانوني، ويتميَّز كذلك بالقدرة على السيطرة، بالطوعية والتنظيم، وهذه الطوعية عقلانية، أي إنها تمنع أن تُحَدَّدَ بواسطة دين أو عرف، وما دام النظام البيروقراطي يتميَّز ببنية غير شخصية، فإنه يعامل الجميع على قدم المساواة بما فيهم أعضاء الجهاز البيروقراطي أنفسهم. غير أن حلاق يعترض على هذه النقطة ويرى أنه لا يوجد أي طرح عقلاني يدلُّ على الوجود الحقيقي لتلك المساواة بين النظام البيروقراطي العقلاني والمنتمين إليه، وبين الجموع التي في ذلك النظام الاجتماعي.
من ناحية أخرى، فإن الإضافة التي يقدِّمها حلاق حول الجهاز البيروقراطي وهو هنا يستدعي طرح فوكو حول الحكمية (Governmentality) وممارسات الخطاب الذي تشكل الذوات. هي أن لبيروقراطية الدولة تأثيرًا واسع النطاق يتجاوز تأثير أي تنظيم سياسي (هيئات وأحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية وخلافه). فتنظم بيروقراطية الدولة في الواقع البنى البيروقراطية الفرعية وتأمرها وتخضعها لقواعدها العقلانية، كما تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فتنظم المجتمع المدني من تسجيل المواليد إلى توثيق الوفيات، وكل ما هو بينهما تقريبًا؛ التعليم والتعليم العالي والصحة والبيئة والرفاه والسفر والعمل والسلامة أثناء العمل والضرائب والصحة العامة والمتنزهات والترفيه وخلافه. بعبارة أخرى، لا تتدخل البيروقراطية في المجال الخاص والمجتمع المدني فحسْب، بل تحدِّد معايير الجماعة وتصوغها، بل إنها تشكل الجماعة والذوات الفردية التي تتكون منها وتعيد تشكيلها باستمرار. وهي بذلك تنتج جماعتها الخاصة؛ جماعة الدولة(22).
يرى حلاق أن التماسك والقوة الداخليين لأي دولة لا يعتمدان على قدرتها في تنظيم المجتمع وحده، وهو ما تفعله الدولة بواسطة الدستور والقوانين، بل يعتمدان أيضًا على التوغُّل فيه ثقافيًّا. ولكي تحقِّق الدولة ذلك فإنها تعمد إلى تدمير أي كيانات داخلها تتحلَّى بسلطة مستقلَّة ذاتيًّا، فتدمير هذه الكيانات أو الوحدات هو بداية الهيمنة الثقافية للدولة، ثم تعمد الدولة إلى إعادة تركيب وتشكيل الوحدات الاجتماعية – الثقافية التقليدية السابق وجودها على الدولة لتحقِّق شكلًا من أشكال الوحدة الثقافية وواحدية الانتماء. وهي في ذلك تعتمد على مدارس الدولة والتعليم من ناحية، لتنشأَ نخبة علمية نموذجية ويعاد إنتاجها كمجال ثقافي يستجيب لتوغُّل الدولة في النظام الاجتماعي(23).
ومن ثم فإن كانت هذه هي الدولة عند حلاق، فلماذا لا يمكن أن تكون إسلامية؟ هنا نتطرَّق للنقطة الثانية في طرح حلاق حول علاقة الدولة بالشريعة الإسلامية..
ثانيًا: الدولة والشريعة:
إن الشريعة الإسلامية كما فهمها حلاق هي ممارسة خطابية· مثَّلت في الأصل مركَّبًا معقَّدًا من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للنظامين الاجتماعي والسياسي؛ ممارسة خطابية تقاطعت فيها هذه العلاقات وتفاعلت فيما بينها وأثَّرت فيها بطرقٍ لا حصر لها (رغم أن معرفة الكيفية التي يتمُّ بها ذلك على وجه الدقَّة في مواضيع بعينها بحاجة إلى دراسات متعدِّدة في مستوى بحثي أكثر تخصُّصًا). مركَّب تضمَّن كل الأشياء التالية: مؤسسات متنوعة اشتغل بعضها على بعض ويقاوم بعضها بعضًا و/ أو يعاضد بعضها بعضًا؛ فقد شملت الكتابة والدراسة والتدريس والتوثيق؛ وشملت أيضًا التمثيل السياسي باسم «القانون»، واستراتيجية لحماية نفسها (أي الشريعة) من الاستغلال السياسي أو أي استغلال آخر؛ تحويل تطبيق القانون إلى ثقافة، حيث دمجت المقولات الثقافية في الفقه وفي الإجراءات القانونية وفي القواعد الأخلاقية وفي أشياء كثيرة أخرى؛ مجتمعًا أخلاقيًّا بدرجة عميقة بحيث لا يمكن لقانونها إلا أن يُطاع، إذ يُعتبر من المسلَّمات أنَّ الشريعة مؤسسة نظريًّا على افتراض كون المخاطبين بها هم جماعات متخلِّقة على الدوام؛ وكذلك منظومة فكرية، كان فيها الفقهاء والقضاة مربِّين وكتابًا ومفكِّرين، وكانوا من جهة أخرى مؤرِّخين وعلماء عقيدة وأدباء وشعراء (إن لم يكونوا كيميائيين وفيزيائيين وعلماء فلك)، ومن جهة أخرى كانوا رجال أفكار أسْهموا في تشكيل مجموعة معقَّدة من العلاقات التي خلَقت أو أفْضت إلى خلق واقع سياسي وأيديولوجي معيَّن، بينما في أوقات أخرى قاموا بما يحوزوه من حق بمواجهة السلطة؛ تنظيمًا لاقتصاديات الزراعة والتجارة عمل على حفظ الحياة المادية والثقافية وجسَّر بالضرورة الهُوَّةَ بين مختلف “طبقات” المجتمع(24).
لم تكن الشريعة إذن مجرد قوانين أو نظام قضائي ولا حتى مجرد مذهب فقهي بعينه، بل كانت -وفق حلاق- ممارسة خطابية ربطت نفسها بنيويًّا وعضويًّا بالعالم من حولها بطرق عمودية وأفقية، بنيوية وخطية، اقتصادية واجتماعية، أخلاقية وقيمية، فكرية وروحية، إبستمولوجية وثقافية، نصية وشعرية. وعلاوة على كون الشريعة مثَّلت محصِّلة لكلِّ هذه العلاقات، فإنها قد ميَّزت نفسها عن القانون الحديث من طريق آخر أشد حَسْمًا: أنها قد نبعت وترعرعت في قلب النظام الاجتماعي الذي أتتْ لكي تخدمه في المقام الأول. فقط في تجلِّيها النصوصي التقني (أي: كتخصُّص علمي) كانت بحكم الضرورة ذات مضامين نخبوية، ولا شيء منها تقريبًا سوى ذلك كان نخبويًّا(25). وفي هذا السياق قدَّم حلاق مقارنة بين الشريعة ونظام عملها في المجتمع، وبين القانون والنظام البيروقراطي في الدولة الحديثة، عن طريق المقارنة بين المتشرِّعين -أي مجالس القضاء- وبين المكاتب البيروقراطية الحكومية الحديثة، فالأولى لم تكن مُنفكَّة عن المجتمع معزولةً عنه، بل منخرطة في المجتمع، إذ كانت تُقام في المساجد والأسواق والبيوت، فلم تكن هناك فجوة بين المحكمة وبين الناس، فاكتسب المجتمع كله خبرة بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وكان المُفتون يقدِّمون الاستشارات الفقهية للناس دون مقابل مادي، إذن كان الفقه متاحًا للجميع، وهو ما أتاح نشر المعرفة الفقهية للجميع؛ أي أتاح ذلك “شعبنة” الفقه، فكان المجتمع المسلم منغمسًا في منظومة القيم التشريعية، وكانت المحكمة مرتبطة بالمجتمع منغمسة في فضائه الأخلاقي، وهو ما أدَّى إلى نشأة مجتمع يحكم ذاته.
أما القانون في الدولة الحديثة، فهو على الضد من ذلك، فالمؤسسات القانونية منعزلة عن الناس بالمكاتب البيروقراطية الحديثة، وكذلك ترى القائمين على تلك المؤسسات اليوم -المحامين والمستشارين وغيرهم- يقدمون للناس الاستشارات القانونية بمبالغ باهظة، وهو ما أدَّى إلى اغتراب الناس عن القانون والنظام القضائي في الدولة الحديثة، وجهل الناس بحقوقهم وواجباتهم. والقانون في الدولة الحديثة -على الضد من الشريعة- يعامل الناس ككتلة واحدة منسجمة ومتجانسة ومتشابهة، بوصفهم مواطنين من صنع الدولة القومية، فترى القانون يعامل المواطنين بروح التكويد القانوني والقولبة من غير أن يُراعي الاختلافات البشرية. أما الشريعة فلم تهتم بالوحدة أو المجانسة، لأن عنايتها تنصبُّ على الفرد، ولذا لا تحتاج الشريعة اللغة التجريدية أو التكويدية التي يعتمد عليها القانون في الدولة الحديثة.
وعلى هذا يرى حلاق أن الدولة والشريعة بينهما تناقض تام بحيث يستحيل التوفيق بينهما للأسباب التالية(26):
أولًا: أن كليهما قد صُمِّمَ لتنظيم المجتمع، وحلِّ النزاعات التي تهدِّد بتشويش النظام الذي أرساه كلٌّ منهما بالرغم من كون نظام كلٍّ منهما يختلف تمامًا عن نظام الآخر.
ثانيًا: الأكثر أهمية من ذلك أن كلاهما مُنتِج تشريعي نشط؛ ينتج القوانين (الدولة) أو المبادئ التشريعية (الشريعة) اللازمة للتعامل مع النظام الاجتماعي. وبسبب هذا التقارب النسبي بين وظيفتيهما وجدت الدولةُ والشريعةُ نفسيهما في وضعية تنافسية. وبالرغم من أنه كان بمستطاع الشريعة أن تتيح الفرصة لقدر من تدخُّل السلطة السياسية – وقد فعلت؛ فإنها قد فعلت ذلك بشكلٍ يعتبر ثانويًّا وهامشيًّا بعكس القانون الذي فعل ذلك بشكل جوهري. ومن ثم إذا كانت الشريعة متقبِّلة لمنافسة السلطة التنفيذية، فإنها مع ذلك لم تكن تسمح بأي قدر معتبر من التدخُّل في التشريع، أمَّا الدولة في المقابل فقد طوَّرت تدريجيًّا درجةَ تحمُّل ضعيفة جدًّا للتنافس التشريعي والتنفيذي والبيروقراطي.
ثالثًا: على الصعيد النظري والعملي، فإن كلًّا من الشريعة والدولة يدَّعي لنفسه السيادة المطلقة. فبحسْب نظرية السياسة الشرعية على الأقل تَخضع السياسةُ (الحكم) -المعادل النسبي للدولة القومية الحديثة- للشريعة. لقد كانت غاية وجود السياسة أصلًا هي خدمة القانون (الشريعة) وليس العكس. هذه السيادة التشريعية التي حافظت على وجودها في مستوى النظرية والتطبيق ضمن نطاق الشريعة هي واقع لا يمكن له أن يتناغم بحال مع احتكار الدولة الحديثة لهذا الضرب الرفيع من السيادة (سيادة التشريع). إن دولة بلا سيادة تشريعية ليست بدولة على الإطلاق.
رابعًا: تعمل كلٌّ من الشريعة والدولة في اتجاهين متعاكسين؛ فبينما الدولة تتَّسم بأنها جبرية وتدفع نحو المركزية الشمولية والمطلقة، كانت الشريعة وبشكل واضح تمارس الطرد بعيدًا عن أي مركز.
خامسًا: الشريعة منظومة عامية (شعبوية)، انبثقت من جماعات متخصِّصة ومؤسسات تشريعية متجذِّرة اجتماعيًّا، لقد كان القلب النابض للنظام التشريعي يقبع في وسط النظام الاجتماعي وليس فوقه كما هو الحال في الدولة الحديثة.
سادسًا: بالرغم من كون الدولة والشريعة يشتركان في الهدف العام المتمثِّل في تنظيم المجتمع والقضاء في النزاعات؛ فإن كلًّا منهما يتوخَّى من وراء تحقيق هذا الهدف نتائج مختلفة تمامًا بالنسبة إلى الدولة، فهي تستهدف بشكل جوهري تحقيق التجانس (الدمج) التام بين المواطن والنظام الاجتماعي، ولإنجاز هذا الهدف تنخرط الدولة بشكل ممنهج في عمليات المراقبة والضبط والعقاب. فمؤسساتها التعليمية والثقافية مصمَّمة بحيث تُنتج “المواطن الصالح”؛ أي: المواطن المطيع للقانون، الخاضع لقيم النظام والانضباط، العامل والمنتج اقتصاديًّا. إن الضبط مقرونًا بالعقاب جزءٌ لا يتجزَّأ من بنية الدولة الحديثة وإحدى سماتها الفريدة. إن منتجها: “المواطن الصالح” هو ذلك المتفانِي في خدمة الدولة بوصفها أبًا للجميع. ومن هنا كان احتكارها للعنف واستخدام القوة. في المقابل كان هم الشريعة الأول الحفاظ على النسيج المجتمعي والحفاظ على إنسانية الإنسان من خلال منظومة أخلاقية قيمية تربط الدنيا بالآخرة، والعقاب بالتوبة والإصلاح.
إن التناقض بين الدولة والشريعة بلغ حدًّا دفع بالأولى لهدم الأخيرة تمامًا حتى يتسنَّى لها التسيُّد والسيطرة، إبان دخول الحداثة الكولونيالية على العالم الإسلامي، فقد وضعت الحداثة نصب أعينها ثلاثة أهداف(27):
الأول: الهدم التدريجي لمختلف المؤسسات التقليدية القضائية وغيرها، واستبدالها في الآن نفسه تقريبًا بنماذج أوروبية.
الثاني: فصل الشريعة وفقهها عن بنيتهما السوسيو-إبستمولوجية التحتية من خلال عملية التقنين التي وضَّحتها تجربة الهند البريطانية أكثر من غيرها. إذ تمَّ انتزاع الفقه تمامًا من ركيزة المعرفة الاجتماعية، تلك التي ضمنت مبكِّرًا سلامة العملية القانونية بما تتضمَّنه من تعدُّدية تشريعية ومن تعدُّدية الأهداف القضائية التي لَبَّتْ مختلف الضرورات الاجتماعية المحلية والأخلاقية وما سواهما.
والثالث: توظيف السلاح الذي لولاه ما كان للهدفين السابقين أن يتحقَّقا؛ أي التقنيات الثقافية. لقد كان توجيه مثل هذه التقنيات بكثافة نحو العالم اللاأوروبي هو الذي حافظ على الكولونيالية التشريعية البريطانية وغير البريطانية، بل وعزَّزها أيضًا.
والخلاصة أن الشريعة والدولة كينونتان متناقضتان، لكلٍّ منهما نطاقه المركزي أو أن كلًّا منهما نطاقٌ مركزيٌّ لا يقبل إلا أن يهدم الآخر ولا يمكن أن يندمج معه إلا أن يُخضعه. وبهذا يكون مركَّب (دولة حديثة “حداثية” إسلامية) مستحيل التحقُّق.
المبحث الثاني: الدولة وتطبيق الشريعة .. أطروحة طارق البشري
اخْتُصَّ طارق البشري بطريقة في البحث والدراسة أسْماها “منهج النظر” للتعرُّف على الظواهر والقضايا التي ترتبط بعالم العرب والمسلمين، تعرف بالوصف الدقيق لمفاصل الظواهر والظاهرة في حال حركتها وسيرورتها، حتى إذا ما حدث الوعي بالظاهرة في مدخل يعتمد الوصف المتكامل للظاهرة، بدأ يستنبط السُّنَّة الحاكمة الظاهرة منها والكامنة، المؤثِّر منها والفاعل، وشبكة الظاهرة العصبية المحرِّكة لها والمنبِّهة لكلٍّ منها، وعلى فهم السُّنَّة والوعي بها يتأسَّس الوعي بكلِّ كمالاته، وعي بالذات ووعي بالغير ووعي بالموقف، فتبدو الأمور واضحةً من بعد غموض، وجليَّة من بعد الْتباس، تفكُّ اشتباك عناصرها مـن غير التغاضي عن كلية الظاهرة وتفاعل مكوناتها وعواملها، وتحدِّد الأصيلَ النابعَ منها والتابع لها، وتتبصَّر العام في الظاهرة مما يستحقُّه من تعميم، والخاص فيها ممَّا يجدر به من تخصيص، وفي سياق يتغيَّا تشريح الظاهرة وتشريحها من اختلاط ظواهر أخرى أو أحكام سابقة(28).
إن النظر في تناول البشري لمسألة الدولة يكشف عن منظومة من المفاهيم حكمت تناوله لهذه الظاهرة، لعل أبرزها: النظام السياسي – دوائر الانتماء – الجامعة الوطنية – نظام الحكم – جهاز الدولة – المؤسسات السياسية والدستورية – المجتمع الأهلي – الوافد والموروث أو الأصالة والمعاصرة – الأمة – الجماعة السياسية. في إطار هذه المفاهيم يمكن النظر في كيفيَّة فهم البشري للدولة القومية وعلاقتها بالشريعة الإسلامية. هذا إلى جانب إدراك أن البشري في كتاباته كان يتحرَّك بين التاريخ والواقع بصورة مرنة بحيث يشبه الطائر المحلِّق في السماء، ينظر إلى الواقع من الأعلى محاولا استيعابه ثم يسْبر أغوارَ التاريخ ليبحث عن السُّنن المُنشأة والمحرِّكة للوقائع والأفكار. هذا مع كثرة تنبيهه لضرورة التفريق بين الثابت والمتغيِّر وبين الأصول والفروع، لحفظ الأصول والثوابت من عبث الأفكار الوافدة والمستوردة مع الاجتهاد في الفروع والمتغيِّرات لملاءمة احتياجات العصر والواقع. غير أن الأهم من هذا كله أن البشري كان في المقام الأول “رجل دولة” إلى جانب كونه مفكرًا ومؤرخًا، إذ قضى البشري جُلَّ عمره في المؤسسة القضائية المصرية حتى وصل إلى منصب نائب رئيس مجلس الدولة. وهو مكون هام لا ينبغي إغفال أثره في نظريته حول الدولة.
أولًا: ماهية الدولة عند طارق البشري:-
يفهم البشري الدولة على أنها شكل من أشكال التنظيم السياسي المعبِّر عن جماعة سياسية تعيش في إطارٍ جامع وتجمعُها مصالح عامة مشتركة. وهذا التنظيم هو الذي يعبِّر عن الإرادة العامة التي تكْفل للمجموع تحقيقَ أهدافه وحماية مصالحه. وقد تطوَّر هذا التنظيم مع تطوُّر المجتمعات البشرية وتزايُد أعدادها وتعقُّد أنماط المعيشة. ويرى البشري أن فكرة التنظيمات هي مشترك إنساني واجتماعي وسياسي، وُجدت في المجتمع الإسلامي قديمًا، وكذا طوَّرتها أوروبا مع عصر النهضة. فيقول: وقد انشغل فكر “التنظيمات”، أي الفكر السياسي والإداري باستنباط خير الوسائل لتكوين أجهزة النشاط العام بصورة تطبعها بالطابع العام، وتحرِّرها لأقصى درجة ممكنة من ذوات الأفراد العاملين فيها. انشغل بذلك الفكر الإسلامي وخاصة على عهد الماوردي وأبي يعلى الفراء وغيرهما منذ القرن الرابع الهجري، كما انشغل بها الفكر الأوروبي والغربي في القرنين الماضييْن بشكل لم يكن له مثيل من قبل، وذلك بسبب التضخُّم والتنوُّع الهائلين في أحجام الجماعات المختلفة وأنشطتها(29).
غير أن البشري ينشغل كثيرًا بمقارنة هذه “التنظيمات”؛ أشكالها وتطوراتها والأُسس الفكرية التي قامت عليها سواء في الفكر السياسي الإسلامي أو الفكر الأوروبي الحديث، ويجد أن أهم المبادئ التي قام عليها التنظيم السياسي، هي(30):
- مبدأ “النيابة” التي تكفل تعدُّد الأفراد مع “واحدية” الشخص، أو تكفل تمثيل الفرد الواحد لأشخاص عديدين. والصورة الأولى التي نجدها هنا هي عندما يعيَّن شخصٌ للقيام بوظيفة معيَّنة، ولا يكفي جهده الفردي لاستيفاء كل ما هو مطلوب منه، فيلجأ “للإنابة” أي تعیین مساعدين له ينظرون في الشؤون الموكولة له حسب نظام لتوزيع العمل إمَّا أن يكون محلِّيًّا فيختص كنائب بإقليم معين، أو يكون نوعيًّا، حيث يختصُّ بنوع معيَّن من الأعمال. والصورة الثانية للنيابة، أن أفراد جماعة معيَّنة لا يستطيعون بجمعهم أن يباشروا مجتمعين شؤونهم العامة، فيكلون هذا الشأن إلى واحد أو أفراد قليلين منهم يقومون به نيابة عنهم، والمثل الواضح لهذه الصورة هو مبدأ الانتخاب، سواء كانت الجماعة هي المجتمع أو أية جمعية أو شركة أو نقابة.
- مبدأ توزيع العمل الواحد بين العديد من الأجهزة والمؤسسات، فلا يستقل فرد أو مؤسسة واحدة بالعمل العام، إنما يتناول العملَ العامَّ الواحدَ عددٌ من الأجهزة يتداوله كلُّ واحد منها في مرحلة محدَّدة من مراحل تكوُّنه حتى يصدر في النهاية، ولكلٍّ من هذه الأجهزة سهم شائع في تكوينه وإصداره. وهذا التوزيع للعمل الواحد على عديد من الأجهزة والمؤسسات، يمكن أن يؤدِّي إلى قدرٍ من التباطؤ والتعقيد في الإجراءات وفي تحريك الأعمال. ولكنه من ناحية أخرى، يُمكن من مشاركة تخصُّصات فنية كثيرة ومتنوِّعة في إعداد العمل ودراسته من وجوهه المتعدِّدة، كما أنه يحفظ العمل العام من أن يكون مستوعَبًا في إرادة فردية واحدة أو في إطار النظرة المحدودة لجهاز واحد، ويجعل مجالات السلطة موزَّعة على العديد من المؤسسات.
وفي هذا الإطار يجد البشري أن التنظيمات الحديثة التي أنتجتْها أوروبا قد انتهت إلى تحديد ثلاث جهات يتوزَّع بينها العمل العام أو النشاط العام، بحيث يكون من يصدر القرار أو يصوغ الإرادة العامة غير من يُنفذ هذه الإرادة غير من يشرف على صحة تطبيقها، هذه التنظيمات هي(31):
- المؤسسة التشريعية: وهي مصدر القرار العام، وتتكوَّن بطريقة تمكِّنها من أن تقوم بهذه الوظيفة، إذ يكْفل لها أسلوب اختيار أعضائها أن تكون على علاقة مباشرة بقوى الرأي العام الموجودة في المجتمع، وتمارس عملها بإجراءات تُتيح لها أن تكون بقدْر الإمكان جهازًا متَّصلًا بالرأي العام خارجها، عن طريق اتصال أعضاء هذا الجهاز بالمؤسسات ذات الشأن في المجتمع، وفي الغالب ما يكون أعضاء هذه المؤسسة التشريعية متساوين في أوضاعهم ومراكزهم داخل هذه المؤسسة دون أن تقوم بينهم علاقات رئاسة، فالغالب في أسلوب بناء هذه المؤسسات أنه بناء أفقي وليس بناءً رأسيًّا هرميًّا، والإشراف والرقابة هنا لا يملكها رئيس على مرؤوس، ولكن يملكه المجموع على الفرد، فهي تقوم بالتبادل والتداول، وكل فرد خاضع لإشراف الباقين، ويساهم معهم في الإشراف على غيره.. وهكذا.
- المؤسسة التنفيذية: وتتعلق بالإدارة والتنفيذ، وتخضع في عملها للسياسة التي تقرِّرها الهيئة التشريعية، فهي أداة لتنفيذ هذه السياسة وأداة لإدارة العمل اليومي، ومؤسسة التنفيذ تُبنى بطريق هرمي رئاسي؛ حيث تقوم رئاسة مفردة أو قليلة العدد من الأشخاص، وتقوم هي باختيار الأشخاص في الوظائف الأدنى نزولًا من قمة الهرم إلى أسفله وقاعدته العريضة. وحركة الدفع تَرِدُ من أعلى إلى أسفل، فالسياسات تُرسم في المستويات الأعلى كما أن الإشراف والرقابة يأتيان من المستويات الأعلى للمستويات الأدنى منها وهكذا. وهذا هو أسلوب التشكيل الذي يتلاءم مع الوظيفة التنفيذية التي تأتي بعد اتخاذ القرارات ورسم السياسات. ولذلك تعتمد على إصدار الأوامر للتنفيذ، وهذا هو شأن الوزارات والمصالح المختلفة وهو كذلك الشأن بالنسبة لأجهزة الضبط كالشرطة والجيش.
- المؤسسة الثالثة هي القضاء وتختلف نظمنا القائمة في طريقة تعيين القضاء ولكن يبقى أنه جهاز يراقب الشرعية ويقضي بها سواء في تعاملات الأفراد أو في عقاب المجرمين أو في رقابة نشاط السلطات العامة. وهو يتكوَّن من وحدات متماثلة في الأساس يتوزَّع العمل عليها حسب التوزيع المحلي للأعمال في المناطق المختلفة، أو التوزيع النوعي الذي تنشأ به محكمة لكلٍّ من أنواع القضايا المدنية والجنائية والتجارية.. وهكذا.
إلا أن البشري بعد هذا التناول وبعد الإقرار بأن هذا الشكل التنظيمي هو الذي يسود العالم كله الآن بما فيه العالم الإسلامي، يرجع إلى التاريخ الإسلامي لينظر فيما كان لدينا من تنظيمات سياسية. فيجد أن النظام السياسي الإسلامي لم يعرف توزيع السلطة بهذا الشكل “الحداثي”، لأن أسس النظام الإسلامي تختلف اختلافًا جذريًّا عن أُسس النظام السائد الآن، من حيث إن النظام الحديث نظام وضعي لا يعترف بشريعة أو شرعية للحكم منزَّلة من السماء، في حين أن النظام الإسلامي يبدأ من مقولة أساسية هي مصدرية السماء لتشريع الأرض. وبهذه المقولة الأساسية استقامت في الإسلام خريطة متميزة في توزيع السلطات.
فإذا نظرنا إلى وظيفة الإمام وسلطته في النظام الإسلامي، نجد أن الوظيفة الأساسية للإمام هي حراسة الدين وسياسة الدنيا، فالإمام هنا حارس وسائس وهي معان أقرب إلى العمل التنفيذي وإلى الواجبات التي تُلقى على مسؤول التنفيذ بالمصطلح الذي يُستعمل حاليًّا لما يُسَمَّى السلطة التنفيذية. وعند جمهور مجتهدي الأمة تنعقد الإمامة بالبيعة، والبيعة دائمًا تصدر للإمام على أساس أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيِّه. فهي بيعة مشروطة دائمًا، وشرطها يعنى أن سلطة الإمام سلطة مقيَّدة وأنها تجري في إطار نظام قانوني مضروب عليها من أحكام التشريع الإسلامي المنزَّلة. ويرجع البشري إلى الماوردي لينقل عنه سلطات الإمام كما حدَّدها الأخير، وكذا وظائف الوزراء “وزير التفويض” و”وزير التنفيذ” ليستدلَّ البشري بذلك على أن الفكر والواقع الإسلامي عرف أشكالًا من السلطة التنفيذية تقوم بنفس الوظائف -أو قريبًا منها- التي تؤدِّيها السلطة التنفيذية المعاصرة(32).
أما السلطة التشريعية، فإن البشري يلاحظ أن فقهاء المسلمين لم يتعرَّضوا لهذه السلطة بالشكل المألوف الآن، ذلك أنهم لم يكونوا يبحثون عن جهة تقوم بهذه الوظيفة، لأنها في نظرهم كانت قائمة فعلًا وهي تتمثَّل في القرآن والسُّنَّة. وهنا وجه تمييز أساسي بين التنظيم السياسي المستمدِّ من أُسُسِ الشرعية الإسلامية وبين التنظيم الذي ينبني على أُسُسِ النُّظم الوضعيَّة. وفي نظر فقهاء الإسلام ومن واقع التجربة التاريخية للنُّظم الإسلامية، يتبيَّن أنهم نظروا لهذا الأمر بحسْبان أن للدولة الإسلامية قانونًا أساسيًّا إلهيًّا شرعه الله بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فحيث وجد في القرآن أو في السُّنَّة نَصٌّ يصدق حكمه على وضع معيَّن أو حالة مخصوصة وجب على كلِّ امرئٍ أن يطبِّقه وشرعيَّته في التطبيق مستمدَّة من أصل نزوله بالقرآن الكريم أو صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم. دون أن يتطلَّب موافقة أو اعتمادًا أو تصديقًا من جهة ما. وهو واجب النفاذ يمتثل له الكافَّة وعلى رأسهم إمام المسلمين وعمَّال دولته، بل إن إطاعة المسلمين لهم مشروطة باتِّباع هؤلاء أحكام القرآن والسُّنَّة، وأصل شرعية وجودهم أن يحرسوا هذه الأحكام. هذا هو ما يمكن أن يُطلق عليه بالتشريع الأساسي المبتدأ الذي يتمثَّل في أحكام القرآن والسُّنَّة أو (التشريع من الدرجة الأولى)(33).
ولمعالجة القضايا المستحدثة استحدث الفقهاء وظيفة “الإفتاء” للتعامل مع النوازل، وهو ما يمكن تسميته بالتشريع من الدرجة الثانية. أمَّا بالنسبة للقضاء فإن النظام الإسلامي يتصوَّر الوظيفة القضائية جزءًا من الولاية العامة التي يمارسها «الإمام» وذلك حسبما نعرف من وقائع النظم الإسلامية وحسبما يثبت فقهاء الأحكام السلطانية، وقد كان الخلفاء الراشدون يقضون بأنفسهم فيما يتنازع فيه الناس من أمور. كما أن للإمام أن يعيِّن القضاة وله أن يسمح للولاة والأمراء في الأقاليم أن يعيِّنوا القضاة في الأقاليم التي يتولون عليها. غير أن القاضي لا يحكم وفق قانون وضعتْه الدولة أو السلطة التشريعية وإنما وفق اجتهاد القاضي واعتماده مدونات الفقه والمذهب الفقهي الذي يتبعه. لذا كانت السلطة القضائية مستقلَّة بدرجة كبيرة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية(34).
إن الفارق الأهم الذي يبرزه طرح البشري أن الدولة الحديثة تستولي على السلطات الثلاثة ولا يمكن فيها تحقيق استقلال بين السلطات بالشكل الذي كان موجودًا في نظام الحكم الإسلامي. فالدولة في الخبرة الإسلامية كانت تتشكَّل أساسًا من السلطة التنفيذية، أمَّا الجانب القانوني فكان مصدره القرآن والسُّنَّة، وكلٌّ له علماؤه وفقهاؤه المعترف بهم أهليًّا بما يفتونه ويجتهدون في حَلِّ مشاكل الناس في المساجد والمنتديات العامة، دون أن يكون الحاكم هو مصدرهم في التشريع.
أمَّا عن مركَّب “الدولة القومية” فيرى البشري أن القومية ليس المشكلة لأنها تتعلَّق بأساس تكوين الدولة على معنى قومي. ومن ثم يجب أن نميِّز بين الدولة كجهاز تنظيمي يحكم جماعة معيَّنة، وبين الجماعة السياسية التي تحكم وفقًا لتنظيم أو لآخر. القومية معيار لتشكُّل الجماعة السياسية أي جماعة المحكومين، والدولة تتعلَّق بالجهاز الذي يحكم ويدير شؤون الجماعة السياسية. فصفة القومية لا تتعلَّق بأساليب تشكُّل جهاز الدولة، إنما تتعلَّق بنطاق تكوُّن الجماعة السياسية كانتماء مشترك عام يربط بين أناسها. والدول تتكوَّن إمَّا على أساس الهُوية الواحدة، أو اللسان الواحد، أو الحدود القطرية بشرط قيام عنصري الوحدة الجغرافية أو التقارب الجغرافي مع الاتصال التاريخي الذي يتشكَّل به الإحساس بالانتماء لهذه الجماعة. إن الجموع الشعبية ومعايير التصنيف التي تخضع لها هي التي تشكِّل الجماعة، أمَّا الدولة فهي جهاز تنظيمي حاكم له ولاية عامة على الناس. وتشكُّل الجهاز التنظيمي واختصاصه باتخاذ القرارات وتنفيذها هو أمر تنظيمي بحت، ومعايير كل من الأمرين متميزة تمامًا عن الآخر(35).
ومن ثم كان البشري يرى أن الدولة بالأساس هي جهاز تنظيمي وإداري، وأما فكرة استيراد النموذج (نموذج الدولة القومية) فلم يَرَ البشري أن هذه هي مشكلة الدولة في العالم العربي. فمفهوم الدولة يتعلَّق بالجهاز والتنظيم الذي تضمُّه الجماعة ليحكمها وينظِّم شؤونها، ويتعلَّق بإدارة شؤون جماعة سياسية معيَّنة. والأصل في الدولة أنها نتاج هذه الجماعة السياسية؛ بمعنى أن الجماعة السياسية تتحدَّد تاريخيًّا بانتماءٍ شعبيٍّ يجمع بين من يتَّصفون بالوصف الذي يقوم به رباط وأساس هذه الجماعة، وهذا له أوضاعه التاريخية، فيمكن أن يكون أساس الجماعة التجمُّع العقيدي، ويمكن أن يكون أساسها التجمُّع اللغوي، ويمكن أن يكون أساسها عوامل جغرافية أو عوامل قبلية، وكلُّ ذلك ينشأ في ظروف تاريخية معيَّنة. وهذه الجماعة تتشكَّل وتتكوَّن لإدارتها أجهزة أو جهاز هو «الدولة» ليقوم أساسًا بوظيفتين أساسيَّتين: أولاهما: حفظ أمنها في مواجهة مخاطر الخارج عليها، وثانيًا: حفظ علاقة التوازن بين الانتماءات الفرعية التي توجد داخل هذه الجماعة السياسية لبقاء حاكمية الجماعة السياسية نفسها(36).
ومن ثم فكونها دولة قومية ليست هي مشكلة الدولة في العالم العربي، وإنما مشكلتها أنها “دولة استبدادية”، بمعنى أنها تقبض -كجهاز واحد- على كل السلطات والإمكانيات، ولا تُتيح لأي جماعة فرعية أن تنظِّم نفسها في حدود التنظيمات الفرعية، ولا تتيح لغيرها معارضتَها من داخلها (أي من داخل الجماعة القطرية)؛ وهذا هو الاستبداد. وهذه الدولة تقف دائمًا في مواجهة أي محاولة لإنشاء أية تكوينات خاصة أهلية تنظِّم الشؤون المحلية والأهلية لكلِّ الجماعات الفرعية، فضلًا عن أن تستطيع تلك التكوينات أن تواجه الدولة كمعارضة لمن يقبضون على الدولة أو مؤسساتها أو تحل محلَّ من يقبضون عليها. ومن ثم فمشكلة الدولة هي الاستبداد. الجهاز الحكومي فيها تكوينه هيكليًّا استبدادي؛ فهو جهاز حاكم مغلق على نفسه يختار رجاله ويدربهم في إطار أسلوبه في التعامل مع الناس، بعيدًا عن أي مشاركة شعبية، ورافضًا لتكوين أي تكوينات شعبية مستقلة عنه وخارجة عن سيطرته في التجميع والتشكيل والتقرير. كما يرفض تمامًا تكوين أي تنظيمات أهلية يكون لها الاستقلالية في تجميع أعضائها، وتشكيلهم لتكوينات مؤسسية، وتقريرهم بأنفسهم ما يتعلق بشؤونهم الذاتية؛ لكي يكون هو وحده -جهاز الدولة- المسيطر على كل هذه الفعاليات التنظيمية؛ رافضًا إنشاء أي تنظيم آخر بعيدًا عن سيطرته. ومن ناحية أخرى فإن الدولة في العالم العربي ليست دولة قومية، وإنما دولة قطرية(37).
هذه إذن هي الدولة القومية كما فهمها البشري وطرحها وتعامل معها فكريًّا وواقعيًّا، فماذا إذن عن علاقتها بالشريعة؟
ثانيًا: الدولة والشريعة في فكر البشري:-
يفهم البشري الشريعة الإسلامية في إطار المنظومة المفاهيمية للعلوم الشرعية، فيقول: الشريعة الإسلامية هي الأحكام المنزلة من الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والتي وردت في القرآن الكريم وفي السُّنَّة الصحيحة. والقرآن هو كلام الله المنزل على نبيه محمد، والذي يضمُّه المصحف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، والذي انتقل إلينا بالتواتر جيلا عن جيل، محفوظًا من أي تغيير أو تعديل، مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)([38]) والسُّنَّة هي كل قول أو فعل أو تقرير وَرَدَ عن رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع والاقتداء(39).
والقرآن كله ثابت ثبوتًا يقينيًّا لا يأتيه الشَّكُّ أبدًا، والسُّنَّة منها ما هو ثابت ثبوتًا يقينيًّا لنزولها إلينا بالتواتر، مثل حركات الصلاة وعدد ركعات كل منها، ومنها ما يثبت بالظن الراجح، أي ثبوتًا أقل من ثبوت القرآن والسُّنَّة المتواترة. ونصوص القرآن والسُّنَّة بعضها قطعي الدلالة لا يرد الخلاف بين العقول حول الحكم المقصود من النص، وبعضها ظني الدلالة، أي يمكن أن تتباين العقول في إدراك معانيه. وأحكام القرآن والسُّنَّة لها وضع إلهي، وهي لا يطرأ عليها تغيير ولا تبديل. وهذه الأحكام هي المقصودة بالشريعة الإسلامية، وهي تشمل جملة ما يتضمَّنه الإسلام من أصول حاكمة للعقيدة الإسلامية وللعبادات ومعاملات البشر(40).
وهو بهذا التعريف يتغيَّا تمييز الشريعة عن الفقه، فالفقه كما عرَّفه هو اجتهادات البشر في إدراك أحكام الشريعة، وفي استخلاص المعاني المقصودة ووصل تلك الأحكام بأحوال البشر في كل بيئة، أي هو اجتهادات العلماء في إدراك معاني النصوص، والتفريع على الأصول العامة الواردة بالقرآن والسُّنَّة، وتطبيق النصوص الثابتة التي لا تتغيَّر على أحوال البشر المتنوِّعة، ووقائعهم المتغيرة مع تغير الأزمان والأمصار. وهذه الاجتهادات ذات وضع بشري تحتمل الخطأ، وتحتمل التغيُّر والتنوُّع مع اختلاف البيئات والأحوال. وهي كلها تتعلَّق بتفاصيل الأحكام وبفروع المسائل. هذا فارق نظري يتعيَّن ملاحظته بدقَّة عند النظر في الأحكام، وعندما نتدبَّر عنصر الثبات فيها، ووجوه التغيُّر والاختلاف. فالشريعة ثابتة، وهي ذات وضع إلهي، وأحكامها ونصوصها لیست تاريخية، بمعنى أنها ليست نتاج تاريخ الإنسان، وأنها ليست من الأحداث التي تُرَدُّ إلى أسباب حادثة، وتتغيَّر بتغيُّر أحوال البشر عبر مراحل التاريخ. والفقه من حيث اجتهاد الفقهاء والمفكرين يمكن أن يَرِدَ عليه التنوُّع والتغيُّر بتغيُّر الزمان والمكان. فهو ذو وضع تاريخي واجتماعي، كما يَرِدُ عليه احتمال الخطأ؛ بحسبانه من جهد البشر(41).
وبعد هذه التفرقة المفاهيمية بين الشريعة والفقه، يتَّجه البشري لتفرقةٍ تاريخيَّةٍ مهمَّةٍ، فيقول: إذا نظرنا إلى عهود الإسلام في تاريخنا منذ بعث النبي بالرسالة حتى يومنا هذا؛ نجد أن هناك عهدًا ليس كالعهود، وهو يتميَّز عنها تميُّزًا جوهريًّا، وذلك هو عهد الرسالة وما تلاه في زمان الخلفاء الراشدين، تلك الفترة التي لا تتجاوز نصف القرن بكثير. إن الفارق الأساسي بين عهد الصدر الأول هذا وبين ما تلاه من عهود، يتعلَّق بأن العهد الأول هو عهد «الشريعة»؛ أي عهد تأصيل الشريعة، بينما أن كل ما تلا ذلك من عهود فهي عهد «تطبيق الشريعة» أي عهود الفقه. العهد الأول يضم -فيما يضم- «الوعاء الزمني» لرسالة الإسلام، وأن ما به من نقاء وصفاء إنما يرد من هذا الوضع، ومن أنه كان «وعاء» النصوص. والنص -دائمًا- «مثال» يستمدُّ مثاليَّته من ذاته، وليس من غيره، فهو قائد وليس مقودًا، وهو حاكم وليس محكومًا. أمَّا مَا بعد ذلك من عهود وأزمان، فهي تاريخ من التاريخ، وما حدث فيها تجارب من تجارب المجتمعات والبشر يؤخذ منها ويُرَدُّ حسْب الحاجة والمصلحة(42).
كان الفقه إذن منتجًا اجتماعيًّا ينمو ويتطوَّر بواسطة عمل أهلي شعبي بعيدٍ عن نشاط الدولة وأجهزتها، وكان العلم يعلَّم في المساجد بالدعوة التلقائية وبالعمل التلقائي ويظهر المجتهد بالاعتراف العام الذي يكسِبه بعلمه وتدريسه ومناظرته، وهو اعتراف عام يرد له من أهل المعرفة بهذه الأمور، والناس تسعى إلى من تتوسَّم فيه الصلاحية للفتوى فيستفتونه، والعلماء يتبادلون العلم والمعرفة بالمجادلة والمناظرة. وبهذا النشاط “الأهلي” غير الرسمي وغير الحكومي ترسو مبادئ الاجتهاد وتظهر. ثم هي مع درجةٍ ما من درجات القبول العام لدى العلماء تستقرُّ وتصير كالأوضاع المعترف بها جزءًا من نسيج الهيكل التشريعي للجماعة، من حيث إنه يضبط تصرفات الأفراد ومعاملاتهم، ومن حيث إن له وجه إلزام على سلطات الدولة بحسْبانه حكم الشريعة فيما تقرَّر من الأمور([43]). هذا يعني أن الواقع الإسلامي كان يشهد عملية اجتهاد مستمرَّة تحقِّق إشكالًا من التجديد ومراعاة ما يستجدُّ من نوازل ومتغيِّرات.
غير أنه منذ القرن التاسع عشر، تساوقت عناصر ثلاثة كان من شأن تفاعلها حدوث الاضطراب في البناء التشريعي وهياكله وأنساقه في أقطار العالم الإسلامي. لم يكن واحد من هذه العناصر وحده هو مصدر الاضطراب، ولكن تضاربها معًا -على الصورة التي حدثت في الظروف التاريخية الملموسة- هو ما أشاع الفوضى في هذا المجال. أول هذه العناصر كان جمود الوضع التشريعي الآخذ عن الشريعة الإسلامية، وهو الوضع الذي انحدر إلينا من قرون الركود السابقة، حسبما آلتْ إليه الأوضاع الاجتماعية السياسية وقتها. وليس المقصود بالجمود هنا الشريعة الإسلامية -بحسبانها الأصول المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة- ولكن المقصود هو ما آل إليه الجهد الاجتهادي في تلك الأحكام من جمود(44).
وثاني هذه العناصر، ما أوجبته أوضاع الصحوة الاجتماعية والسياسية، من طروء الحاجة الماسة لإصلاح الأوضاع والنظم وتجديدهما، الأمر الذي يستوجب إصلاحًا وتجديدًا مناسبين في الهياكل والنظم التشريعية. وليس الإصلاح في ذاته مدعاة للاضطراب، إنما أسلوب الإصلاح هو ما أفضى إلى ذلك. إذ اتخذت برامج النهوض -سواء على أيدي سليم الثالث ثم محمود الثاني في إستانبول، أو على يدي محمد علي في القاهرة- طابعًا ازدواجيًّا، تأتَّى من إبقاء القديم على ركوده وإنشاء الحديث بجانبه وعلى غير انبثاق منه ولا تفاعل معه؛ يظهر ذلك في المؤسسات التعليمية والقضائية ونظم الإدارة والقانون والاقتصاد. وكان هذا مما انصدعت به البيئة الاجتماعية والفكرية إلى شطرين متميزين، ولا تزال آثار انصداعها العميقة تعمل عملها إلى الآن. وثالث هذه العناصر هو الغزو الأوروبي السياسي والاقتصادي ثم العسكري(45).
وعلى هذا يرى البشري أن النفاذ التشريعي للتشريعات الغربية التي أخذت تحلُّ محلَّ التشريع الإسلامي، قد بدأ بالظهور واضحًا من عام 1839 مع ما أطلق عليه “خط جلخانه” الذي أعلنه السلطان عبد المجيد فور تولِّيه الحكم بعد وفاة أبيه، وفور هزيمة الجيش العثماني أمام قوات محمد علي في الفترة ذاتها. وأطلق على هذه المرحلة مرحلة التنظيمات واستمرت حتى عام ١٨٧٩، بعيد تولي السلطان عبد الحميد الثاني حكم الدولة العثمانية في ١٨٧٦. وعلى مدى رحلة التنظيمات اطَّرد صدور القوانين ونظم المحاكم الآخذ عن التشريعات الغربية، والفرنسية منها على وجه الخصوص، وصدرت مجموعات للقوانين وأنشئت محاكم اقتطعت مجالات كثيرة للتعامل من هيمنة الأحكام الشرعية ومن ولاية القضاء الشرعي، وفي ١٨٤٧ أنشئت محاكم مدنية وجنائية مختلطة من قضاة محليِّين وأجانب، وفي ١٨٥٠ صدر قانون تجاري مأخوذ من القانون الفرنسي وأُنشئت محاكم تجارية عن التشريعات الفرنسية، وفي ١٨٦١ صدر قانون للإجراءات التجارية، وفي ١٨٦٣ صدرت مجموعة القوانين التجارية البحرية، وفي ١٨٦٧ مُنِحَ الأجانبُ حقَّ تملُّك العقارات، وفي ١٨٦٩ أعيد تنظيم المحاكم النظامية الجديدة، وفي ۱۸۷۹ فُصلت دعاوى الأراضي عن المحاكم الشرعية(46).
وفي مواجهة حركة التغريب هذه ظهرت حركة “تقنين الشريعة” كردِّ فعل لوضع تشريعات آخذة عن الشريعة الإسلامية. وظهرت مجلة «الأحكام العدلية» التي أعدتها لجنة من سبعة علماء في “إستانبول” برئاسة أحمد جودت باشا في الفترة من ۱۸٦٩ حتى ١٨٧٦. وقد اقتصرت المجلة في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية على المعاملات، وأبقت مسائل الأحوال الشخصية بعيدة عنها، وذلك لاختلاف الملل والطوائف والأديان في سائر أقطار الدولة العثمانية، وأخذ غالب أحكام المجلة من المذهب الحنفي السائد في الغالب من الأقطار، ومع صدور المجلة تأسَّس معهد حقوقي عال عُيِّنَ للتدريس فيه بعض أعضاء اللجنة التي أعدَّتها.
كما صدرت مجلة للجنايات والأحكام العرفية في تونس في ١٨٦١ آخذة في الغالب من المذهب المالكي السائد في المغرب العربي، ثم صدرت في تونس أيضًا مجلة جديدة عن الالتزامات والعقود في سنة ١٩٠٦ مستقاة من العديد من مذاهب الفقه الإسلامي، ولكن مجلة «الأحكام العدلية» العثمانية هي ما حقق انتشارًا واسعًا وشيوعًا وإحياء لفقه الشريعة الإسلامية على المذهب الحنفي في سائر أقطار المشرق العربي، وبقيت لها آثار على مدى قرن من الزمان، وخاصة في لبنان والأردن والكويت وفلسطين، كما بقيت في العراق، ثم حمل التقنين العراقي الجديد أثرًا واضحًا لها منذ منتصف القرن العشرين(47).
غير أن عملية تقنين الشريعة هذه ما لبثتْ أن فشلتْ مع توغُّل الاستعمار وسيطرة بريطانيا وفرنسا على معظم الدول العربية، وظهور تعدُّدية في المحاكم والأنظمة القانونية (محاكم مختلطة وأهلية وقضاء شرعي)، وهو ما انتهى في النهاية إلى توحيد الأنظمة القانونية وتبنِّي القوانين الغربية بشكل كامل واضح واستبعاد الشريعة أو حصرها في مجال الأحوال الشخصية في أحسن الأحوال. ومن تلك اللحظة أصبح مطلب “تطبيق الشريعة” مطلبًا مُلِحًّا ينادي به الكثير من أبناء الدول الإسلامية، وكان في أول الأمر مطلبًا قانونيًّا مرتبطًا بفقهاء القانون والدستور. ثم ما لبث أن أصبح مطلبًا سياسيًّا مرتبطًا برغبة حركات سياسية في الوصول إلى الحكم. وقد كان من شأن انتقال هذا المطلب من الإطار القانوني إلى الإطار السياسي، أن استحدث الخصومات السياسية والصراع السياسي بين الحركات المنادية به والدولة نفسها.
ملاحظات ختامة:
تبيَّن من الطرح المتقدِّم أن كلًّا من حلاق والبشري ينطلقان من خلفيات منهجية وفكرية شديدة التباين، أُثَّرت ووجَّهت طرح كل منهما حول مسألة “الدولة الإسلامية”، فبينما يخرج حلاق من التقليد الاستشراقي الأكاديمي الغربي “حتى وإن كان ينتقده” يخرج البشري من السياق الفكري العام العربي والإٍسلامي الواقعي. وكذا يتَّضح الفارق الكبير بين المنهج النقدي الراديكالي الذي يتناول به حلاق مسألة الدولة الحديثة خصوصًا والحداثة الغربية عمومًا. وبين منهج البشري الواقعي والتاريخي الذي يعمد إلى قراءة التاريخ لفهم الواقع. ولا يمكن أن نغفل في هذه النقطة إلى من يوجِّه كل من الطرفين خطابه، فحلاق يخاطب بالأساس جمهورًا مدرسيًّا مهتمًّا بالدراسات الإسلامية وغيرها، بينما يخاطب البشري جمهورًا أوسع من المثقفين العرب، ولعل هذا أحد أسباب اختلاف اللغة والمناهج التي يستخدمها كل منهما.
إن التضاد والاختلاف بين الطرحين والذي يسمح لنا بأن نصفهما باتجاهين متعاكسين، لا ينفي وجود تقاطعات وتوافقات بينهما؛ وخاصة في فهم الطرفين لعلاقة الشريعة بالمجتمع المسلم قديمًا، وبدور الاستعمار والتغريب في تحويل العالم الإسلامي وتنميطه على الشاكلة الأوروبية. وكذا يتفق الطرفان على أن الشريعة الإسلامية غير قائمة في الواقع، إلا أن سبب هذا يختلف اختلافًا جذريًّا بينهما، فيرى حلاق أنها غير قائمة لأن هذا غير ممكن بأي حال، بينما يرى البشري أنها غير قائمة لأسباب سياسية تعلق بالقائمين على السلطة في الدول العربية، وأن مشروع تطبيق الشريعة ممكن إذا سمحت به الظروف السياسية.
لم تُعن هذه المقارنة بالمفاضلة بين أطروحتين، وإنما عُنيت في المقام الأول بالفهم والنظر، خاصة أن موضوع الدولة الإسلامية كان ولا يزال واحدًا من أهم الموضوعات التي تشغل العقل العربي والمسلم المعاصر، ولا تزال مسألة محل جدل واسع واختلاف شديد بين كافة التيارات السياسية والفكرية.
المصدر: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 29 ديسمبر 2024، https://2u.pw/uU0cnxek
_______________________________
الهوامش:
* مدرس مساعد بقسم العلوم السياسية- كلية التجارة- جامعة حلوان.
** باحثة في العلوم السياسية.
(1) صلاح سالم زرنوقة، الاتجاهات الحديثة في دراسة الدولة: الجوانب البنيوية، مجلة النهضة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، العدد2، أبريل 2006، ص 3.
(2) نزيه الأيوبي، العرب ومشكلة الدولة، (بيروت: دار الساقي، 1992)، ص ص 23-24.
(3) نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة: أمجد حسين، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2010)، ص51.
(4) عبد الإله بلقزيز، رضوان السيد، أزمة الفكر السياسي العربي، (دمشق: دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 2006)، ص 52.
(5) المصدر السابق، ص 52.
(6) طارق البشري، منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، (القاهرة: دار الشروق، 2005) ص13.
(7) علي أومليل، الاصطلاحية العربية والدولة الوطنية، (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 1985)، ص ص 88-89.
(8) حامد ربيع (مقدمة)، في شهاب الدين بن الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، تحقيق وتعليق: حامد ربيع، (القاهرة: دار الشعب، 1980)، ص16.
(9) نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة ومنهجية دراسة النظم السياسية العربية، (فيرجينيا: جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، 1998)، ص82.
(10) المصدر نفسه، ص ص101-105.
(11) وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الثالثة، 2015)، ص19.
(12) سجالات “الدولة المستحيلة”: ردود وتعقيبات – حوار مع وائل حلاق، حاوره: عثمان أمكور، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 25 نوفمبر 2022، متاح عبر الرابط: https://2u.pw/MEPS2bxV.
(13) وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مصدر سابق، ص ص 40-41.
(14) المصدر نفسه، ص63.
(15) سجالات “الدولة المستحيلة”: ردود وتعقيبات – حوار مع وائل حلاق، مصدر سابق.
(16) المصدر السابق.
(17) المصدر نفسه.
(18) وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مصدر سابق، ص68.
(19) المصدر السابق، ص70.
(20) المصدر السابق، ص71.
(21) المصدر نفسه، ص ص74-75.
(22) المصدر نفسه، ص78.
(23) المصدر نفسه، ص ص 81-82.
- الممارسة الخطابية: مفهوم مركزي عند ميشيل فوكو، استخدمه في تحليله لمفهوم الخطاب، وهو مصطلح إبيستيمولوجي يعرفه فوكو بأنه: «مجموعة من القواعد الموضوعية والتاريخية المعينة والمحددة دوما في الزمان والمكان، والمحددة في فترة زمانية بعينها، وفي نطاق اجتماعي واقتصادي وجغرافي معين. إن فوكو غير معني إذن بالخطاب بما هو كذلك، وإنما بالممارسة الخطابية، أي: مجموعة القواعد الموضوعية تماما؛ المحددة في زمان بعينه ومكان بعينه وشروط اجتماعية واقتصادية بعينها، التي تحدد إنتاج هذا الخطاب. ويقابلها الممارسة غير الخطابية، كتلك المتعلقة بموضوعات غير خطابية كالسلطة مثلا أو الطب أو السجن. حلاق هنا وضدا على اختزال الشريعة في صورة نص قانوني ينظر إلى الشريعة بوصفها ممارسة خطابية، أي: قواعد متغلغلة في السياق الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي عاشت فيه. انظر هامش (1) للمترجم في، وائل حلاق، ما هى الشريعة، مصدر سابق، ص28.
(24) وائل حلاق، ما هى الشريعة؟، ترجمة: طاهرة عامر وطارق عثمان، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2016)، ص29.
(25) المصدر نفسه، ص 30.
(26) المصدر نفسه، ص ص 75-80.
(27) المصدر السابق، ص ص101-102.
(28) سيف الدين عبد الفتاح، المجتمع المدني والأهلي من منظور إسلامي بين الفكر والممارسة، في سيف الدين عبد الفتاح والحبيب الجنحاني، المجتمع المدني وأبعاده الفكرية، (دمشق: دار الفكر العربي، 2003)، ص ص 122-123.
(29) طارق البشري، اجتهادات فقهية، (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2017)، ص199.
(30) المصدر السابق، ص ص 200-201.
(31) المصدر السابق، ص ص 202-203.
(32) طارق البشري، منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، (القاهرة: دار الشروق، 2005)، ص 57.
(33) المصدر السابق، ص58.
(34) المصدر نفسه، ص61.
(35) مدحت ماهر (محاور)، حوارات مع طارق البشري: سيرة معرفية بين الذات والأمة، (القاهرة: دار البشير، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2020)، ص384.
(36) المصدر السابق، ص386.
(37) المصدر السابق، ص 387.
(38) سورة الحجر: 9.
(39) طارق البشري، اجتهادات فقهية، مصدر سابق، ص38.
(40) المصدر نفسه، ص39.
(41) المصدر نفسه، ص ص 29-40.
(42) المصدر نفسه، ص43.
(43) طارق البشري، منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص ص 60-61.
(44) طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، (القاهرة: دار الشروق، 1996)، ص5.
(45) المصدر السابق، ص6.
(46) طارق البشري، السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2011)، ص21.
(47) المصدر السابق، ص22.